في زمن الاستقطابات الأيديولوجية، والسجالات المذهبية، والصراعات الدينية والإثنية.. قلما نجد شخوصًا تحلق خارج هذا السرب غير المنتظم في أدائه وسلوكه وسيره وضبابية أهدافه، تحاول أن تقفز على هذه الحواجز التي أرست دعائم الفرقة ودشنت جسورًا من الغربة بين أصحاب المذهب الواحد، واعتلت جدارًا آخر لتدفع نحو الاقتتال والتناطح بين أصحاب المذاهب المختلفة والمتنوعة داخل الملة ذاتها، في مشهد يستدعي مزيدًا من التأمل والتدبر.. ويبقي السؤال “ألا يزال هناك من يتحلى بالعقل والحكمة في أزمنة الغلو والتكفير والطائفية”؟!

بالمقاربة لذلك الطرح، كان السيد “هاني فحص” أكبر تجسيد لذلك في أسمى معانيه، وهو رجل الدين الشيعي المذهب، السني الهوى، الصوفي الطريقة، الإنساني المسلك، الحداثي المبتغى والمراد، أحد أبرز رجالات الفكر والرأي في لبنان، الذي وافته المنية مؤخرًا إثر مضاعفات صحية عن عمر يناهز 68 عامًا، كان خلالها مثار جدل ولغط كبيرين وسط بيئته المذهبية وخارجها .

ينتمي السيد فحص إلى الجنوب اللبناني بطبيعته الجغرافية المتعرجة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي أهلته لأن يكون مسرحًا لأحداث المقاومة المهمة على مدار عقود مضت ولازال، خاصة مع تركيبته المجتمعية الأكثر تعقيدا، ولد الفقيد في بلدة جبشيت 1946 إلى أسرة ريفية متوسطة، و انتقل منها بعد أن أتم تعليمه التكميلي مباشرة صوب النجف العراقي، كشكل تقليدي اعتادت عليه غالبية الأسر الشيعية في الجنوب، وهي المدينة العراقية الشهيرة بالحوزات الدينية التي هي إحدى خصائص المدرسة المذهبية الشيعية وأقوى أدواتها العلمية، وما بين (1963-1972) درس فحص اللغة العربية والعلوم الإنسانية في كلية الفقه هناك حتى نال الإجازة بها ليعود إلى الجنوب مرة أخرى، وينطلق نحو فضاءات أخرى غير تقليدية تبعد عن أجواء الحوزة.. والتي لا يُرى خلالها سوى أتباع المذهب وحسب.

انخرط “فحص” وسط رجالات حركة فتح الفلسطينية، مقتنعًا بأطرهم وآلياتهم المقاومة ضد الكيان الإسرائيلي، نظرًا لتواجد مكتبهم في لبنان آنذاك، دون التقيد بالمذهب أو تقديم الإيديولوجية على الانضواء تحت ألويتهم القريبة من الدوائر اليسارية، حتى وإن كانت سنية، فكانت بمثابة أولى تجاربه الحزبية المهمة في حياته، والتي انتقل بعدها مباشرة إلى التفاعل الجدي مع “حزب الله” الخارج من رحم الطائفة بعد خفوت نجم “فتح” وسطوع نجم المذهبية.

كان الفقيد كثير الحراك ويتمتع بحيوية عالية نابعة من ذاته التواقة لأي إنجاز خالعًا عنه رداء الأيديولوجية التي قد تحجمه أو تضعه في إطار من القيد يصعب فكاكه، ما أهله أن يكون عضوًا في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني وسعى من خلال تواجده القوي بالساحة السياسية إلى خوض الانتخابات البرلمانية، إلا أنه ولاعتبارات أيديولوجية دائمًا ما كانت تلاحقه فضلا عن مواقفه السياسية والحزبية التي لا تلقى قبولا عند بعض الأوساط تجاه مواقف وسياسات منتمين للطائفة, دائمًا ما كانت تعرقل وصوله وتحقيق أي إنجاز يذكر في تحقيق ما يربو إليه، ولم يثنه ذلك في أن يكون عضوًا في أعلى مرجعية شيعية بلبنان “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” وهو ما دفع الكثيرين نحو التباين في فهم مواقفه التي تحاول الجمع بين اليمين واليسار، ويرونها متناقضات، وهنا تكمن فطنة الرجل وحكمته .

شيئا فشيئا اشتهر الرجل وذاع صيته بين العامة والخاصة على حد سواء غزاة تواصله المجتمعي الدؤوب، فضلا عما مثله اهتمامه بحوار الأديان من توطيد علاقاته برجال الدين المسيحيين وغيرهم من أصحاب الملل والنحل الأخرى، والتي كانت محور انفتاحه على الآخر فبادلوه بالمثل، إلا أن النقطة الأصيلة في مرتكزاته الفكرية كانت رؤيته ومنهجيته الداعية لمقاربة الإسلام لمواضيع الحداثة، ففي حواره مع الكاتبة ريتا فرج بصحيفة السفير اللبنانية، قدم “فحص” رؤيته للإسلام وللأديان بشكل عام من خلال تأكيده على أنهما يرتكزان في أساسهما على ما أسماه بآليات الحوار والتثقف والاندماج، لكون الدين الإسلامي يدعو ويلزم بضرورة العمل على الوحدة لا التجزئة، وبطبيعة الحال رأى “فحص” أن الوحدة لا تؤدي إلى إلغاء التعددية، بل على العكس تسعى إلى الإسهام في تجلي التوحيد الذي يجمع الأديان، وأن الإسلام تبعا لذلك يدعو إلى الحوار والتثقيف”.

