جاء في حديث الشفاعة الطويل عند البخاري قول أهل الموقف لنوحٍ عليه السلام: “يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض”. وظاهر الحديث يفيد: أنَّ آدم عليه السلام لم يكن رسولاً، والصحيح أنَّ آدم نبي ورسول، فنوح عليه السلام هو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد أن وقع الاختلاف بين بني البشر في التوحيد، فكفر بعضهم، وبقي البعض الآخر على الإيمان، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ (البقرة: 213)، إذن: فالأولوية المذكورة في حق نوح عليه السلام مقيَّدة بما بعد وقوع الاختلاف، فلا ينافي ذلك نبوة آدم عليه السلام، فإنه أرسل إلى أولاده فقط، ولم يكن بينهم خلاف في توحيد الله وعبادته وحده دون غيره)قصة نوح عليه السلام ص 25)

وقولهم له: “يا نوح أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض”: يحتج به على أن نوحا أول الرسل وأن آدم نبي مكلم فقط، ولو صح أنه رسول فالمعنى أنه رسول إلى ذريته بخلاف نوح فإنه أرسل إلى قومه وهم أهل الأرض ذلك الوقت، أما آدم فإنه أرسل إلى ذريته بشريعة خاصة قبل وقوع الشرك وفي قول أهل الموقف في شأن نوح “أنت أول الرسل إلى أهل الأرض” يفيد أن رسالته كانت عامة للناس كافة، وهذا معارض بقوله : “أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: … فذكر منها: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة.

فقد أجيب بأجوبة متعددة منها: كون نوح عليه السلام أرسل إلى أهل الأرض إنما هو باعتبار أن قومه هم وحدهم كانوا أهل الأرض، ولم يكن يومها على الأرض غير قومه، فلا ينافي خصوصية رسالته بقومه، وهو المدلول عليه بصريح قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾ (الأعراف: 59).

فنوح عليه السلام أرسل إلى قومه وهم في ذلك الوقت أهل الأرض جميعاً، بعد وقوع الشرك في الأرض، وبذلك لا يبقى تعارض بين كون آدم رسولاً وبين كون نوح هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض  )بن باز، مجموع فتاوى ، 3/32.).

نوح عليه السلام الأب الثاني للبشر:

نوح عليه السلام هو الأب الثاني للبشرية بعد آدم عليه السلام، وهذا محل اتفاقٍ بين العلماء من أهل الإسلام لقوله سبحانه وتعالى: ﴿جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ (سورة الصافات: 77). وإنّ الفصل بين المفعولين بضمير الفصل يفيد الحصر، أي لا باقي من البشر في الأرض بعد نوح إلا ذريته، وهذا النص القطعي في ثبوته يدل بوضوح أن البشرية التي وُجدت بعد نوح عليه السلام هي من ذريته، وهو شرف اختُصَّ به نوح بعد آدم، فلنوح عليه السلام حق الأبوة على كل كائن بشري من بعده إلى يوم قيام الساعة.

وهناك إشكال يرد على كون نوح أبا البشر بعد آدم عليه السلام، ويتمثل ذلك في المراد بقوله تعالى: “ومن آمن”، في قوله تعالى: ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ﴾ (هود: 40).

يُفهم منه أنه آمن به عدد من الناس من غير أهله لأن قوله: “ومن آمن” عطف على أهله، والعطف في الأصل يقتضي المغايرة، كما أشرنا إليه سابقاً، ومعلوم أنه آمن بنوح عليه السلام من غير أهله عدد قليل، وغالبيتهم من الضعاف والطبقات الدنيا في المجتمع، وهم اللذين سماهم الملأ من قوم نوح بالأراذل، والله لا يختار نبياً ممن هو في نظر القوم من الأراذل، وإنما يختار الأنبياء ممن لا مطعن في نسبهم، ولا في سيرتهم، والآية تدل على أنه قد نجا من الغرق غير أهله، وبالضرورة يكون منهم النسل، فإذا كان ذلك، فكيف يصير جميع الباقين من ذرية نوح عليه السلام؟

والجواب على هذا الإشكال يكون من وجهين:

الجواب الأول: إن قلنا إن جميع من كان معه في السفينة هم من أولاده انتظم أن نوحاً عليه السلام هو أب البشر كلها، وسمي لذلك آدم الأصغر، وقد حكى الرازي عن بعض المفسرين، أنهم قالوا لم يكن في سفينة نوح إلا من كان من نسله وذريته، فعلى هذا القول، فلا إشكال في أن البشر بعد نوح إنما توالدوا منه ومن أولاده، وعلى هذا قوله تعالى:”ومن آمن” المراد بهم أيضاً أهله، فيكون من إطلاق العام وإرادة الخاص. (قصة نوح عليه السلام، المرجع السابق، ص 23.)

وهذا القول ضعيف مخالف لظاهر القرآن الكريم؛ لأن قوله تعالى: “ومن آمن” عطف على أهله، والعطف يقتضي المغايرة، وعليه فيكون الناجون من الغرق أهله ومن آمن به من غير أهله، وهو الذي عليه جمهور المفسرين.

والجواب الثاني: أن الناجين من الغرق هم أولاده منهم نسل، وإنما الذي بقي منهم نسل نوح عليه السلام، وبهذا صح أن نوحاً هو أبو البشر جميعاً بعد آدم.

قال ابن جرير: قالوا إنما الذي كانوا معه في الفلك قوم كانوا آمنوا به واتبعوه غير أنهم بادوا وهلكوا، فلم يبق لهم عقب، وإنما الذي هم اليوم في الدنيا من بني آدم ولد نوح وذريته دون سائر ولد آدم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ (الصافات: 77).

المصدر:

علي الصلابي، نوح عليه السّلام والطوفان العظيم، ص 87-91.