الحديث عن أوصاف وأحوال فتن آخر الزمان ، وعن الموقف الأمثل للمسلم لاتقائها والسلامة منها ، حديث مهم ، وضروري للنجاة منها ، والسلامة من شرها ، خاصة في هذه الأيام العصيبة ، التي توالت فيها الفتن وتنوعت ، وعمت وطمت ، عافانا الله جميعا من شرورها .
لقد حذرنا الشرع المطهر من الفتن التي تقع في آخر الزمان ، كما جاء ذلك في قوله ﷺ : « يتقارب الزمان ، ويقبض العلم ، وتظهر الفتن ، ويُلقى الشّح ، ويَكثر الهَرج ، قالوا : وما الهرج ؟ قال : القتل » متفق عليه .
ونظرا لكثرة الفتن ، وشدة خطرها على العبد ، وردت نصوص عديدة تحذر من الوقوع فيها ، وأفرد لها العلماء والمحدثون فصولاً وأبوابا في كتبهم ومصنفاتهم ، للحديث عنها ، وعرض سبل النجاة منها .
وقد قال النبي ﷺ : « إن عظمَ الجَزاء مع عظم البلاء ، وإنّ الله إذا أحبّ قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السُّخط » رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أنس رضي الله عنه .
ما الحكمة من الفتن والبلايا خاصة فتن الدين ؟
لقد خلق الله تعالى الخلق لحكمٍ بالغة ، وغايات سامية ، كما قال سبحانه {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (الذاريات : 56) . فخلق الثقلين الجن والإنس لعبادته ، وحده لا شريك له ، والعبادة هي : اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال ، الظاهرة والباطنة ، فيجب تعلمها وأداؤها على وجهها والإخلاص فيها لله تعالى.
ومن سنن الله تعالى في خلقه ابتلائهم وامتحانهم ، حتى يتبين الصادق في إيمانه ، الصابر على بلائه ، من ضده وهو الكاذب أو الضعيف في إيمانه ، ومن يجزع عند بلائه ، قال تعالى: { أحسبَ الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } (سورة العنكبوت:2-3 ) .
أي : فليعلمن الله ذلك ظاهرا يظهر للوجود ، ليترتب عليه الجزاء ، ويظهر فيهم ما علمه الله منهم في الأزل بعلمه السابق ، إذ أن الله تعالى من رحمته : أن لا يعاقب عباده على ما علم أنه سيكون منهم ، قبل أن يعملوه ، وقال سبحانه {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (سورة الأنبياء:35) .
وكما قال نبيه ﷺ : « إن عِظمَ الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السُّخط » أخرجه الترمذي وابن ماجة .
ومعنى الفتنة في اللغة : الابتلاء والاختبار والامتحان . وأما في الاصطلاح : « فالفتنة ما يَعرض للعباد من بلايا ومحن ، في أمور دينهم أو دنياهم ، فتظهر سرائرهم ، وتنكشف حقائقهم ».
وقد وردت الاخبار عن وقوع فتن آخر الزمان وكثرتها وشدتها آخر الزمان ، وإن من رحمة الله بنا أن أرسل إلينا نبيا كريما رؤوفا رحيما ، حذرنا من كثرة الفتن وشدتها ، كما في قوله ﷺ ” يتقارب الزمان ، ويقبض العلم ، وتظهر الفتن ، ويلقى الشح ، ويكثر الهرج ” . قالوا: وما الهرج ؟ قال : ” القتل ” متفق عليه .
وعن فتن آخر الزمان قال ﷺ :« بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل» رواه مسلم . ونظرا لكثرة الفتن وشدة خطرها على العبد ، وما ورد من النصوص المبينة لها المحذرة من الوقوع فيها ، أفردها العلماء بفصول وأبواب في كتبهم كأصحاب الصحيح والسنن كما سبق .
ما أحوال فتن آخر الزمان وأوصافها والتي حذّر منها النبي ﷺ ؟
لقد جاء في الأحاديث المتنوعة وصف الفتن بصفات كثيرة ، نظرا لتنوعها واختلافها وأحوالها . فمما وصفت به الفتن ما يلي :
أولا : وصف الفتن بأنها كقطع الليل المظلم ، أي : أجزاء الليل ، كما في قوله ﷺ: « بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم » رواه مسلم ، فشبهت الفتن في ظلمتها ولبسها على العباد ، بقطع الليل المظلم .
ثانيا : وقوع الفتن كرياح الصيف ، أي : في تتابعها ، وسرعة مجيئها ، وتنوعها كما في حديث حذيفة رضي الله عنه : عن النبي ﷺ – أنه قال وهو يعد الفتن – « منهن ثلاثٌ لا يكدن يذرن شيئا ، ومنهن فتنٌ كرياح الصيف ، منها صغار ومنها كبار » رواه مسلم .
