- المحكمون أثنوا على جزالة اللغة وصياغة المسائل العلمية بلغتها الاصطلاحية
- الكتاب يتتبع تطور المنطق من بعد ابن سينا إلى بداية القرن التاسع عشر
- حصلت من الوالد على مكافأة عن ترجمة قصة قصيرة وأنا في الصف الابتدائي
- سعدت كثيرا بالجائزة التشجيعية ضمن جائزة الشيخ حمد للترجمة
- أنصح المترجمين الشباب بالقراءة كثيراوفي كل المجالات
في دورتها الثامنة لعام 2022م، أعلن مجلس أمناء “جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي”، حصول الدكتور أحمد شكري مجاهد على فئة الجائزة التشجيعية، عن ترجمته كتاب “تطور المنطق العربي (1200- 1800م)” للدكتور خالد الرويهب. وفي هذا الحوار نتوقف مع د. مجاهد حول أجواء هذا الفوز، ونتعرف على مضمون الكتاب الفائز، وأهمية الترجمة وكيفية النهوض بها.
وقد أشار د. أحمد مجاهد إلى أن واقع الترجمة يشترك فيه ثلاثة أطراف: القارئ والمترجم والناشر؛ وأن كلاًّ منهم عليه دور في ذلك.. كما نصح شبابَ المترجمين بالقراءة المتنوعة في شتى المجالات؛ فـ”كلما اتسعت مدارك ومعارف المترجم، زادت موارده ودق فهمه”، على حد تعبيره.. فإلى الحوار:
كيف استقبلتم نبأ فوزكم بجائزة الشيخ حمد للترجمة؟
وصلتني رسالة على البريد الإلكتروني تخبرني بوصول كتابي إلى القائمة القصيرة، وكانت مفاجأة كبيرة وسعيدة لأني كنت أعلم بتقدم عدد كبير من الكتب الجادة هذا العام. ولم نعرف النتيجة النهائية إلا قبيل الحفل مباشرة، وقد سعدت جدا أن نلت الجائزة التشجيعية وسط منافسة قوية وكتب لمترجمين أكبر تاريخًا وسنًا مني، حتى إن المركزين الثاني والثالث تشارك في كل منها كتابان. وقد علمت أن عدد الكتب التي ترشحت لجائزة الشيخ حمد للترجمة هذا العام بلغ حوالي 230 كتابًا من أنحاء العالم العربي.
ماذا جاء في حيثيات جائزة الشيخ حمد للترجمة عن ترجمتكم؟
في جائزة الشيخ حمد للترجمة أثنى المحكمون على جزالة اللغة، والمجهود البحثي المبذول في ضبط صياغة المسائل العلمية في الكتاب بلغتها العلمية الاصطلاحية، وضبط الأعلام، ومطالعة مصادر المؤلف المطبوعة والمخطوطة، مع إضافة الحواشي اللازمة في مواضعها.
وماذا عن أصداء صدور ترجمة الكتاب، من قَبْل جائزة الشيخ حمد للترجمة؟
تُلقي الكتاب باحتفاء وقبول واسع بفضل الله، من جانبين؛ جانب أهمية موضوع الكتاب ونقده العلمي لمقولات استشراقية تزري بتاريخ العلوم العقلية في الإسلام، مع رسمه لخريطة تاريخية علمية نصية لمحتوى مصنفات المنطق العربية.. وإعادة نظره فيما شاع عن محتوى الشروح والحواشي، وتبيين أن هذه الأشكال التصنيفية في ذاتها ليست دليلًا على جمود في العلم، وإنما كانت بابًا واسعًا لجمع الآراء المعتبرة في المسائل العلمية وتناولها نقديًا في موضع واحد، وهو ما عرف عندنا بمنهج المحققين.
