الوضعية كمنهج تعني إحدى الطرق التي يتبعها العلماء في الوصول إلى الحقائق العلمية، والمنهج الوضعي فى الوصول إلى الحقائق العلمية هو منهج التتبع والاستقراء، فالمنهج الوضعي يعني بشكلٍ ما المنهج الاستقرائي. وتمثل القواعد الأصولية مجموعة الأدوات اللغوية التي من خلالها يتمكن الفقيه والباحث الشرعي من فهم مقصود الشارع فى خطابه التكليفي ليتعرف على المراد منه على الوجه الصحيح. وقد يبدو للبعض أن القواعد الأصولية قواعد شرعية، لمجرد ارتباطها بعلوم الشريعة، إلا أن حقيقة القواعد الأصولية أنها قواعد وضعية، وجودها سابق على وجود أحكام الشريعة، وقد توصل إليها العلماء عن طريق التتبع والاستقراء.

يقول الإمام القرافي في الفروق “فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفًا وعلوًا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان: أحدهما المسمى بأصول الفقه، وهو فى غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك”.

واللغة في حقيقتها، كما يقول ابن جني في الخصائص، عبارة عن “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”. وذكر أبو الطيب صاحب البلغة ف أصول اللغة أن الطريق إلى معرفة اللغة، إما النقل المحض كأكثر اللغة، أو استنباط العقل من النقل.

وجاء فى كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون أن علم اللغة، علم باحث عن مدلولات جواهر المفردات، وهيئاتها الجزئية التى وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصى، وعما حصل من تركيب كل جوهر، وهيئاتها الجزئية على وجه جزئي، وعن معانيها الموضوع لها بالوضع الشخصي. وموضوعه، جواهر المفردات، وهيئاتها، من حيث الوضع، والدلالة على المعانى الجزئية. وغايته الاحتراز عن الخطأ فى فهم المعانى الوضعية، والوقوف على ما يفهم من كلمات العرب.

ويقرر الشيخ عبد الوهاب خلاف أن هذه القواعد والضوابط اللغوية مستمدة من استقراء الأساليب العربية ومما قرره أئمة اللغة العربية، وليست لها صبغة دينية، فهي قواعد لفهم العبارات فهمًا صحيحًا، مما يعني أنه من الممكن أن يتوصل من خلالها إلى فهم مواد أي قانون وضع باللغة العربية، لأن مواد القوانين الوضعية المصوغة باللغة العربية، هي مثل النصوص الشرعية، في أنها جميعها عبارات عربية مكونة من مفردات عربية ومصوغة في الأسلوب العربي، ففهم المراد منها يجب أن يسلك فيه السبيل العربي فى فهم العبارات والمفردات والأساليب.

وعلى هذا فالقواعد والضوابط التي قررها علماء أصول الفقه الإسلامي فى طرق دلالة الألفاظ على المعاني، وفيما يفيد العموم والخصوص من الصيغ، وفيما يدل على العام والمطلق والمشترك، وفيما يحتمل التأويل وما لا يحتمل التأويل، وفي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وفي أن العطف يقتضي المغايرة، وأن الأمر المطلق يقتضي الإيجاب، وغير ذلك من ضوابط فهم النصوص، وكما أنها تراعى فى فهم النصوص الشرعية، فإنها تراعى أيضًا فى فهم نصوص القانون المدني والتجاري وقانون المرافعات والعقوبات وغيرها من قوانين الدولة الموضوعة باللغة العربية.

ويورد الإمام الغزالى فى الإحياء، أن علوم اللغة ليست من العلوم الشرعية فيقول: “والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية ما استُفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع مثل اللغة.. فعلم اللغة والنحو فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه ، وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية فى أنفسهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع، إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب، وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة”.

فلما كانت هذه هى ماهية اللغة وحقيقتها، فلا إشكال إذن فى تقرير وضعية هذه القواعد الأصولية، لأنها مستمدة بالأساس من استقراء قواعد اللغة العربية التي ثبت وضعيتها وأسبقية وجودها على وجود التشريع الإسلامي.