للنفس الإنسانية جانب تتعلق فيه بآفاق السمو والرقي، وترنو به إلى روحانية تحلِّق في رحاب الإيمان والفكر والذكر؛ كما أن لها جانبًا آخر لا تنفك عنها فيه المخاوفُ والوساوس، ولا يدعها القلق والاضطراب؛ حتى لكأنّ النفس في الحالة الأولى هي غيرها تمامًا في الثانية؛ وهو ما نستطيع أن نتلمسه في مضامين أذكار الصباح والمساء، التي هي صورة لمثالية الإسلام وواقعيته. والإسلام لا يتعامل مع النفس الإنسانية على غير طبيعتها، ولا يطلب منها أن تكون غير نفس إنسانية! إنما يتعامل معها كما هي، ويريد منها أن تظل إنسانية، لا تتحول إلى ملائكية ولا ترتكس إلى شيطانية! نفسٌ إنسانية إذا أذنبت استغفرت، وإذا غفلت انتبهت، وإذا فترت استجمعت، وإذا مسّها الشيطان تذكّرت وأبصرت، وإذا أحاطتها المخاوف لجأت واطمأنت؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201). وقال أيضًا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء: 64). فهذه الواقعية في التعامل مع النفس الإنسانية، مع الارتقاء بها والرقي بأحوالها؛ ميزة كبرى من ميزات الإسلام، وسر من أسرار إشعاعه النافذ باستمرار؛ فلا يكلّف الإنسانَ شططًا، ولا يحمّله عنتًا، ولا يخاطبه بغير ما هو مستطيع، ولا يتصوره مَلَكًا يستقيم على الطاعة أبدًا؛ قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} (الحج: 78). إن أذكار الصباح والمساء هي النسيم الرقراق الذي يستروح به المؤمن في صبحه ومساه، وهي الروضة التي يتنعم فيها ويستجمع في رحابها شتات نفسه.. إنها نفحة من نفحات القرآن، وفيض من أنوار النبوة!! هذه الأذكار تخاطب الإنسان بما هو إنسان.. بما فيه من سمو وتحليق في آفاق علوية إيمانية، وبما فيه من مخاوف وهموم دنيوية.. فتلمس قلبه بحنو، وتغسل أوضاره برفق.. فإذا المسلم بعدما تشبّعت نفسُه من أنوارها نجده منشرح الصدر، مطمئن القلب، مرتاح الخاطر، متوكلاً على ربه، واثقًا من تدبير مولاه، مستخِفًّا بوساوس الشيطان، مزدريًا أثقال الدنيا وأوجاعها..
آفاق وتحليق
في آفاق الإيمان، وتحليق الروح بأذكار الصباح والمساء:
نقرأ: «أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»: وهو ذكر يجعلنا نستشعر وجودنا ضمن إطار كلي يشمل الوجود كله، متجهين إلى الله سبحانه صاحب الملك، ومستحِقِ الحمد، لا ندّ له ولا شريك.
ونقرأ: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». وهو ذكر يوجهنا إلى استحضار أصل فطرتنا النقية، ويوجّهنا إلى كلمة التوحيد، ويصل ذلك كله بشريعة نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
ونقرأ: «اللَّهُمَّ مَا أصبح بِي من نعْمَة أَو بِأحد من خلقك، فمنك وَحدك لَا شريك لَك؛ فلك الْحَمد وَلَك الشُّكْر». وهو ذكر عجيب!! إذ فيه يعبِّر المسلم لا عن حاله هو وحده فحسب، وإنما يضم حاله مع غيره من خلق الله، مقرًّا بأنهم جميعًا صنعة ربهم، ومحلُّ فيضه وكرمه. وقد جاء في فضل هذا الذكر أن «مَن قَالَه حين يُصْبِحُ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ؛ وَمَنْ قَالَه حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ».
