كتاب “أبو الكلام آزاد وتشكل الأمة الهندية” تأليف رضوان قيصر[1]، يتناول حياة المصلح الإسلامي الهندي أبو الكلام آزاد (1888-1958م)، وهو شخصية روحية وسياسية لا يقل تأثيرها عن شخصية المهاتما غاندي، إذ كان رفيقه في الكفاح ضد الاستعمار، ووضع سياسة الهند التعليمية بعد الاستقلال، ووقفت أفكار سدا منيعا ضد الطائفية، ووقف ضد رغبة المسلمين في الانفصال عند الهند ،وتشكيل كيان سياسي مستقل، كما كان عالما دينيا، ألف كتاب “ترجمان القرآن” في التفسير.
اسمه “محي الدين أحمد بن خير الدين” أما “أبو الكلام” فكنيته التي اشتهر بها لفصاحته، و”آزاد” فلقبه، وهو كلمة فتعني في اللغة الأردية “الحـُر”، كانت أمه عربية من مكة المكرمة، التي ولد فيها عام (1888م)، وتنقل في عواصم العرب الكبرى كـ”بغداد” و”القاهرة” وتأثر بأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبد عبده ورشيد رضا، وتميزت حياته بالقلق والبحث الدائم عن المعرفة، وعدم الاطمئنان للمألوف، وهو ما جعله أفكاره مختلفة وسابقة لعصره، وكان للرجل فضلا عظيما على الهند، إذ استطاع أن يحرك المسلمين لمواجهة الاستعمار استنادا إلى الدين، وساهم بنصيب موفور في بناء الشخصية القومية الهندية وصياغة ملامحها وقسماتها الكبرى.
البحث عن الطريق
كان “آزاد” يتمتع باستقلال فكري منذ صغره، فوالده حرص على تعليمه تعليما دينيا خالصا بعيدا عن المدارس الإنجليزية، أما بقية تعليمه ومعارفه فبناها بجهده واجتهاده، وهو ما جعل شخصيته ذات استقلال معرفي[2]، تبحث عن الاستدلال فيما يقنعها من أفكار، لذا تمرد على صوفية والده، بعدما لم تعد مقنعة له، وبحث عن الحقيقة بنفسه، رغم الصعوبات التي واجهته، فتعرض لضغوط عائلية وروحية، فزاده ذلك إصرار على أن يرسم مذهبا لنفسه، ومرت على قلبه مرحلة واسعة من الشك في الدين ذاته يقول عنها:”أصبحت ملحدا، ولا أرى في الدين إلا الجهل”، دام شكه تسع سنوات سنوات، لكنه استعاد بعدها إيمانه.
كانت محنة فقدان الإيمان عميقة للرجل، لكنها ثقلت شخصيته وفكره، فانتقل للبحث عن الهداية في عالم السياسة، بعدما اكتشف طريقه في عالم الروح، فكانت رحلة شاقة نظرا لأن أسرته لم يكن لها باع في السياسة، فحدد مساره من خلال تبنى خيار مقاومة الاحتلال، ويبدو أن تبنيه لهذا الخيار، كان يرجع إلى إيمانه بفكرة الحرية، واقتناعه بالنضال من أجلها، لذا انضم إلى إحدى الجماعات الثورية، التي تؤمن بالعنف كوسيلة لتحرير الهند، إلا أن تلك الجماعات كانت غالبيتها من الهندوس، وتعادي المسلمين بقوة؛ بل إن بعضها ذكر في بيانها التأسيسي أن المسلمين غير مؤهلين لعضويتها، لذا انصرف عنها مبكرا، ومع تنامي وعيه السياسي، أدرك أن العنف ليس الوسيلة المثلي لتحرير الهند، لذا طور مفهوما جديدا للمقاومة، لكنه لم يتبنى اللاعنف كعقيدة على غرار “غاندي“، وإن كان قبل به كإستراتيجية سياسية.
ومع عودة الإيمان والوعي بدأ “آزاد” جهوده في استنهاض المسلمين، فأصدر مجلة “الهلال” في يوليو 1912، وأدرك أن تثقيف المسلمين، وتمكينهم من بلورة هويتهم السياسية إزاء الاستعمار هي رسالته الكبرى، فأخذ يمهد لإقامة روابط مع الهندوس الذين كانوا يشكلون ثلاثة أرباع سكان الهند، وأخذ يشرعن كفاح المسلمين نحو الحرية والمطالبة بالاستقلال، فكان يقول:”الحكومة التي ليست برلمانية ولا دستورية، هي حكومة ضد إرادة الله، وينبغي ألا نتعلم هذا الدرس من الهندوس، بل من القرآن الكريم” فـ “الحرية لا تأتي إلا بالتضحية”.
كان “آزاد” يحث المسلمين على النضال، ويقول لهم :”إنكم تواجهون مهمة شاقة لنزع الفريسة من فم أقوى الأسود على وجه الأرض”، معتبرا أن تجاوز الطائفية بين الهندوس والمسلمين شرطا مسبقا للتحرير.