انتقد الرجل الرؤية الماضوية غير القابلة للتحديث لدى المرجعيات الإسلامية – (بشقيها السنى والشيعى)- والدينية على حد سواء، ودعاها إلى ضرورة أن تعمل على إدخال التحديث في دراستها للنصوص الدينية، لأنها مستقلة ومتحررة ولا تخضع للجمهور، مع ضرورة الانفتاح على العلوم الجديدة كالإنثروبولوجيا والفنون وعلم الإشارات والعلوم التطبيقية البحتة، فبدونها لا يمكن الولوج إلى خلاصات معرفية جديدة تعمل على تسريع وتيرة الحداثة .

انتقالا مما أثاره داخل الحالة الفكرية الإسلامية وغيرها، إلى السباحة ضد التيار، دفع “فحص” نفسه إلى عوالم شائكة عبر العودة مرة أخرى بعد تحليقه خارج المذهب إلى الهبوط مرة أخرى، ومن ثم الغوص في أعماق الطائفة وإشكالياتها، ما جسدته رسالته الشهيرة الشديدة اللهجة صوب “حزب الله” اللبناني على خلفية دوره في المشهد السوري القائم، والوضع المرتبك هناك والفوضى العارمة، فكانت بلا مجال للشك بمثابة بدايات النفخ في كير الحرب الطائفية وتوسيع رقعتها في المنطقة, بالتوازى مع هجومة الشرس ضد ايران والتي مثلته بدقة رسالته تلك  لحزب الله .

أنكر السيد “فحص” ما أسماه بالاندفاع المبكر لحزب الله المدفوع من إيران إلى الأراضي السورية قبل ظهور “داعش” و”النصرة” عندما كان الحراك شعبيًا محضًا، يحتج بشكل فلكلوري نابع من تراثه ، رأى الفقيد أنه كان بمقدور “حزب الله” أن يكون لاعبًا رئيسيًا في استقرار الأمور وتسييرها بالشكل الذي ينشده الشعب السوري التواق للحرية والفكاك من أدوات بشار القمعية والاستبدادية، التي يعرفها الحزب جيدًا.

فيما رأى الفقيد أن بهذا التدخل المباشر من قبل الحزب خسر قاعدة عريضة وجمهورًا كبيرًا كانا يناصرانه ويدعمانه وكانا حتى وقت قريب مفتونين بالمقاومة، فآثر الحزب أن يكون طرفًا لا أن يبحث عن تسوية تاريخية تبقي على أواصر العلاقة التاريخية بين الشعبين اللبناني والسوري، والذي رآه يشبه الشعوب العربية كافة، وكنتيجة طبيعة لذلك تحول الحزب من مقام الشعوب إلى مقام الأنظمة فضلا عن تبدل مشروعه المقاوم الذي إن لم يمر بالقدس فلن يمر .. كما ورد بالرسالة.

غادر السيد فحص وفي جعبته الكثير، خائفًا على طائفته ومشروع المقاومة في المنطقة ككل ضد الكيان الإسرائيلي الغاصب مادًا يديه لبقية المذاهب، محذرًا من إشعال فتيل الحرب الطائفية، محذرًا حزب الله من مغبة الارتماء في حضن نظام بشار القمعي، ساعيًا نحو ترميم ما لحق بالطائفة في لبنان من مغبة تحول محور الممانعة عن القبلة التي أسس من أجلها وتداعياتها التي ساهمت في الشرخ القائم في بنية المجتمع الإسلامي المتنوع بمذاهبه المتعددة، بعد أن جعل معركته الأصيلة والمصيرية هي “ربط الإسلام بالحداثة عن طريق انتفاء الطائفية والتحليق خارج المذهب”.

خلاصة القول: إن اللحظة الآنية تستدعى من يكمل المسيرة الفكرية التقويمية من داخل الطائفة الشيعية في لبنان، خاصة في ظل تصاعد وتيرة السجال المذهبي في المنطقة، وتمدد الفكر التكفيري بالتوازي مع الغلو البادي لدى بعض التيارات الإسلامية بشقيها السني والشيعي، فالمرحلة تطلب من الجميع (سنة وشيعة) الوقوف صفًا واحدًا للتعلم من تجارب فكرية لم تدخر جهدًا في تصويب أبناء طائفتها والدفع بهم نحو الطريق السليم، فضلا عن تأثيرها الأشمل والأعم في تجديد الإطار الفكري القائم للحالة الإسلامية في عمومياتها وخصوصياتها. التي بات السجال والاقتتال.. العنوان العريض لها في واقعها المعاش.