يقولون إنّ أبا هريرة رضي الله عنه روى عن النبيّ في حدود 5374 حديثا – بحسب عد مسند بقي بن مخلد على ما نقل ابن الجوزي، بينما في مسند أحمد هو في حدود 3848، وهذا عدد كبير – زعموا – باعتبار تأخّر إسلامه الذي كان عام خيبر، وقصر مدة صحبته للنبي . وهذا يدل على كذبه وقلة أمانته.

الشبهة الأساسية: كيف روى آلاف الأحاديث في سنوات قليلة؟

يقول جولدزيهر (Goldziher) – المستشرق المجري-:

(… وتقدر الأحاديث التي تضاف إليه – يعني أبا هريرة رضي الله عنه- بخمسمائة وثلاثة آلاف حديث، ولا ريب أن عددا كبيرا منها قد نحل عليه، ونجد بين الذين رووا عن أبي هريرة كثيرا من أكابر الإسلام، وقد اختلق الناس قصة تبرر اعتقادهم بعصمة ذاكرته عن الوقوع في الخطأ، تلك الذاكرة التي استطاع أن يستوعب بها عددا عظيما من الأحاديث، فقالوا إن النبي لفّه بيده في برده بسطت بينهما أثناء حديثهما، وبذلك ضمن أبو هريرة لنفسه ذاكرة تحفظ كل ما سمع…) [1].

ويقرر المستشرق هذا التوجه (روبسونJ.Robson ) بقوله: (… وأسلم أبو هريرة قبل وفاة النبي بأقل من أربع سنوات، ومع ذلك فإنه أكثر من الحديث عن النبي حتى لقد قدرت الأحاديث التي رواها بخمسمائة وثلاثة آلاف حديث) [2].

الخلل المنهجي في الشبهة: الجهل بعلم الحديث

والجـواب: لا أسلك في طريقة الجواب مسلك العلماء الذين ردوا على هذه الشبهة، ومنهم محمد أبو شهبة ومصطفى السباعي وغيرهما، فإنهم ركزوا في الرد – غالبا- على ذكر الأدلة النقلية على صدق أبي هريرة رضي الله عنه وتميزه بالحفظ لما وهبه الله من الذاكرة بعد دعاء النبي له بالحفظ وعدم نسيان الحديث، وبما كان عليه من صفاء الذهن الذي امتاز به أهل البادية في ذلك الزمان، فلست أعرج على شيء من ذلك، لأن الخصوم لا يعترفون أصلا بهذه الروايات، وقد سبق نقل موقف “جولدزيهر” آنفا، ومن أجل ذلك سلكت طريقا آخر يعتمد على النظر العقلي والواقعي الموضوعي.

الصحيح أن يقال: رُويَ عن أبي هريرة رضي الله عنه أزيد من 5000 حديث، هكذا أدقّ وأضبط

إنّ ذلك الادّعاء مردودٌ، يدلّ على جهل فظيع بأبجديات علم الحديث وتاريخه ومناهج المحدّثين، ذلك أنّ القول بأنّ أبا هريرة رضي الله عنه قد روى عن النبيّ هذا العدد غير صحيح، ولم يقل أحد من أهل الحديث إنّ أبا هريرة رضي الله عنه روى بمعنى سمع هذا العدد من النبيّ ، ولا يعرف هذا في كتب الحديث، ولم يدعه أبو هريرة رضي الله عنه نفسه، وأجهل من هذا من ذهب إلى التشكيك بقوله: كيف ينفرد أبو هريرة رضي الله عنه دون بقية الصحابة – ومنهم الكبار- بسماع هذا العدد الكبير من النبيّ ؟

الفرق الحاسم بين “رُويَ” و”سَمِعَ”

والحقّ أن هناك فرقًا بين قولنا: “رُوي” وبين “سمع”، فالصحيح أن يقال: رُويَ عن أبي هريرة رضي الله عنه أزيد من 5000 حديث، هكذا أدقّ وأضبط، وكان ينبغي أن تُحال هذه المسألة على مخبر للبحث لكشف ما سمعه وما لم يسمعه من جملة هاته الخمسة آلاف وزيادة، وكذا ما سمعه بواسطة، وما سمعه بلا واسطة، وما سمعه وحده وما شاركه فيه غيره، وقد قام بعض الباحثين بهذه الدراسة وخرجوا بنتيجة، وهي أنّ أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه أقسام:

  • قسم ضعيف
  • وقسم معلول
  • وقسم موضوع
  • وقسم حسن بنوعيه
  • وقسم صحيح
  • وعدد آخر رواه أبو هريرة رضي الله عنه بالواسطة
  • وعدد شاركه فيه الصحابة

فلم يبق مما رواه بلا واسطة إلا القليل من الحديث بالنسبة لما ذكر من العدد الأول، ولو ذهبنا نقسم هذا العدد على ثلاث سنوات ونيف مما أقامها أبو هريرة رضي الله عنه مع النبيّ لقلنا: ما أقل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه.

وفي دراسة للأستاذ محمد ضياء الرحمن الأعظمي- وهي رسالة الماجستير [3] بعنوان: «أبو هريرة في ضوء مروياته بشواهدها وحال انفرادها» خلص إلى أن عدد الأحاديث الصحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه لا تتجاوز مائتين وعشرين حديثًا.

قلت: وربما يزيد العدد بعد توّفر وسائل البحث العلمي أكثر من وقت إعداد الأستاذ الأعظمي رسالته، وفي كلّ الأحوال لو أضفنا إلى ذلك العدد ضِعفه ما كان العدد كثيرًا، فكان من المفروض على هؤلاء الطاعنين أن يسألوا أهل الحديث كم حديثًا صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عند المحدثين، حتى لا يقعوا في هذه “الورطة” العلميّة الساذجة.

