القرآن الكريم مستعصى على المناهج الحداثية، فالكتب الدينية التي أُخضعت للمناهج النقدية الحداثية أنتجت تفككا للنص الديني المقدس، غير أن تطبيق تلك المناهج على القرآن، كشف قصورها، وانتفاء قدرتها أمام عظمة القرآن، فمنذ نزول القرآن طرح تحديه على الجميع بأن يأتوا بمثله، أو حتى بآية واحدة، ومازالت روح التحدي كامنة، تظهر مع كل محاولة من الإنسان أن يتعالى على خالقه، سبحانه وتعالى، ولعل غرور العلم سول للبعض القدرة على أن إخضاع القرآن لمنهجه، فيفصل القرآن كنص عن مصدره الإلهي.
فمنذ الثورة الفرنسية 1789م وظهور التنوير والحداثة[1]، بدأت اتجاهات في الغرب تُهيل التراب على كل ما هو ديني وسماوي وغيبي، وترسخت تلك الرؤية مع تنامي المادية التي سيطرت روحها على المدارس والمناهج الفكرية والثقافية والفلسفية في الغرب، حتى أصبح اللاديني هو الأساس في الجامعات والثقافة، وفي تلك الفترة ظهر الاستشراق، الذي درس الشرق دراسة شاملة، وأثرت تلك الروح والمنهجيات المادية على المنتج الثقافي الاستشراقي، ومع ظهور الحداثيين العرب المتأثرين بالتجربة الغربية والاستشراق، ظهرت كتابات تسعى لتطبيق المناهج الغربية على القرآن الكريم، وتكرار التجربة الغربية في التعامل مع كتبها المقدسة.
وفي هذا الإطار يأتي كتاب “أثر الاستشراق في الفهم الحداثي لمباحث تأريخ القرآن وعلومه” لـ”كاظم جواد الحكيم” الصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، في طبعته الأولى عام 2021، في 230 صفحة، ليناقش أثر الاستشراق في فهم الحداثيّين العرب للقرآن الكريم، يتكون الكتاب من ثلاثة فصول، هي: القرآن الكريم من منظور الاستشراق، والفهم الحداثي للقرآن الكريم وعلاقته بالاستشراق، ونماذج تطبيقية لتأثر الفهم الحداثي بالاستشراق.
الاستشراق والحداثيون
ظهرت شخصيّات عربيّة حداثيّة[2] تدعو إلى القطيعة مع التراث، وسعت إلى تطبيق المناهج الغربية في فهم النّصوص الدينيّة على مجمل الخطاب القرآنيّ، وقامت بنقد الآليّات التي وضعها المسلمون لفهم النّصّ القرآنيّ، ودعت إلى ضرورة استبدالها بمناهج غربيّة، بحجة أنَّ تلك الآليّات هي السبب في التخلّف، ولم تكتف الشخصيات الحداثيّة بالقطيعة مع التراث الإسلاميّ المُفَسِّر للنصّ القرآني؛ بل دعت إلى العمل على النّصّ القرآنيّ نفسه، وعلّلت سبب تلك الدعوى بأنَّ النصّ القرآنيّ هو محور الحضارة الإسلاميّة، فلا بدَّ أنْ تتعدّد تفسيراته وتأويلاته، ولا بدَّ من تنوّع الآليّات المنهجيّة المتّبعة في فهم نصوصه، وتأثّر الحداثيون بالنظريّات الغربيّة والمنجزات الاستشراقيّة في مجال فهم النصّ الديني.
ويمكن تعريف القراءة الحداثيّة للنصّ القرآنيّ بأنَّها تلك القراءة التي تتّخذ من المناهج الغربيّة والفلسفيّة منهجًا وطريقًا لفهم النصّ القرآنيّ وتفسيره، والمتأمّل في القراءة الحداثيّة يجد أصحابها ينطلقون من منهجيّة واحدة، وهذه المنهجيّة ترتكز على أسس الحداثة الغربيّة، وينحصر الاختلاف بينهم في المنهجيّة الإجرائيّة، التي يختارها كل واحد منهم في توظيف الأفكار الحداثيّة.