ثالثا : أنها يرقّق بعضها بعضاً ، أي : تتعاظم الفتن مع مرور الزمن ، حتى تكون الفتنة السابقة كأنها رقيقة ، أي : هينة قليلة ، لشدة ما بعدها ، وهكذا الأمر بازدياد ، كما في قوله ﷺ : « إنه لم يكن نبيٌ قبلي ، إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ».. الحديث رواه مسلم ، وفيه : «وتجيء فتنة فيرقّق بعضها بعضا ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه » أي : هذه التي ستهلكني .
رابعا : أنها تموج كموج البحر : كما ثبت في الحديث : أن عمر رضي الله عنه قال : أيكم يحفظ قول رسول الله ﷺ في الفتنة ؟ فقال حذيفة : أنا أحفظ كما قال ، قال : هات، إنك لجريء قال : قال رسول الله ﷺ : « فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة ، والصدقة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » قال عمر : ليست هذه ، ولكن التي تموج كموج البحر»… متفق عليه . وقد شبهت بذلك لشدة اضطرابها ، واضطراب الناس فيها ، واختلال أحوالهم معها.
خامسا : أنها تُعرض على قلوب العباد فتنة فتنة وشيئا فشيئا : وتختلف فيها أحوال العباد تجاهها ، فمن تقبلها ضلّ وهلك ، ومن ردّها ونفاها اهتدى ونجا ، كما في قوله ﷺ : « تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عودا ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكته سوداء ، وأي قلبٍ أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصّفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربادا ، كالكوز مُجخيا ، لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا ، إلا ما أُشرب من هواه » الحديث متفق عليه.
ما أسباب الوقوع في الفتن حتى يجتنبها المسلم فينجو؟
أسباب الوقوع في الفتن كثيرة متنوعة ، فمن أسباب الوقوع فيها :
1- الجهل : والجهل آفة عظيمة ، وداء عضال ، وهو مع الظلم أصل كل شر وبلية ، كما قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } الأحزاب: 72 .
والمراد به الجهل بالله وبدينه وشرعه وبنبيه ﷺ وسيرته وهديه ، وعدم معرفة ذلك على الحقيقة ، وعدم فهم الدين كما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم ، أهل العلم والتقى والاستقامة على الصراط المستقيم ، فمن لم يعرف الحق كيف يتبعه ؟ ومن لم يعلم السنن كيف يطبقها ويعمل بها ؟ وكيف تكون له نية المتابعة وهو لا يعرف ما يتابع فيه ؟ فالجاهل يسير على غير هدى ولا منهاج .
2- الهوى : فاتباع الهوى يهوي بصاحبه في نار جهنم ، إذ ليس له إمام يتبعه بحق ، بل يتبع ما تهواه نفسه بدون ضابط ، والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، قال تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم )، وقال سبحانه : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } سورة النجم :24 .
فالمؤمن متبع الهدى ، لا متبع الهوى، وقال تعالى : ( ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ).
3- التشدد والتنطع في الدين : وذلك من أعظم أسباب الوقوع في البدع والفتن ، فالتشدد وتضييق الشريعة الواسعة السمحة الميسرة ، يوقع صاحبه في الحرج والعسر ، وهو مضادة للشريعة الحقة ، ومخالفة لها ، فقد قال الله تعالى عنها {وما جعل عليكم في الدين من حرج } الحج :78 ، وقال ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )، البقرة: 185 وقال ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) البقرة :286، وقال ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) سورة الطلاق :7 .
وقال النبي ﷺ : « إنّ الدين يسرٌ ، ولن يشادّ الدين أحدٌ إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة ، وشيء من الدلجة » رواه البخاري . وقال ﷺ : «يسّروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا » متفق عليه . وقال :« أرسلت بالحنيفية السمحة» رواه الإمام أحمد وغيره .
والتنطع في الدين سبب للهلاك ، كما قال ﷺ : «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا. رواه مسلم .
فمن التشدد التسرع في التكفير والتفسيق والتبديع للمخالف دون بينة ولا برهان ، ودون النظر في تحقق شروط الحكم ، وانتفاء موانعه ، وكذا التسرع في تغيير المنكر ، ولو كان في غير استطاعته ، أو حدود مسؤوليته ، ولو ترتب عليه منكر أعظم منه ؟! وكذا المبالغة برفع بعض المستحبات إلى درجة الواجبات ؟ أو بعض المكروهات إلى مقام المحرمات ؟!