ومن جانب آخر، أثنى القراء على الترجمة؛ وقد أثلج ذلك صدري، فالكتاب صعب، أغلب قرائه ممن لهم اعتناء بعلم المنطق واصطلاحه. وكان من أجمل ما سمعت من عدد من الأساتذة والإخوة المتخصصين وصف ترجمة الكتاب بأنه كأنما كُتب بالعربية، كذلك ما أثنى به مؤلف الكتاب نفسه د. خالد الرويهب؛ حيث وصف ترجمة الكتاب بأنها جعلت محتوى الكتاب أدق من الأصل الإنجليزي. وليس وراء ذلك من ثناء ومكافأة على الجهد المبذول فيها والحمد لله.
نود أن نعرف القراء بمضمون الكتاب وأهم ما يرصده.
يتتبع المؤلف د.خالد الرويهب- وهو أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي بجامعة هارفارد- معالم تطور علم المنطق من بعد ابن سينا إلى بداية القرن التاسع عشر، وهو في ذلك يمحص مقولة لاكها الباحثون ومؤرخو الفكر بأن المنطق عند العرب توقف عند ابن سينا وأن ما تلاه من مصنفات هو محض “متاجرة بالشروح”، ودرجت الدراسات السابقة على اعتبار أن مجرد التأليف في شكل الشرح والحاشية يعني بالضرورة الإطناب والتحذلق والجمود.
أما في كتاب الرويهب فإنه يبحث هذه المسألة في بطون كتب المنطق التي كتبها أعلام كل عصر وكل إقليم، يقارن فلسفة بناء الكتاب في تأليفه وتغيرها من بعد ابن سينا، ويقارن تطور تناول المسائل العلمية عبر مؤلفات هؤلاء الأعلام، ثم يستقرئ منهجًا حاكمًا لطبيعة التطور ودوافعه وحاجاته، ويقارن بين عملية التطور هذه في أقطار العالم الإسلامي المختلفة.
بدأ الكتاب بذكر لمحورية دراسة المنطق في مدارس العالم الإسلامي العريقة، ودخوله بعمق في تأليف وتدريس أصول الفقه والعقيدة بل والنحو. ثم يعرض لما كان عليه علم المنطق قبل الفترة محل الدراسة؛ فيعرض وجيزًا لشيء من الخلاف بين الفارابي وابن سينا، وما أرساه ابن سينا من تغيرات وما أنشأه من مباحث.
ينطلق بعد ذلك في تتبع أبرز من ألف في علم المنطق في العالم الإسلامي فيقسمه زمنيًا وإقليميًا؛ فيبدأ بمقدمة نظرية ثم يتناول أعلام هذا الإقليم في العصر محل البحث ومؤلفاتهم وأهم خصائصها التي يستقرئ منها رحلة تطور المنطق. فبدأ بعرض عام للمنطق العربي منذ عام 1200 إلى 1350 ميلاديًا، وبدأ في العرض لأعلام شكّل نقدهم وتطويرهم للمنطق السينوي شكلًا جديدًا لما يجدر وصفه بالمنطق “بعد السينوي” مثل فخر الدين الرازي، وأفضل الدين الخونجي، وأثير الدين الأبهري، ونصير الدين الطوسي، ونجم الدين الكاتبي، وقطب الدين الرازي. يذكر ترجمة شديدة الإيجاز للعالم ثم يبسط القول في محتويات مؤلفاته وما ميز بعض المسائل العلمية بها عن سابقتها وما جرى من خلاف وانتقاد وتعقب وردود على الكتب السابقة، وحله للمسائل الخلافية والمواضع المشكلة من العلم وموقفه من الآراء السابقة.
وتتجلى أهمية تلك الفترة في تهذيب ما شعث من جهود ابن سينا، واستقرار شكل التأليف على الشكل “بعد السينوي” المخالف لما كانت عليه كتب المنطق قبله (وبعض كتبه هو)، فقد كانت كتب المنطق قبله تؤلف على منوال الأورغانون الأرسطي، فتغير ذلك إلى أن استقر إلى تقسيم العلم إلى تصور وتصديق ثم تقسيم دراسة المنطق إلى دراسة التصورات وما يسبقها من مباحث تمهيدية والكليات الخمس والدلالة اللفظية، ثم دراسة التصديقات وهي تتعلق بالقضايا والأقيسة. يتتبع المؤلف كيف تطورت مباحث لم تكن محل اهتمام في المنطق الأرسطي مثل القضايا الموجهة والمختلطات (الأقيسة ذوات الجهة) وخلاف المناطقة حول إنتاجية الشكل الرابع.