مقاومة الطائفية
في مارس 1916 وُضع “آزاد” تحت الإقامة الجبرية، وأغلقت صحيفته، فقضى أربع سنوات في التأمل، وبدأ في كتابة مذكراته ، وتفسيره “ترجمان القرآن”، وفي بدايات العشرينيات بدأت الأزمات الطائفية بين المسلمين والهندوس، وفي تلك الفترة كان لقائه مع الزعيم “غاندي”، وانقسمت قيادات المسلمين، إلى فريقين، أحدهما: يرى أن المسلمين لهم مصالحهم الخاصة، وربما المتناقضة مع الهندوس لذا ليس من مصلحة المسلمين الاصطدام بالانجليز، وفريق آخر يرى ضرورة بناء مجتمع سياسي من جميع الطوائف يقاوم الاحتلال، وكان “آزاد” من أنصار هذا الفريق.
وزاد من الأزمة الطائفية ظهور ثورة “موبلا” عام 1921، وهي ثورة قام بها فلاحون غالبيتهم من المسلمين ضد الاحتلال، وضد استغلال طبقة ملاك الأراضي وكان غالبيتهم من الهندوس، ووقعت فيها الكثير من أعمال العنف الطائفي، إلا أن الثورة كانت طبقية وليست طائفية، وهنا وقف “آزاد” موقفا ناقدا للعنف، إلا أن ظلالها الكئيبة انعكست على مستقبل العلاقة بين المسلمين والهندوس، فزادت الفجوة وعدم الثقة.
كانت الطائفية في الهند أمام خيارين كبيرين، إما أن تتحول إلى خيار سياسي لكل طائفة، وإما أن تذوب الطوائف في مجتمع سياسي موحد من أجل هدف التحرير، وعندما رأى “آزاد” انسحاب المسلمين وعزلتهم عام 1922 عن حزب المؤتمر، وعن زعامة غاندي، قام “آزاد” بحركة عكسية نحو حزب المؤتمر فحسم خياره السياسي نحو الانضمام للحزب، ونجح عام 1923 في ترأس حزب المؤتمر، وبدأ يهتز رصيده الذي بناه على مدار عشر سنوات في أوساط المسلمين.
رأس “آزاد” الحزب وعمره (36) عاما، فحول أفكاره ضد الطائفية إلى مشروع سياسي للحزب، خاصة ضرورة الحفاظ على وحدة المناضلين الهنود من أجل الحرية، والحفاظ على التمسك بين المسلمين والهندوس، وانتقد حالة التخويف النفسي من المسلمين الذي تنتهجه المنظمات الهندوسية الطائفية، وكان يطالب حزب المؤتمر بأن يكون أكثر مرونة في استيعاب المسلمين، ومن جانب آخر أخذ يستغل الموارد الروحية الدينية لإثارة الشعور الوطني للمسلمين، لذا لم يجد حرجا أن يعلن أن غاندي هو الزعيم الحقيقي للهند، وأن الهند ستحصل على حريتها تحت قيادته، وأصبح “آزاد” جزءا لا يتجزأ من حزب المؤتمر، لكن أفكاره وسياساته لم تنجح، فالمسلمون قرروا أن يسيرا في خط الانفصال عن الهند، وبناء دولة مستقلة لهم.
ومنذ منتصف الثلاثينيات أبدى “آزاد” قلقه من تحول الحزب نحو الثقافة الهندوسية، لذا أخذ يطرح مسألة احترام الهوية الثقافية المسلمين، وهو ما تسبب في انعزاله نسبيا عن حزب المؤتمر، وأصبح “آزاد” وحيدا، بعدما فشل في تقديم الحزب كحزب لجميع الطوائف الهندية.
وانتخب آزاد رئيسا لحزب المؤتمر في مارس 1940، وتزامن ذلك مع إقرار العصبة الإسلامية بمسألة “نظرية الأمتين ” في الهند في نفس الشهر، والذي كان أساسا لتقسيم الهند في 14 أغسطس 1947، وولادة دولة باكستان، وهو ما شكل إخفاقا لجهود “آزاد” الفكرية والسياسية.
وبعد الاستقلال تولى “آزاد” وزارة التعليم في يناير 1947، واستمر حتى وفاته في 22 فبراير 1958م، فعمل على بناء مؤسسة تعليمية وعلمية تساهم في بناء الأمة الهندية، وكان يرى أن التعليم أحد أدوات تعميق الديمقراطية.
[1] رضوان قيصر هو أستاذ التاريخ والثقافة بالجامعة الملية الإسلامية في نيودلهي بالهند، والكتاب صادر عن مؤسسة دار الفكر العربي ببيروت في طبعته الأولى باللغة العربية عام 2016، في (354) صفحة
[2] من أهم كتبه “آزاد” كتاب “تذكره” كتبه عندما كان يعيش في الإقامة الجبرية ما بين عامي 1916و1919
-كتاب “الهند تفوز بالاستقلال”، وصدر بعد وفاته في العام 1958