4 – كيد أعداء الله لهذه الأمة على اختلاف أصنافهم من يهود ونصارى، ومنافقين، ومرجفين، وأهل أهواء وغيرهم ، قال تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) ، وقال سبحانه ( ود كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسداً من عند أنفسهم ) ، وقال تعالى ( وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم…) .
فأهل الباطل يبغون للحق وأهله الغوائل ، ويكيدون لهم المكائد ، ظاهرا وباطنا ، بالطعن في الدين والتشكيك فيه وفي معتقداته وشرائعه وأحكامه وسننه ، وبث الشبهات ، والدعايات المضللة ، ليصدوا المسلمين عن دينهم ، ويزينوا لهم الأديان الباطلة ، والمذاهب الفاسدة ، فهم أعوان إبليس الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير .
إذن ما أسباب النجاة مما ذكرتم من فتن عظيمة ؟
لقد تركنا نبينا ﷺ على المحجة البيضاء، ليلها ونهارها سواء ، لا يضل عنها إلا هالك ، وكان من بيانه لنا أن بين لنا أسباب النجاة والوقاية من الفتن ، فمن أسباب النجاة من الفتن ما يلي :
أولا : الاعتصام بالكتاب والسنة ، وفهمهما على ضوء فهم السلف الصالح ، وذلك يعنى العلم بدين الله تعالى ، والعمل بذلك العلم والتمسك به ، بعد فهمه على ضوء فهم السلف الصالح رضي الله عنهم ، وذلك ليبقى الفهم منضبطا صحيحا ، والمنهج قويما ، والتمسك بالكتاب والسنة النبوية هو أعظم أسباب العصمة والنجاة من الفتن ، قال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذْ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حُفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آيته لعلكم تهتدون } آل عمران: 103 .
وقال { فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمةٍ منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما} النساء :175.
وقال نبيه ﷺ : « تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تهلكوا ولن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتي».
وقال : « إنّ هذا القرآن طَرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ، ولن تهلكوا بعده أبداً » رواه ابن حبان ، وصححه الألباني.
ثانيا : الأخذ عن العلماء الربانين ، المشهورين بالاتباع ، والصلاح والاستقامة ، والرجوع إليهم ، والأخذ عنهم ، والالتفاف حولهم وتوقيرهم ، فقد أمرنا الله تعالى بذلك ، فأمرنا بسؤال أهل العلم بالكتاب والسنة ، فقال { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } النحل :43.
وقال مؤدبا لهم { وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } سورة النساء: 83.
وقوله ﷺ : « ليس منّا من لم يَرحم صغيرنا ، ويُوقر كبيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه » رواه أحمد وغيره .
فالواجب الأخذ عن العلماء الراسخين في العلم ، الذين يعظّمون السنة النبوية ويظهرونها ، ويدعون إليها ، ويحرصون على جمع الكلمة ولم الشمل ، فطاعتهم سداد ، والأخذ عنهم هدى ورشاد ، كما أمر الله تعالى بذلك فقال : (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) النساء . وأولوا الأمر على التحقيق هم : العلماء والأمراء ، كما نص على هذا غير واحد من الصحابة وغيرهم ، فالعلماء يلون أمر الدّين ، والأمراء يلون أمر الدنيا ، وبهذا تستقيم الأمور ، وقد تقدم الحديث : « إنّ الله لا يقبض هذا العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ، ولكنه يقبضه بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما ، اتخذ الناس ُرؤوسا جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
ثالثا : لزوم الجماعة ، وطاعة أولى الأمر : فإن الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، ويد الله على الجماعة ، ومن شد شذ في النار ، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ، ومن خرج على الطاعة وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية ، دل على كل هذا أحاديث نبوية صحيحة عن المصطفى ﷺ .
وفي الحديث أيضا : « ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاصُ العمل لله ، ومناصحة أولياء الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم » .
فهذه الثلاث تنقي القلب، ولا يبقى فيه مع وجودها غشٌ ولا دغل فيه ، فيسلم من الفتن.
رابعا : تقوى الله تعالى وطاعته ، فهي من أعظم أسباب الوقاية والنجاة من الفتن ، كما قال ربنا تبارك تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } الطلاق:2 . وقال : { ومن يتقّ الله يجعل له من أمره يسراً } سورة الطلاق :4 . وقال : { يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } الأنفال . أي: بصيرة وقدرة على التفريق والتمييز بين الحق والباطل ، والخير والشر ، والهدى والضلال .
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه : في وصية رسول الله ﷺ للصحابة ، كان أول ما أوصاهم به التقوى ، فقال : « أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة » . فالتقوى أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية ، باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه .
نسأل الله تعالى أن يعصمنا جميعا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، إنه سميع مجيب .