ثم يبدأ من عام 1350 التقسيم إلى تراث مشرقي، بزغ فيه عدد من علماء بلاد فارس (الذين عرفوا بعلماء العجم) ومن أشهرهم سعد الدين التفتازاني والشريف الجرجاني وجلال الدين الدواني؛ وكذلك يبدأ في الظهور عدد من العلماء العثمانيين من أبرزهم طاشكبري زاده. شكلت شروح وحواشي تلك الطبقة خريطة دراسة المنطق في مشرق العالم الإسلامي وامتد تأثيرها إلى يومنا هذا، وبدأت تتمايز باهتمامها الشديد بالمباحث التمهيدية ومباحث التصورات من كتب المنطق لاسيما مباحث الدلالة الوضعية، في مقابل اهتمام أقل نسبيًا بمباحث الأقيسة.
ثم ننتقل لبحث الفترة نفسها في المغرب العربي، فنرى اختلاف محل اهتمام المغاربة الذين كان جل مناطقتهم من الأصوليين الفقهاء فكان جل اهتمامهم بالأقيسة لدورها المهم في علم الكلام والفقه، فكانت مصنفاتهم على المقابل وجيزة التفصيل في المباحث التمهيدية شديدة التفصيل في الموجهات والمختلطات بما لم يكد يعرف في مؤلفات معاصريهم من المشارقة. ويقارن الكاتب بين هذا المحتوى وحجمه النسبي بين مؤلفات وشروح المشارقة والمغاربة وعمق تناول بعض المباحث بعينها. يعرض فصل تراث المغرب العربي من عام 1350 إلى 1600 إلى أعلام مثل الشريف التلمساني وابن عرفة التونسي ومحمد بن يوسف السنوسي.
بعد قيام الدولة الصفوية لم يعد المشرق الإسلامي إقليمًا متصلًا سياسيًا وثقافيًا، بل تمايز بذلك المشرق الإسلامي إلى ثلاثة أقاليم متمايزة سياسيًا وفكريًا وعقديًا؛ فإيران الصفوية قد فصلت بين الهند المغولية وتركيا العثمانية، ولذلك فقد أفرد المؤلف فصلًا لكل إقليم من الثلاثة يبحث فيه التطورات التي تظهر فيما ألف علماؤه من كتب في المنطق في الفترة بين 1600 إلى 1800 ميلاديًا.
أما في إيران فيتتبع المؤلف ظهور نزعة لمحاولة طي ما آل إليه شكل التأليف والبحث في المنطق والعودة إلى ما كان عليه المنطق عند “القدماء” يقصدون بذلك ما قبل ابن سينا، فكانوا أقرب إلى المنطق بصورته في الأورغانون الأرسطي.
ثم يعرج على تراث الهند الإسلامية المغولية في الفترة نفسها بين 1200 و1800، ويظهر فيها اختلاف منحى تطور دراسة المنطق والتأليف فيه اختلافًا بالغًا عما ظهر في إيران، فقد ألفت المتون الجديدة ونزعت الشروح إلى الاهتمام ببحث المغالطات المنطقية والتفصيل في حلها.
أما علماء الدولة العثمانية في تلك الفترة فقد بزغ اهتمامهم الذي لم يسبق في عمقه بآداب البحث والمناظرة، فصنفت فيه المختصرات والشروح والمطولات بما لم يبارِهم فيه أحد من علماء الأقاليم الأخرى على الإطلاق.
