تشكّل بذور خدمة السنة النبوية وعلومها منذ عهد النبوة، ثم لم يخل جيل إلا وله بصمة واضحة في علم السنة حسب الحاجة، وازدهرت الجهود في القرن الثاني والثالث بشكل متزايد حتى بلغت السنة إلى الغاية المنشودة، ودون العلماء مصنفات الحديث على الأبواب الفقهية والمسانيد والجوامع وغيرها، وكان أبو داود أول من اشتهر بوضع كتاب في الأحكام ثم تبعه الناس على ذلك حتى ظهرت كتب أحاديث الأحكام الفقهية المجردة بعد عصر الرواية، وهي كتب مشتملة على الأحاديث وثيقة الصلة بالأحكام الفقهية العملية من حيث الحل والحرمة، وتأتي هذه الأحاديث محذوفة الأسانيد، ومرتبة على أبواب الفقه، أخرجها مصنفوها من الكتب الحديثية الأصلية.
وقد تزين القرن السادس ببداية تأليف في هذا النوع من التصنيف، والذي يمثل جانبا من جوانب خدمة السنة النبوية عند المتأخرين، إذ كان أول من عرفت له أسبقية في هذا المنوال من الخدمة هو عبد الحق الأندلسي الأشبيلي (ت: 581هـ)، وقد صنف:
1-الأحكام الشرعية الثلاثة
يقصد بالأحكام الشرعية الثلاثة: كتاب الأحكام الكبرى، والوسطى، والصغرى.
- الأحكام الكبرى: ضمن الكتاب أحاديث الأحكام وغيرها من الأحاديث، افتتحه المؤلف بكتاب الإيمان مع حديث جبريل عليه السلام “…أَخْبرنِي عَن الْإِسْلَام ” وأتمه بكتاب الفتن وبحديث” يخرج الدَّجَّال فِي أمتِي فيمكث أَرْبَعِينَ…” وأورد أحاديث الكتاب بالأسانيد، كأن ينقل حديثا من الصحيحين مثلا كما هو دون أن يحذف إسناده، إلا أن الكتاب لم تكن له شهرة ومداولة كغيره.
- الأحكام الوسطى: أحاديث الكتاب منتقاة من الكبرى مع حذف جميع أسانيد الحديث أو بعضها، وأحاديثه تناهز (5000) حديثا، بدءا من كتاب الإيمان إلى كتاب الزينة مع آخر حديث” “إِنِّي لأَرجُو أَنْ لاَ يعجِزَ اللهُ أمَّتِي…”، ونبه المؤلف في خطبة الكتاب أن سكوته عن الحديث دليل على صحته على طريقة أبي دواد في السنن، وقد اشتهر الأحكام الوسطى باسم الأحكام الكبرى بسبب كثرة تداوله وشهرة الاعتناء به، وهو الذي صنف ابن قطان عليه تعقبه ونقده في كتاب سماه “بيان الوهم والإيهام” على ما فيه أيضا من الانتقاد.
- الأحكام الصغرى: وليدة الأحكام الوسطى، اكتفى المؤلف بذكر الصحيح فقط دون غيره قائلا: “وتخيرتها صحيحة الإِسناد، معروفة عند النقاد، قد نقلها الأثبات، وتداولها الثقات”
وتضمنت الأحكام الصغرى (115) حديثًا. ابتداءا من أبواب الإيمان إلى كتاب الديات مع الانتهاء بحديث: “العبادة في الهرج، كهجرة إليَّ”.
وقد نال كل من الأحكام الوسطى والصغرى اهتماما بالغا من سالف الزمان ما لم ينله الكبرى.
2- العُمدة في الأحكام الكبرى والصغرى
ثم جاء الحافظ عبد الغني (ت: 600هـ) بإفراد التأليف في أحاديث أحكام الحلال والحرام بعد أن نظر في مصادر السنة وبحث في الأحاديث التي عليها مدار أصول الأحكام فأخرج من غضون ذلك الكتابين الجليلين وهما:
- عمدة الأحكام الكبرى، استقى المؤلف جل مادته من الكتب الستة، فبلغ عموم عدد أحاديث الكتاب (860) حديثًا حسب إحصائية المحقق الشيخ سمير بن أمين الزهيري، وكله في الأحكام فقط، بدءا بكتاب الطهارة وبحديث “لا يقبلُ الله صلاةَ أحدِكُم -إذا أحدثَ- حتى يتوضّأَ” إلى كتاب العتق مع آخر الحديث “ذُكِرَتْ أمُّ إبراهيم عِندَ رسُولِ الله ﷺ، فقال: “أعتقَها ولدُها”.