والعلاقة بين الاستشراق والحداثيين وثيقة، فقد استند الفهم الحداثي للقرآن الكريم على آراء ودراسات المستشرقين، ووظف الحداثيون أدوات النقد الحديثة لفهم القرآن، ويرى البعض أن الحداثيين والمستشرقين تقاسموا كثيرا من المرجعيات والمنطلقات المعرفية والمناهج، رغم توجيه بعض الحداثيين نقدا للاستشراق، لكن الحقيقة البارزة أن هناك تأثيرا بنيويا ومنهجيا استشراقيا في منطلقات الحداثيين ومناهجهم.
ويلاحظ أن الاستشراق لفت الانتباه إلى مسألة التراث، أما الحداثيون فانغمسوا في محاولة تفكيك التراث، وإعادة قراءته مرة أخرى وفق المناهج الحديثة، كما أن كثيرا من الحداثيين خضعوا للتلقى المباشر وغير المباشر من المستشرقيين، وهو ما أثر في تفكيرهم، فمثلا “محمد أركون” تأثر بمسألة “التاريخية” من المستشرقة “جاكلين شابي” Jacqueline Chabbi ، كما أن نقد “أركون” للاستشراق، ربما تركز على تمسك الاستشراق بالمنهج الوصفي دون أن ينتقل إلى محاولة تصحيح المفاهيم الإسلامية، كما انتقد عدم التفات الاستشراق إلى التقدم في الدراسات التاريخية، إذ يصر الاستشراق-حسب أركون- على دراسة بنية النص دون سياقاته، أما “هشام جعيط” في دراسته للسيرة النبوية، فقد أعاد إنتاج أفكار الاستشراق بصورة جديدة، ورغم نقد الحداثيين للاستشراق، فإنهم لا ينتقدون الأسس والمناهج التي انطلق منها الاستشراق.
يؤكد الكتاب أن الفكر الحداثي بدأ بالتشكيك في النص القرآني، ثم تطور إلى التشكيك في فقه النص، ويتفق الحداثيون والاستشراق في مساعيهم للتقليل من قيمة النص القرآني، ثم مهاجمة الأصول والقواعد التي تضبط عملية فهم النص، وسعيهما إلى استبدال تلك القواعد بمناهج غربية، فخطاب الحداثة يعتمد على عدم التفريق بين النص المؤسس وبين الثقافة المؤسسة على فهم بشري للنص، ويوظف أسوأ الاجتهادات البشرية لينسبها إلى النص المؤسس، كذلك كانت عمليات التشكيك في الوقائع التاريخية وإثارة الشكوك من الموضوعات التي تتقاطع فيها الحداثيون مع الاستشراق
وقد اتبع الحداثيون منهجا انتقائيا في الروايات أثناء بحثهم في التراث خاصة فيما يتعلق بفهم الآيات القرآنية، واقتصارهم في الغالب على مصادر أحادية في فهم القرآن، ويشترك الحداثيون مع الاستشراق في النظر للشرق بعيون غربية، فهما ينظران إلى التراث الإسلامي أنه مصدر للتخلف.
نماذج تطبيقية
عرض الكتاب لعدة نماذج من الحداثيين العرب، مثل “محمد أركون” و”نصر حامد أبو زيد” وطيب تيزيني” و”محمد عابد الجابري“، كما عرض عدة قضايا في فهم القرآن التي أثر فيها الاستشراق على الحداثيين، ومنها: مفهوم الوحي، والقرآن المكي والمدني، وجمع القرآن وتدوينه، والنسخ.