ثم نعود لنتابع ما آل إليه تطور المنطق في المغرب العربي ونلاحظ هنا دخول العلماء المصريين في سياق الكلام عن تراث المغرب العربي في المنطق.. ويستقرئ هذا الفصل كتابات علماء من المغرب والجزائر وتونس ومصر بل ومن نيجيريا؛ فنرى استقصاء النمط المشترك الذي نما في اتجاهه التراث المنطقي في تلك الأنحاء لعلماء مثل الحسن اليوسي وابن يعقوب الولالي، وما كان لتلامذتهم من أثر في مصر فتتلمذ على يدهم عدد من أعلام المعقولات في الديار المصرية مثل أحمد الملوي وأحمد الدمنهوري، ويذكر الكتاب بداية وصول التأثير المشرقي من خلال مصر إلى المغرب وبداية ظهور آثار ذلك في مصنفات مناطقة القرن الثامن عشر في المغرب العربي، وصولًا إلى ذكر أحد رموز المعقولات والفكر عامةً في مصر وهو الشيخ حسن العطار. ثم ينتقل المؤلف إلى صفحة منسية من تاريخ الفكر العربي فيعرض لأربعة من الرهبان المارونيين من الشام ممن درسوا في روما، وتعرضوا هنالك لما آل إليه المنطق من تطور على أيدي المناطقة اللاتينيين.
ويخلص الكتاب إلى أن الحكم على تراث منطقي في فترة تمتد إلى ستمائة عام في مساحة شاسعة من العالم الإسلامي، حين يقوم على استقراء حقيقي عميق لمحتوى إنتاج تلك العصور، مع دراسة ظروف تأليفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فإنه يبين لنا صورة حقيقية عن نمط واتجاه تطور المنطق، ويبين أن الأحكام المسبقة لم تعد تغني نفعًا عند محك النظر العلمي الناقد.
أليس غريبا أن طبيبًا يترجم كتابًا في المنطق؟ أم هي إعادة لسيرة علمائنا الأوائل ممن جمعوا بين الطب والفلسفة بفروعها؟
معك حق، قد يكون في الأمر نوع غرابة، لكن ذلك قد يزول إذا ذكرت ولعي بالأدب وبالعلوم الإنسانية عمومًا والعلوم العقلية خصوصًا قبل دخولي كلية الطب، ثم اختياري لتخصص أمراض المخ والأعصاب بالذات حتى أفهم الجانب البيولوجي من عملية التفكير وعلم النفس، ثم تلقيت شيئًا من العلوم الشرعية من المعقول والمنقول على الطريقة الأزهرية فدرست بعض المتون الدرسية بشروحها وحواشيها. وقد أفادني ذلك أيما إفادة في ترجمة الكتاب؛ فمن جانب كانت معرفة مظان المسائل المبحوثة في الكتاب والألفة بأهم المصنفات مدخلًا يسَّر كثيرًا من عملية الترجمة.. ومن جانب آخر فإن تدقيق الشروح والحواشي الدرسية في الألفاظ وتعلقاتها ودلالاتها، مما يفيد آلة المترجم جدًا في فهم النص بعمق وإعادة صياغته بلوازمه ومحترزاته.
وكما ذكرتم، فإن في علمائنا المتقدمين أسوة في الجمع بين العلوم.. ولعل الله تعالى يمن علينا بأن يعلمنا ويستعملنا في بعض ما جمعه لأولئك الأعلام المتقدمين.
كيف بدأت رحلتكم مع الترجمة؟ وما أبرز الكتب التي قمتم بترجمتها؟
بدأت رحلتي مع الترجمة منذ الطفولة؛ فإني نشأت في بيت أكاديمي له اعتناء كبير بالترجمة، فالوالد أستاذ الترجمة المعروف أ.د. شكري مجاهد، وهو الذي سقاني هذا الفن من الطفولة؛ ووالدتي د. نشوى ماهر وهي مترجمة قديرة صدرت لها العديد من الكتب المترجمة، وهي التي سقتني حب القراءة والاطلاع في العلوم والآداب المختلفة.