- عمدة الأحكام الصغرى، كتاب جامع لــــ(430) حديثا، بدأه المؤلف بكتاب الطهارة مع حديث ” (إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ” حتى بلغ كتاب العتق مع آخر الحديث أنه” بلغ النبي ﷺ: أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر…
يقصدون بـــــ”عمدة الأحكام” عند الإطلاق في التراث العلمي “عمدة الأحكام الصغرى” نظرا لعظيم شأنه ورفعة قدره دون ” عمدة الأحكام الكبرى”، لأن المؤلف لم يدع في أغلب سطوره إلا أحاديث الصحيحين كي تبنى الأحكام على أقوى ما ورد، ومن ثم أصبح عمدة في المبنى والمعنى فتداولوه حفظا وشرحا وتهذيبا.
3- الأحكام الكبرى والمنتقى من أخبار المصطفى ﷺ
جاء الحافظ أبو البركات مجد الدين عبد السلام ابن تيمية (ت 653 هـ) وألف في أحاديث الأحكام الكتابين:
الكتاب الأول باسم “الأحكام الكبرى”، لكنه مفقود فيما يبدو.
الكتاب الثاني: سماه ” المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ” وهو منتقى من الأحكام الكبرى.
يقول ابن رجب: “المنتقى هو الكتاب المشهور انتقاه من الأحكام الكبرى، ويقال: أن القاضي بهاء الدين بن شداد هو الذي طلب منه ذلك بحلب”.[1]
وقد أورد فيه المؤلف (3926) حديثا حسب ترقيم طبعة الدكتور طارق عوض الله، وهي أحاديث منتخبة من أمهات كتب السنة الستة ومسند أحمد وغيرها، فأول كتاب فيه: كتاب الطهارة، وأول حديثه: حديث” هو الطهور مائه والحل ميتته” وآخر الكتاب كتاب الأقضية والأحكام، وآخر الحديث حديث” خطبنا عمر بالجابية…”
ونبه المؤلف على أن العلامة لما رواه البخاري ومسلم: أخرجاه، ولبقيتهم: رواه الخمسة، ولهم سبعتهم: رواه الجماعة، ولأحمد مع البخاري ومسلم: متفق عليه، وفيما سوى ذلك يسمِّي من رواه منهم، وأنه لم يخرج فيما عزاه عن كتبهم إلا في مواضع يسيرة.
فالكتاب من أكثر الكتب استيعابا لأحاديث الحلال والحرام ومن أحسنها، وقد حاول المؤلف أن يجعل أحاديثه صالحة للاحتجاج كما هو ظاهر من تسميته بالمنتقى، إلا أنه لوحظ عليه في بعض المواضع التساهل والتقصير في إيراد بعض أحاديث غير ثابتة، وحذفه لأحكام الترمذي على الحديث، ولذا قام الإمام الشوكاني بتجويد الكتاب في “نيل الأوطار” وهذبه وشرحه وأحسن فيه أيما إحسان.
4- الإمام والإلمام في أحاديث الأحكام
للإمام تقي الدين أبي الفرج محمد بن علي ابن دقيق العيد (ت: 702هـ)، جهود متميزة في استقصاء جمع متون أحاديث الأحكام ثم تلخيصه ثم شرحه من خلال مصنفاته الثلاثة:
- الإمام في معرفة أحاديث الأحكام: كتاب عظيم الشأن، حاو في طياته ما لا يوجد في غيره، وهو أوسع مصنف في أحاديث الأحكام بشهادة المحققين، ولم يصنف في بابه أجمع وأشمل منه، وفيه جمع طرق الحديث وشواهده وفوائد علمية جمة، وقد جعله المصنف ” كتاب مطالعة ومراجعة عند الحاجة إليه، لا كتاب حفظ ودرس يعتكف في التكرار عليه”[2].
