يوم عرفة من أعظم الأيام عند الله تعالى، ينتظره المسلم بشوق وحب ليؤدي من وقف بعرفة أحد أركان الإسلام، ويفوز من لم يقف بما أعده الله تعالى للصائمين فيه من تكفير سنة ماضية وسنة باقية، ويفرح المؤمنون فيه وبعده بفضل الله تعالى ورحماته التي تتنزل على عباده المؤمنين، لكن كائنا يصاب بالذل والألم في هذا اليوم ،هذا الكائن بيننا وبنيه عداوة قديمة حملته على تمنى الشر لنا والسعي للإيقاع بنا وحرماننا من الجنة ومن رضوان الله تعالى، يصور النبي ﷺ حال الشيطان في يوم عرفة ومشاعره في ذلك اليوم المبارك فيقول : “مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ[مطرود مُبْعد من الخير] وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ» . فَقِيلَ: مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: «فَإِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ[يسوي صفوف] الْمَلَائِكَةَ”(1). فكيف يكون حال الشيطان في يوم عرفة؟
لماذا يتحسر الشيطان في يوم يفرح فيه المؤمنون بفضل الله تعالى ورحمته؟ لأن مهمته الأساسية هي إبعاد الناس عن مواضع الرحمة وسحبهم إلى أودية الهلاك وطرقه، وقد باءت مجهوداته – مع من أكرمه الله تعالى بالوقوف بعرفة – بالفشل الذريع، فها هم واقفون في صعيد عرفات يرجون من الله تعالى الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، وهاهم جاءوا من كل فج عميق تاركين أهلهم وديارهم منفقين الكثير من أموالهم وقد جمعوها بمشقة كبيرة، يتوبون إلى الله تعالى فيتوب الله عليهم ويرحمهم ويعتقهم من النار، وبدلا من أن يكونوا مع الشيطان في جهنم، إذا بهم يصبحون من أهل النعيم لذا فالشيطان يغتاظ ويتحسر.
تمر بهم لحظة صدق وتوبة ورجوع إلى الله، فيمحو الله خطاياهم بل يبدل سيئاتهم حسنات، لقد كانوا قريبين جدا من النار بل كانوا من أهل النار- لو ماتوا على ما هم عليه – لكن الله تعالى أنعم عليهم بلحظة إفاقة من الغفلة فأنجاهم سبحانه من العذاب الأليم.
أما عن الغيظ الذي أصاب الشيطان يوم بدر- وهو أشد من الغيظ الذي يصيبه يوم عرفة – فلأنه رأى ظهور الإيمان، وغلبة الحق وإمداد الله تعالى لعباده المؤمنين بجنود من عنده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، ورأى كذلك ما أصاب الكفار من هزيمة ساحقة لهم ولما يدعون إليه من الباطل، وكل مكان يظهر فيه أثر الإيمان وينتصر الحق ولو جزئيا وكل ضربة موجعة للكفر تحزن شياطين الإنس والجن.
ومشهد آخر يصاب فيه الشيطان بالخزي والذل والشعور بالخيبة ،وذلك حين( دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة ، فأجيب : إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم ، فإنى آخذ للمظلوم منه ، قال : ” أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم الجنة ، وغفرت للظالم ” فلم يجب عشية عرفة ، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل ، قال : فضحك رسول الله صلي الله عليه وسلم أو قال : تبسم ، فقال له أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : بأبي أنت وأمي! إن هذه الساعة ما كنت تضحك فيها ، فما الذي أضحكك ، أضحك الله سنك؟
قال : ” إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي ، أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ، ويدعو بالويل والثبور ، فأضحكني ما رأيت من جزعه)(2).
هذه اللحظات الشديدة التي مرت على الشيطان في يوم بدر وكلما أتى يوم عرفة، تمر على أتباعه أيضا الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون يخيب الله تعالى سعيهم،ويتحسون على ما أصابهم، { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]
ومهما حاولوا طمس الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها فإن الله تعالى يسخر من أوليائه من يزيل هذا الركام، لتنفذ أنوار القرآن الى القلوب ومن ثم تعود إلى الصراط المستقيم.