وأذكر أن أول ما ترجمت كان قصة قصيرة أعطانيها الوالد وأنا في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي، حين طلبت منه مبلغ خمسة جنيهات لشراء شيء ما لا أذكره- وكان مبلغًا كبيرًا بالنسبة لطفل في التسعينيات- فترجمتها وصحح لي الترجمة وأعطاني الخمسة جنيهات مكافأة لهذا العمل؛ فكان ذلك أول مبلغ من المال أحصل عليه من كدي.
وفي مراحل تالية من حياتي كنت أساعد الوالد في كتابة ترجماته على الحاسوب، وأطالع النص الإنجليزي من وقت لآخر حين يستوقفني موضع مما أكتب؛ فنمت لديّ حاسة الترجمة تدريجيًا. ثم بعد ذلك كان الوالد يعهد إليّ بمراجعة النص العربي من كتبه المترجمة لغويًّا وإملائيًّا؛ فاستمرت عملية التعليم العملي هذه، ثم ترجمت عددًا من المقالات في مجالات مختلفة على الإنترنت، إلى أن ترجمت أول كتبي وهو مذكرات عالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان، ثم كتاب “الجينوميات والطب الشخصي.
وقد أثنى عليها بحمد الله عدد من القراء المتخصصين في العلوم والفيزياء والطب. وفي خلال ذلك عملت مع الوالد في ترجمة وتحرير كتاب “مسألة العربي في إنجلترا العصور الوسطى”؛ حيث توليت عملية البحث عن النقول وترجمة نصوص الإنجليزية الوسيطة واللاتينية في الكتاب.
ثم عُهد إليّ بترجمة كتاب “تطور المنطق العربي (١٢٠٠-١٨٠٠)” مع مركز نهوض، وكانت نقلة كبيرة في الجهد المطلوب؛ فتوفرت لأسابيع على المذاكرة الصرفة لعلم المنطق من كتبه المعتمدة، واستمرت عملية التعلم هذه طوال فترة ترجمة الكتاب مع التواصل الدائم مع المتخصصين في المعقولات والمخطوطات لضبط ما يشكل، ثم تواصلت مع مؤلف الكتاب لسؤاله في عدد من المواضع التي أوقفني البحث فيها على خلاف ما قرر في الكتاب، فأقرني على أكثرها وطلب مني تعديل النص العربي ثم اطلع على نص الترجمة بالكامل، وقبل اقتراحي بإضافة مدخل للطبعة العربية توليت كتابته بنفسي وراجعه المؤلف ونقحه وأضاف له.
كيف ترون دور الترجمة في إثراء الفكر الإنساني وإحداث التفاعل بين مساراته وبيئاته؟
الترجمة من أركان إثراء الفكر الإنساني، ولا سيما ما أسميه “الترجمة النقدية”؛ التي يقوم بها مترجِم له معرفة بالعلم الذي يترجم فيه في الثقافتين المنقول منها وإليها. فيتجاوز بالترجمة محض نقل المعاني، إلى إثراء الكتاب المترجَم بنتاج تلاقح الثقافتين المنقول منها وإليها؛ إما بالمقارنة أو ضبط الاصطلاح أو شرح بعض ما قد يشكل أو حتى تحرير ما لم يحرر في المتن الأصلي.
ثم إن الترجمة يعرف بها ما يشغل عقول الثقافات الأخرى في المجالات المختلفة، ويقع على عاتقها تبيين ما سبقت به الأمم الأخرى أو تفردت، وما قد يكون لها من منظور مغاير لمسائل تهمنا في التاريخ والسياسة والعلوم، سواء كان في دراساتهم عن شؤوننا أو في الشؤون التي تعم العالم كله. وفي كتاب “مسألة العربي” المذكور آنفًا قصة بدء النهضة الأوروبية بحركة ترجمة واسعة للمؤلفات العربية في العصور الوسطى، وفيه تتبع لأوائل الكتب التي ترجمت إلى اللاتينية وغيرها.