ونقرأ: «اللَّهُمَّ إني أصْبَحُتُ منْكَ في نِعْمَةٍ وَعافِيَةٍ وَسَتْرٍ، فأتِمَّ نِعْمَتَكَ عَليَّ وَعَافِيَتَكَ وَسَتْرَكَ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ». وهذا الذكر من قاله «ثَلاثَ مَرَّاتٍ إِذَا أصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى، كان حَقّاً على اللَّهِ تَعالى أنْ يُتِمَّ عليه». ففيه إقرارٌ بما يغمرنا من نعمة الله تعالى وعافيته وستره؛ ثم دعاءٌ بإتمام ذلك واستدامته، في الدنيا والآخرة، مع ما في ذلك من توجيه لأنظار باستحضار أمر الآخرة دئمًا، وبعدم الفصل بينها وبين الدنيا.
والأذكار كثيرة مما تحلق بروح المسلم في آفاق علوية إيمانية، وتجدِّد من نفسه الإقرارَ والاعتراف بوحدانية الله تعالى ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ليس في حقنا فحسب، وإنما أيضًا في حق خَلْق الله جميعًا.. ويا لها من مشاركة وجدانية جماعية في رحاب الإيمان والنعم!!
واقعية وطمأنة
ثم نأتي للمحور الثاني الذي تدور عليه أذكار الصباح والمساء، وهو محور الاعتراف بواقعية النفس الإنسانية، من حيث إنها قابلة للخوف والفزع، وقلقة على الحاضر والمستقبل، ومضطربة لما يصيبها من همّ أو غمّ أو دَين أو مرض.. نعم، لا حرج أبدًا من كل هذه المشاعر والنوازع؛ فهي من طبيعة الإنسان لا يمكنه أن ينفك عنها. المهم:
أن يعرف لمن يتوجه، إذا أصابه شيء من ذلك؟
وكيف يتعامل نفسيًّا مع هذه العوارض؟
وكيف يخرج منها مهاريًّا؟
وتأتي أذكار الصباح والمساء، لتشير إلى بعض العوارض صراحة، ولتمسح على نفس المسلم بيد حانية شافية تحفظه من الآثار السلبية لها.
فنقرأ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ». وهو دعاء جامع علَّمه النبي ﷺ لأبي أمامة، وهو رجل من الأنصار.. فلما قال أبو أمامة هذا الدعاء، أذهب الله همه، وقضى عنه دينه.
ونقرأ: «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»: وهل أحب للمرء من العافية؟ ففي حديث آخر: « سلوا الله العافية؛ فما أُعطِي عبد بعد اليقين أفضل من العافية».
وهو حديث شريف ينبه على خطورة الكفر والفقر، ويشير إلى ما بينهما من صلة، ويشير أيضًا من طرف خفي إلى أن الدين جاء لينفي عن الإنسان ذلَّ الحاجة، بخلاف ما قد يُظَنّ.. ثم يجمع إلى ذلك، الاستعاذةَ من عذاب القبر، منبِّهًا على أن (كلمة التوحيد) فيها النجاة. ثم يأتي (سيد الاستغفار) ليرسم للمسلم طريق النجاة، وليدله على ضرورة التوبة، وسرعة الأوبة.. فالخطأ وارد، والنقص حاصل، والغفلة ليست منفية بالكلية.. المهم، المبادرة والاستغفار والندم والعزم، وعدم الاستسلام لوارد الهوى، ونزغة الشيطان..
نعم إنها روضة أذكار الصباح والمساء، تتجلى فيها مثالية الإسلام وواقعيته في تعامله مع الإنسان.. فلا يتصوره مَلَكًا لا يخطئ، ولا شيطانًا رجيمًا.. إنما هو إنسان.. يجاهد نفسه، ويبادر إلى ربه، ويصيبه الهم والقلق، ويخشى من المرض والفاقة، ويستزله الشيطان بوسوسته.. وفي كل هذه الحالات وغيرها، على المسلم أن يعرف كيف ينتزع نفسه من الغفلة، وكيف يطرد القلق والوهم عن خاطره، وكيف يرتقي بأحواله وإرادته، وكيف يلجأ إلى رحاب ربه ويطمئن بذكره.. ولا شك في أن أذكار الصباح والمساء هي خير معين على ذلك، وهي للنفس الإنسانية علاجٌ بأدعيتها الشافية الحانية..