تحليل إحصائي يكشف الحقيقة: كم حديثًا روى أبو هريرة حقًا؟

ولمزيد بيان وفائدة أسوق شهادة من قام بدراسة أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه وتتبّعها في كتب الرواية وخرج بنتيجة مذهلة، فقد نشرت [صحيفة الشرق الأوسط في عددها 9816 بتاريخ 13 أكتوبر 2005] مقالا للسيد محمد عبده يماني، جاء فيه:

(وعندما قمت بنفسي بالتحقق من هذه المسألة بواسطة فريق مختص في الحاسب الآلي ظهرت لنا حقائق مهمّة عن روايات أبي هريرة رضي الله عنه، فعندما تتبعنا رواياته وجدنا أن هناك ما يزيد عن ثمانمائة صحابي وتابعي رووا عنه الحديث وكلهم ثقات، لكن القضية الأساسية التي أفادتنا عند استخدام الحاسب الآلي هي أنه عندما أدخلت هذه الأحاديث المروية في كتب الحديث الستة، وجدنا أن أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه بلغت 5374، ثم وجدنا بعد الدراسة بواسطة الكومبيوتر أن المكرر منها هو 4074 وعلى هذا يبقى العدد غير المكرر 1300.

وهذا العدد تتبّعناه فوجدنا أن العديد من الصحابة قد رووا نفس هذه الأحاديث من غير طريق أبي هريرة رضي الله عنه هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وبعد أن قمنا بحذف الأحاديث التي رويت من غير طريق أبي هريرة رضي الله عنه في كتب الصحاح الستة وجدنا أن ما انفرد به أبو هريرة رضي الله عنه ولم يروه أي صحابي آخر هو أقل من عشرة أحاديث…

ثم شاء الله أن نطور العمل في أحاديث أبي هريرة فانتقلنا من الكتب الستة إلى الكتب التسعة، وقد لاحظنا أن الأحاديث في الكتب التسعة المنسوبة إلى أبي هريرة هي8960  حديثا، منها 8510  بسند متصل و450 حديثا بسند منقطع  وبعد التدقيق انتهينا إلى أن الأحاديث التي رواها أبو هريرة في كل هذه الكتب التسعة بعد حذف المكرر هي 1475 حديثا، وقد اشترك في روايتها معه عدد من الصحابة.

وعندما حذفت الأحاديث التي رويت عن طريق صحابة آخرين وصلنا إلى حقيقة مهمة وهي أن ما أتى به أبو هريرة مع المكررات في كتب الحديث التسعة هي 253  حديثا، ثم إن الأحاديث التي انفرد بها أبو هريرة بدون تكرار ولم يروها أحد غيره في الكتب التسعة هي 42  حديثا).

النتيجة النهائية الأحاديث التي انفرد بها أبو هريرة تمامًا (بدون تكرار أو مشاركة) في كل الكتب التسعة هي 42 حديثًا فقط.

ثم لو سلّمنا جدلا أنّ العدد الذي رواه هو 5374 حديثًا، وذهبنا نقسّم هذا العدد على عدد الأيام التي عاشها أبو هريرة رضي الله عنه مع النبيّ ، وهي في حدود 1460 يومًا، لخرج العدد الذي سمعه كل يوم لا يزيد على أربعة أحاديث، ومع حذف المكرر يكون العدد أقل، وليس هذا بالكثير لا سيما إذا علمنا أنّ أكثر هذه الأحاديث قليلة الألفاظ، وعندما نقول إن أبا هريرة أكثر الصحابة رواية فهذا بالنسبة لغيره من الصحابة.

أسباب كثرة مرويات أبي هريرة

ثم يقال: ولمَ لا تتعجبون ممن يحفظ القرآن بكل قراءاته، مع أوجه الأداء المختلفة؟ وما أكثرهم في العالم الإسلامي، أم أن هذا الأمر واقع مشاهد لا يمكن تجاهله؟ فإذا أمكن حفظ كل هذا في هذا الزمان مع كثرة شواغله ومشاكله، فكيف تستبعدون أن يحفظ الصحابي ذلك العدد من الأحاديث؟ لا سيما في تلك البيئة الخصبة بلا مشاكل أو عوائق؟.

ملاحظة 1

ما ذكرتُهُ من الاستدلال على بطلان هذه الدعوى من الواقع والعقل، وتركتُ الأدلّة النقليّة الدالّة على اختصاص أبي هريرة رضي الله عنه بالرواية والحفظ؛ لأنّ الخصوم لا يقبلون الدليل النقلـي.

ملاحظة 2

هذا العدد الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه إنّما حصل لتفرّغه للرواية، ولم يشغله الصفق بالأسواق ولا تخصّص آخر له كالتفسير والفتوى ونحو ذلك، أعني كان تفرّغه تامّا للحديث، وهذا الذي صرّح به هو بنفسه، قال-رضي الله عنه-: (إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ، والله الموعد، كنت رجلا مسكينا، أخدم رسول الله على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فقال رسول الله : “من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئا سمعه مني”، فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه، ثم ضممته إلي، فما نسيت شيئا سمعته منه) [4].

خاتمة: الهدف الحقيقي من الطعن

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق لكشف أغراض هؤلاء: لماذا لم يعتـرضوا على روايات ابن عمر وقد مات النبيّ وهو صبي، وروي عنه حوالي 2630، وكذا أنس بن مالك روي عنه حوالى 2286، وكذا عائشة روي عنها 2210…؟ فما يقال عن أبي هريرة رضي الله عنه يقال عن البقية- وحاشاهم مما يرمونهم به-، ولكن ظنوا أنّ بإسقاط أبي هريرة رضي الله عنه تسقط السنّة، وهيهات وهيهات لما يتصوّرون.