ما أهم السبل للنهوض بواقع الترجمة في عالمنا العربي؟
واقع الترجمة يشترك فيه أطراف ثلاث: القارئ والمترجم والناشر. أما بالنسبة للقارئ فالاهتمام بنشر ثقافة القراءة الجادة عمومًا فيزداد معها الإقبال على الكتب المترجمة، ونشر ثقافة مراجعة الكتب الجادة ومناقشتها بين جمهور القراء، فلا يقتصر ذلك على فئة محدودة متخصصة. وسيساعد ذلك أيضًا على الارتقاء بمستوى الترجمات المقدمة، بسبب وجود مجتمع قارئ ناقد للترجمات التي لا ترقى للمستوى المرضي، وهي شائعة للأسف.
وأجد أن المجتمع القارئ الناقد المميز للأعمال المتقنة، محرك لأطراف هذا الواقع الأخرى. وهذا ينتقل بنا إلى المترجم؛ فالنهوض بأحوال المترجمين يكون أولًا بوجود جهات موثوقة تشرف على الإعداد الجيد للمترجمين، من جانبي إتقان العربية واللغة الأجنبية على المستويين النظري والعملي، مع تحصيل عدد من المعارف العامة وأدوات البحث الضرورية للمترجم. أما بالنسبة للناشرين فانتقاء المترجمين المتقنين المتخصصين، مع وجود مشرفين في الدور الجادة يتأكدون دوريًا من جودة الترجمات المقدمة، وقدرة المترجمين على ترجمة كتب في تخصصات بعينها لا يحسن ترجمتها إلا من له ألفة بها. هذا بالإضافة إلى تقدير جهود المترجمين المتقنين ماديًا ومعنويًا. واقع الترجمة في عالمنا العربي، ينهض بثقافة القراءة عمومًا.
من خبرتكم العملية.. ما النصائح التي تقدمونها لشباب المترجمين؟
القراءة ثم القراءة ثم القراءة. القراءة في كل شيء. لا أحصي المرات التي استفدت فيها في أثناء الترجمة في مجال معين، من قراءة في مجال آخر لا علاقة له به. فأذكر مثلًا أني كنت أترجم مقالًا في الفلسفة يستعير مجازًا من عالم الملاكمة، فكنت أعرفه من القراءة في بعض سير الملاكمين الذاتية.. ويصعب فهم الصورة المجازية المقصودة بمجرد قراءة معنى الكلمة من دون ألفة بهذا العالم. فكلما اتسعت مدارك ومعارف المترجم زادت موارده ودق فهمه.
كذلك فإني أجد أن الإعداد العلمي الشرعي التقليدي، بقراءة الشروح والحواشي الدرسية، له فائدة جمة في بناء ملكة تحليل لغوي لدى المترجم؛ فإن كثيرًا من هذه الكتب تُعنى بتحرير لماذا اختار المصنف هذه الكلمة وليست كلمة أخرى، وكيف احترز بهذا التعبير عما سواه، وإلامَ يشير هذا الضمير، وهلم جرًا. فلذلك أثر كبير في دقة الأداة اللغوية لدى المترجم، وفهمه سير الجمل المعقدة، وتمييزه لأسباب إشكال بعض التعبيرات.
وماذا عن جديدكم في المترجَمات؟
يصدر قريبًا بإذن الله عن مركز نهوض كتاب “تاريخ الفكر الإسلامي في القرن السابع عشر” لخالد الرويهب. والكتاب يرصد بمنهج مؤلفه النصي طبيعة التيارات الفكرية التي كانت في العالم الإسلامي، ولاسيما في الدولة العثمانية والمغرب العربي في القرن السابع عشر، ممحصًا المقولات الشائعة التي تصم تلك الفترة بالجمود والتقليد، أو معاداة العلوم العقلية.
فالكاتب ينظر في تراث عدد من أهم علماء تلك الفترة وحياتهم الاجتماعية والفكرية، ملخصًا عددًا من أهم مصنفاتهم مع إبراز جهودهم وأفكارهم التي لم يسبقوا إليها في مصنفات العصور السابقة.