للصيام معنى في اللغة ومعنى في الشرع؛ ومعناه في اللغة: الإمساك أو الامتناع. فكل ما نمسك عنه أو نمتنع منه، فنحن نصوم عنه.

جاء في “مقاييس اللغة”: الصَّادُ وَالْوَاوُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى إِمْسَاكٍ وَرُكُودٍ فِي مَكَانٍ. مِنْ ذَلِكَ صَوْمُ الصَّائِمِ، هُوَ إِمْسَاكُهُ عَنْ مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَسَائِرِ مَا مُنِعَهُ. وَيَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ صَوْمًا، قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} (مريم: 26)، إِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ وَالصَّمْتِ. وَأَمَّا الرُّكُودُ فَيُقَالُ لِلْقَائِمِ صَائِمٌ، قَالَ النَّابِغَةُ:

 خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ  تَحْتَ الْعَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا ([1]).

وأما معنى الصيام في الشرع فهو: “الْإِمْسَاكِ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ”([2]). أي الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات، مِن طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بِنِيّةِ التقرب والامتثال لأمر الله تعالى.

ويهمنا هنا أن نمضي مع الصيام في معناه اللغوي؛ لنرى أننا بحاجة إلى الصيام عن أشياء كثيرة، بخلاف الطعام والشراب، كما هو معنى الصيام في الشرع.

نحتاج إلى أن نصوم، أي نمتنع، عن جملة من المفاهيم والسلوكيات، التي تضرنا ولا تنفعنا، وتنطلق من الأهواء لا من قاعدة مقررة في الشرع، أو من مبدأ صحيح يستقيم مع الفطرة السليمة!

فنحتاج إلى أن نصوم عن التقاعس عن اتخاذ الأسباب، بزعم التوكل.. وما هو إلا تواكل.. ولو أنصفنا لعلمنا أن الأخذ بالأسباب هو عمل الجوارح، ونحن مطالَبون به؛ ولا يغني عنه التسليم لله والرضا بقضائه، مما هو عمل القلب.. ولا منافاة بين عمل القلب وعمل الجوارح هنا..!

نحتاج إلى أن نصوم عن اتهام الناس دون دليل، والانطلاق في التعامل معهم من سوء الظن.. وكثيرًا ما يخلط البعض بين الحيطة وسوء الظن.. ويبادر إلى الاتهام دون تثبت.. فتسوء علاقاته بالناس، وتصبح حياته شكًا وبغضًا وتوترًا..!

نحتاج إلى الصيام عن الأثرة وحب الذات حبًّا يجعلها تبخس الآخرين حقهم، وتكيد لهم، ولا توفيهم حقهم أو تعترف بفضلهم! إن السماء مليئة بالنجوم، ولا يضر الإنسانَ العاقل أن يرى غيره متوهجًا بجانبه، متميزًا في مجاله.. فلمَ يحسد بعضنا بعضًا؟! ولماذا لا يرى أحدهم إلا ذاته، ويكره أن يتفوق غيره، ويسعى لإيقاع الناس في الخطأ؟!

نحتاج إلى أن نصوم عن التجرؤ على الدين، وإبداء الرأي في أحكامه دون علم، ودون استيفاء الشروط والضوابط؛ فالدين ليس كلأً مباحًا، وإنما هو علم وتخصص كأي علم وتخصص، بل يجب أن تكون له منزلة فوق ذلك؛ فإن من يتقوَّل على الله دون علم يأثم وله عقاب.. فكيف لو كان ذلك مصحوبًا باستهزاء أو طعن أو تجريح.

نعم، حرية الفهم والرأي مكفولة، متى صدرت عمن هو أهل لذلك، أو صدرت على سبيل التساؤل والاستفهام؛ وليس الطعن والاستهزاء.. وإلا، فهل نقبل من غير الطبيب، مثلاً، أن يجري عملية جراحية لمريض، ثم نعذره حين يخطئ ويتسبب في مضاعفة معاناة المريض أو وفاته! إن شأن الدين ليس أهون من ذلك! ودواء عدم المعرفة هو التعلم والسؤال، لا التطاول.

نحتاج إلى أن نصوم عن العشوائية في سلوكياتنا، ليحل محلها التخطيط والدراسة، والانطلاق من قواعد البحث العلمي والمنهجية المنضبطة؛ فنتجنب وقوع المشكلات وتراكمها، ونستطيع أن نسهم بفاعلية في دفع عجلة التنمية والحضارة إلى الأمام.