إن الصراع بين الشيطان والإنسان قديم قدم البشرية، والشيطان واسع الحيلة خبير بمداخل الإنسان وكيفية التأثير عليه، إذا أغلقت أمامه باب سعى لفتح باب آخر لا يمل ولا يكل ،ولكن هل دائما يكون الإنسان هو المغلوب أم من الممكن أن يهزم المسلم الشيطان؟؟!!
يصور لنا النبي ﷺ عددا من الصراعات بين الإنسان والشيطان ،وكان التوفيق فيها حليف للمؤمنين وكانت الهزيمة من نصيب الشيطان فيقول :” إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ، وَدِينَ آبَائِكَ، وَآبَاءِ أَبِيكَ؟ ” قَالَ: ” فَعَصَاهُ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ، وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ ” قَالَ: ” فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ ” قَالَ: ” ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ : هُوَ جَهْدُ النَّفْسِ، وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقَسَّمُ الْمَالُ ” قَالَ: ” فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ ” فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَمَاتَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّةٌ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ [3]
إن الصراع بين الإنسان والشيطان قديم لكن الله تعالى قد تعهد بحفظ عباده فقال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65]
بل إن المسلم قادر بعون الله تعالى على قهر شيطانه، قال رسول الله ﷺ: ” إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُنْضِي شَيَاطِينَهُ، كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بَعِيرَهُ فِي السَّفَرِ[4]أترى البعير القوي القادر على السفر وحمل الأشياء الثقيلة، عندما يرهقه أصحابه بكثرة السفر وتحميله ما لايحتمل، انظر إليه بعد فترة تراه هزيلا ضعيفا.
ولنا أن نتصور معركة بين المسلم والشيطان يستخدم الشيطان فيها كل أسلحته إغواء وتزيينا وتخويفا، فيخوف المسلم من الفقر إن هو أنفق في سبيل الله تعالى، ويشعل نيران العداوة والبغضاء بين الأحبة، ويفرق بين المرأ وزوجه، ويدعوه إلى التكاسل عن الصلوات خاصة صلاة الفجر، ويزين له الإثم ويعده بلذة لم يحصل عليها من قبل، ويزيف له الحقائق حتى يسمي أفحش الجرائم بأسماء يستسيغها ضعيف البصيرة، ولا يزال يجر الناس خطوة بخطوة نحو الفحشاء والمنكر حتى يقعوا في الهاوية.
هذه المعارك لا تهدأ فالصراع فيها بين الهدى والضلال وأهل الجنة وأهل النار، يتشارك فيها شياطين الإنس إخوانهم من شياطين الجن ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا معركة ضارية حقا لكن المؤمن يتحصن فيها بما عرف من كتاب الله تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] ويتعلم منه كيف يقاوم نزغات الشيطان ،ويستعيذ ويحتمي بالله من الشيطان الرجيم ،ويستنير بنور الوحي فيتمكن من الانتصار في هذه المعارك وفيما هو أقوى منها.
وبذلك نكتشف أن شماعة الشيطان التي يعلق عليها البعض أخطائه وخطاياه لا تتحمل كل ذلك، فالشيطان لا يحمل سيفا ولا سوطا يسوق به الناس وإنما الأمر بين الإنسان والشيطان كما وصفه الله تعالى {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } [إبراهيم: 22]
ونكتشف أيضا أن أولئك الذين يفسرون كل ما يصيبهم من مرض أو حزن أو تأخر زواج أو كآبة أو تعطل عن العمل ،بأنه من تأثير الشيطان أو الساحر الذي يستخدم الشيطان ،قد فاتهم أن يعودوا إلى القرآن الكريم ليجدوا قوله تعالى { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء: 76] وفاتهم أن يعودوا إلى أنفسهم ويحاوروها، لعل ما أصابهم يكون عقوبة على ذنب أو بسبب مال حرام أكلوه أو دعوة مظلوم غفلوا عنها أو تمحيص لقلوبهم، فمهما أوتي الشيطان من قدرات فهي محدودة وأسباب البلاء كثيرة.
إن تصور قدرة الشيطان وأوليائه على أذية الخلق متى ما أرادوا هو غفلة عن قوله تعالى {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه} [البقرة: 102] وغفلة عن تحقيق العبودية لله تعالى التي تحمينا من كيد الشيطان وتسلطه { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65]