وقال فيه:” أنا جازم أنه ما وضع في هذا الفن مثله”[3] وقال ابن السبكي:” كتاب “الإمام” في الحديث، وهو جليل حافل لم يصنف مثله”[4] إلا أنه لم يبق منه سوى جزء من كتاب الطهارة المبتدأ بحديث” أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي..” والمختتم بحديث “إذا توضأ أحدكم فلا يغسل أسفل رجليه بيده اليمنى” بتحقيق الشيخ سعد الحميد، ويقال: إن أعداء المؤلف أتلف قطعة منه حسدا، ولكن قد لخص الشيخ دقيق العيد الكتاب في كتاب سماه:
- الإلمام في أحاديث الأحكام، كتاب خرج من رحم “الإمام” مع الاكتفاء بما صح في الباب من الحديث على طريقة أهل الحديث أو أئمة الفقه، ومجموع حديثه يصل (1632) حديثا، افتتحه بكتاب الطهارة مع حديث “هو الطهور ماؤه، الحل ميتته” وختمه بكتاب الجامع وبحديث “لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم”.
وكان للمؤلف شفوف النظر في تحرير الكتاب وإتقانه مما يبعث على شديد الاعجاب بمحتواه ومغصاه، فأثنى عليه أهل العلم ثناءا عطرا واتخذوه أصلا في الباب إلى الحد أن الإمام العراقي حفظه كاملا، وقد شرع المؤلف في شرحه ولكن لم يكمله.
ولما سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عنه فأجاب قائلا: ” ما عمل أحد مثله، ولا الحافظ الضياء ولا جدي أبو البركات”[5].
5- المحرر في أحاديث الأحكام
سمى الإمام ابن عبد الهادي (ت744هـ) كتابه بــ”المحرر في أحاديث الأحكام” لدلالة على قيمة الكتاب وتميزه وعلوه بين كتب الأحكام، وقد أشار المؤلف في خطبة الكتاب أنه كتاب مختصر ومنتخب من كتب الأئمة المشهورين والحفاظ المعتمدين كالمسند والصحيحين، مع التعليقات الحديثية المصاحبة.
وقول الحافظ ابن حجر – ومن قبله الإمام الذهبي– أن: “المحرر في الحديث اختصره من “الإلمام” فجوده جدا[6] يحمل على أنه قد استفاد من “الإلمام” وانطلق منه ولا يعني الاختصار بمعنى الكلمة كما نبه على ذلك بعض الباحثين من خلال واقع الكتابين.
وقد ضمن كتاب المحرر (1324) حديثا من أول كتاب الطهارة بدءا بحديث ” هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته” إلى كتاب الطب انتهاءا بحديث” تداووا، فَإِن الله لم يضع دَاء إِلَّا وضع لَهُ شِفَاء – إِلَّا دَاء وَاحِد…”
6- البلغة في أحاديث الأحكام لسراج الدين ابن النحوي (ت 804هـ)
جاء كتاب “البلغة في أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الإمامان” على خط كتاب عمدة الأحكام من حيث الاكتفاء بما في الصحيحين، انتخبه المؤلف من كتابه “تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج” ولذا كان ترتبيه على أبواب المنهاج للإمام النووي، وإن كان قد أورد فيه أحاديث يسيرة من أفراد الصحيحين وغيرهما لعدم وجود ما يحل محله في الباب. ومجموع حديثه (505) حديثا، افتتاحا بكتاب الطهارة ومع حديث قصة مزادة المشركة…” اذْهَبْ فأفرغه عَلَيْك” وانتهاءا بكتاب العتق وبحديث”” بلغ النبي ﷺ: أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر…”
7- تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد
سلك الإمام الحافظ عبد الرحيم العراقي(ت: 806هـ) مسلكا غير مسبوق في تصنيف أحاديث الأحكام، حيث بنى كتابه “تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد” على أسانيد قيل إنها أصح الأسانيد عند أئمة الحديث إما مطلقا أو مقيدا، وهي ستة عشر إسنادا، واجتهد في اختصاره واستخراج الأحاديث التي عليها أصول الأحكام ثم رتبه على أبواب الفقه كي يسهل حفظها لابنه أبي زرعة ولي الدين أحمد، وقد بلغ عدد حديث الكتاب (416) حديثا، فتحه المؤلف بكتاب الطهارة مع حديث ” «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ » وأتمه بأبواب الأدب وبحديث «يخرج الله من النار قوما فيدخلهم الجنة».