الحضارات لا تُبنى إلا بالعلم والتخطيط والمنهجية؛ والمعرفة لا تتراكم إلا بهذا، والإنجاز لا يتحقق أبدًا بالعشوائية.. ولنا في الكون الذي خلقه الله تعالى عبرة، وأي عبرة! إنه بناءٌ محكم متقن: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88). فيجب أن يكون “الإتقان” عنوانًا لحياتنا، بما يستلزمه من تخطيط ودراسة.

نحتاج إلى أن نصوم في معاملاتنا عن كل شبهة أو محرَّم؛ فلا رشوة ولا اختلاس ولا غش ولا خيانة؛ وإنما أداء للحقوق، وصون لأموال الناس وأعراضهم، وصدق وأمانة ووفاء.

المعاملات هي الجانب الذي يبين حقيقة الإنسان. وحين يَصْدق الإنسان فيها ويعامل الناس كما يحب أن يعاملوه؛ فإن ذلك يدل على حسن أخلاقه، ويؤكد التزامه الحقيقي بما يزعمه من مبادئ..

نحتاج إلى أن نصوم عن إهمال تربية أبنائنا، بحجة الانشغال في توفير حاجاتهم المادية من الطعام والشراب والنفقات.

إن أبناءنا أمانة في أعناقنا، سنُسأل عما نفعله معهم. و”التربية” مفهوم أشمل من توفير الحاجات المادية، بل إن هذا الجانب هو أسهل وأيسر معانيها؛ أما الأصعب فهو الاهتمام بهم نفسيًا وعقليًا وتربويًا، وملاحظة سلوكياتهم وتعديلها أولاً بأول وبرفق، والحرص على تعليمهم مبادئ الدين وأصول القيم والأخلاق.

الأبناء يواجهون تحديات كثيرة، أصعب من أي زمن مضى، وعلينا أن نعينهم على ذلك، لا أن نتخلى عنهم بحجة الانشغال في لقمة العيش، ونتركهم فريسة سهلة لمنحرفي الأخلاق والضمائر!

نحتاج إلى أن نصوم عن قطع الأرحام والتدابر والغرق في دوامة المشكلات الاجتماعية التي تحدث لأتفه الأسباب؛ لنعيد لعلاقاتنا صفاءها وتراحمها وتشابكها وتساندها.

المجتمع أسرة كبيرة.. عليه أن يحيا بروح الأسرة الواحدة، وأن تشيع فيه قيم السكينة والطمأنينة والتواصل والتراحم: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم ، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى” (البخاري ومسلم).

وشهر رمضان فرصة لتصحيح هذه العلاقات وتمتينها، وإصلاح ما أصابها من عطب ومشكلات.. بتهنئة في الهاتف، أو باجتماع على الإفطار لو أمكن.. حتى يأتي العيد وقد شاع الصفاء والمودة والرحمة بيننا..

نحتاج إلى أن نصوم عن ترديد الشائعات، وندرك خطر الكلمة وعظيم شأنها، ونعرف أن الكلمة قد تخرب بيوتًا وتدمر نفوسًا وتسمم علاقات!

إن اللسان هو أشد الجوارح حاجة إلى الصيام والانضباط! وفي الحديث الشريف: “وَهل يَكبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهِم، أو على مناخِرِهم؛ إلا حصائدُ ألسنتِهم” (الترمذي).

الشائعات دليل على ضعف النفس، وتأصل الشر فيها، واستسهال الخوض في حقوق الناس وأعراضهم، والغفلة عن خطر الكلمة! وهذه آفات ينبغي أن نتجنبها ونحذر منها.

الكلمة وعي ومسئولية، وعلينا أن ننتبه لها ونوجهها الوجهة الصحيحة، ولا نردد قولاً لسنا متأكدين منه، أو نتبنى رأيًا لا نستمده من دليل واضح..

إن للصيام معنى أوسع من مجرد الامتناع عن الطعام والشراب.. بل إن هذا المعنى الشائع هو أيسر معاني الصيام، لو يعلمون..!


([1]) مقاييس اللغة، ابن فارس، 3/ 323. وخَيلٌ صِيامٌ: يريد بصائمة واقفة ممسكة عن الحركة والجولان. والعَجَاجُ : غُبارُ المعركة. وتَعلُكُ اللجُما: أي أسرجت وألجمت، هيئت للقتال وأعدت للحرب.

([2]) المُغني، ابن قدامة، 3/ 104.