فمثلا “أركون” تأثر بمدرسة الحوليات الفرنسية، وهي مدرسة تاريخيّة حديثة تأسّست عام 1929 م، كما تأثر بالاستشراق، فهو درس في معهد الاستشراق في باريس، وتأثر بكبار المستشرقين الفرنسيين، مثل: “شارل بيلا” Charles Pellat و”كلود كاهين” Claude Cahen و”جاك بيرك” وكلّهم كانوا يدعون لإخضاع القرآن للمناهج الغربيّة، وكان مشروعه يرتكز على تحرير الفكر الإسلامي من المناهج القديمة، وإقامة نظام إسلامي وفق شروط الحداثة، من خلال اعتماد المنهجيات الغربية والإفادة من أدواتها وآلياتها، وابتكر ما أسماه بـ”الإسلاميات التطبيقية”، ومع ذلك انتقد الاستشراق ومنهجه الوصفي، وعدم التفات الاستشراق إلى التطور في الدراسات التاريخية، وانتقد تمسك الاستشراق بالبنية الداخلية للنصوص دون السياقات، لذا كان يدعو لغربلة جميع النصوص الدينية من خلال تطبيق العلوم اللسانية والاجتماعية الحديثة على النص القرآني، وأعلن “أركون” عن مشروعه النقدي عام 1984 في كتابه “تاريخية الفكر العربي الإسلامي”، وكان يدعو إلى إخضاع القرآن لمناهج العلوم الإنسانية الحديثة، لكنه رجح القرءات الشاذة على المتواترة سيرا على ما ذهب إليه المستشرق الأمريكي ” دافيد باروس”، ورغم نقد “أركون” للمناهج الاستشراقية فإنه لم يستغني عنها في مشروعه.
وكان الوحي من القضايا التي تأثر فيها الحداثيون بالاستشراق، ومن مظاهر التلاقي بين الاستشراق والفهم الحداثي الوحي، ظهور مفهوم جديد للوحي يعتمد على المادية، حيث أنكر الغالبية الوحي والنبوة، وكان بعضهم لا يرى إمكانية لوجود الوحي نظرا لرؤيته المادية، وذهب آخرون أن الوحي ما هو إلا خواطر للنفس البشرية، فالرؤية الحداثية فلم تبرح كثيرا ما قاله الاستشراق، وهو ما يعكس التأثر الواضح بالفلسفة المادية التي ظهرت مع الحداثة الغربية، ومن ثم اختفت النظرة التقديسية للوحي، فمثلا “أركون” لم يبتعد عن المنهج الاستشراقي فيما يتعلق بالوحي، وتحدث عن مستويين للوحي، أما “نصر حامد أبو زيد” فقد ادعى أن الوحي نص ثقافي تأثر وتشكل في البيئة العربية، وأصر على تفسير القرآن بناء على الظروف التاريخية التي نزل فيها أولا، ومعنى هذا أن القرآن الكريم يفقد قدرته على إنتاج الأحكام، أما “هشام جعيط” فيلتقي مع الاستشراق في الشبهات القائلة بالوحي النفسي، أما عبد المجيد الشرفي فتحدث عن الوحي النفسي مكررا مقاولات المستشرق “مونتجمري وات.
وفيما يتعلق بتقسيم السور إلى مكية ومدنية فإن الحداثيين رأوا أن الواقع هو الذي يقسم السور، وبالتالي فإن الواقع يتدخل في تشكيل القرآن الكريم، ووفقا لهذه الرؤية فإن الواقع تدخل في إنشاء النص وتشكيله، وهو ما يتماشى مع فرضيتهم بالقول بتاريخية النص القرآني، وحسب زعمهم أن القرآن منتج بشري، فـ”طيب تيزيني” ادعى وجود تناقض بين الآيات في المرحلة الواحدة سواء أكانت مكية أو مدنية، وهو رأى يتفق مع ما ذهب إليه المستشرق الشهير “جولد تسيهر”.
[1] الحداثة الأوروبيّة ذات تعريفات متعددة، فهي ليست فكرةً أو أيدلوجيا أو حدثًا تأريخيًّا أو عصرًا معيّنًا حتى نستطيع تعريفها بسهولة، بل هي وصف زمني للقرون الخمسة الأخيرة، أي إنَّها نتيجة تأريخ طويل وبطيء، وهي في الوقت نفسه تأريخ مليء بالأحداث الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وعرف بعض الغربيين الحداثة بأنها عندما تحل فكر العلم مكان الخالق في قلب المجتمع، وتقتصر الاعتقادات الدينية على الحياة الخاص بالفرد، أي تغيب فكرة مركزية الإله لتحل مكانها مركزية الإنسان
[2] بدأ إنتاج الحداثيين العرب منذ عقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وأبرزهم: محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وطيّب تيزيني، ومحمد عابد الجابريّ، وعبد المجيد الشرفي.