ثم قام المؤلف بشرحه في كتاب سماه “طرح التثريب” ولكن توفي قبل إكماله وأكمله ابنه أبو زرعة.
8- بلوغ المرام من أدلة الأحكام
يعتبر كتاب “بلوغ المرام من أدلة الأحكام” لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852هـ)، امتدادا للكتب المصنفة في أحاديث الأحكام وخلاصة مضمونها، ألفه الحافظ من أجل ولده محمد اقتداء بشيخه العراقي، وقد جمع الكتاب بين دفتىه (1371) حديثا، بداية من كتاب الطهارة مع حديث “هو الطهور ماؤه الحل ميتته” وانتهاءا بكتاب الجامع وبحديث “كلمتان حبيبتان إلى الرحمن..”
وقد انتقى الحافظ أحاديث الكتاب من مجموع أمهات كتب السنة ثم حقق فيها تحقيقا رائعا ونافعا جدا، يجدر الاهتمام به وحفظه والتفقه عليه، يقول رحمه الله في مقدمته: “حررته تحريرًا بالغًا، ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغًا، ويستعين به الطالب المبتدي ولا يستغني عنه الراغب المنتهي”
واعتنى الحافظ بالرموز التي تسهل على ضبط التخريج، ورمز بالسبعة ويقصد بها كتب الستة مع مسند أحمد، ورمزه بالستة يعني دون مسند أحمد، ويرمز بالخمسة لكتب السنن والمسند ويرمز بالأربعة للسنن الأربعة، وبالثلاثة دون سنن ابن ماجه، ويقصد بمتفق عليه ما رواه البخاري ومسلم.
الأولويات في كتب أحاديث الأحكام
لا يستغنى عن جميع كتب أحاديث الأحكام لما في مجملها من الفوائد والشوارد والفرائد، إلا أن أهل العلم أرشدوا إلى التدرج في الحفظ والتفقه من خلالها، فيكون أولها في السلم:
- عمدة الأحكام الصغرى
- البلغة في أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الشيخان
- تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد
- المحرر في أحاديث الأحكام أو بلوغ المرام
تنبيه: مما تميز به “المحرر” على “البلوغ”: إيراده لسياق المتن كاملا مع العناية بتحرير الألفاظ، وتذييله للحديث بأقوال أئمة النقد صحة وضعفا، وتبيينه لبعض مدار الحديث ونحوه، بيد أن “البلوغ” تميز بالاختصار سواء من ناحية إسنادية أو فقهية تسهيلا للحفظ، وعلى أي حال فالمحرر هو المقدم في الجودة وأما في الخدمة فيقدم البلوغ.
- الإلمام في أحاديث الأحكام
- المنتقى ثم بقية الكتب المذكورة.
ثم الارتقاء إلى بقية كتب أحاديث الأحكام المسندة
مجمل مقاصد كتب أحاديث الأحكام
هدف كتب أحاديث الأحكام الرئيسي هو تقريب السنة النبوية بطريقة ميسرة ومحببة من حيث:
- حفظ المتون المجردة
- دقة اختيار أحاديث الحلال والحرام
- سهولة الوصول إلى الحكم المستنبط من الحديث
- الاختصار على موضع الشاهد من الحديث
- معرفة شمولية لأدلة المذاهب
- الحرص على اتباع الدليل ومعرفة الحق بشواهده
- بيان درجة الحديث
- بيان معانى ومقاصد الحديث عن طريق إيراد روايات الحديث في الباب
- شرح غريب ألفاظ الحديث
ولكتب أحاديث الأحكام شروحات متنوعة ومتفوقة، وضعوها حسب مستوى كل متلق، فينصح بالرجوع إلى أهل العلم عند اختيار الشرح.
[1] ذيل طبقات الحنابلة 2/252
[2] الإمام 1/24
[3] شرح الإلمام لابن دقيق العيد 1/ 26
[4] طبقات الشافعية الكبرى” للسبكي 9/ 212
[5] الطالع السعيد للأدفوي، ص: 575
[6] الدرر الكامنة 3/332