ما المنظومة التربوية إلا مرآة عاكسة لثقافة المجتمع وتوجهاته الحضارية والفكرية، وما يطمح أن يكون عليه أفراده في المستقبل، فالتربية هي أداة لنقل المعرفة، وتربية الأفراد، وإعدادهم إعدادا خلقيا وقيميا وفكريا وعلميا، بجانب الإعداد السلوكي والمهاري حسب التخصصات العلمية والتقنيّة المرادة. لذا، فإنه من الأهمية بمكان أن تكون هناك استراتيجية تحدد بوصلة العملية التربوية، وتضع أسسها، وتبيّن طرائقها التي ينبغي أن تسير فيها، ولا يمكن -بأي حال- تجاهل الإرث الحضاري والثقافي للمجتمع العربي والإسلامي، فكل المجتمعات في العالم، تسعى من خلال نظمها التربوية إلى توريث ثقافتها، ونقلها إلى الأجيال الجديدة، كي تحافظ على هويتها، ضد الغزو الثقافي.
وهو ما يؤكده حسن الحياري بأن الإنسان –عبر تاريخه الطويل- استخدم التربية كوسيلة لتحقيق أهداف متعددة؛ يرى أنها أسباب لسعادته، وإشباعٌ لطموحه، ولكن هذه الأهداف كانت وما زالت -وستبقى- متجددة ومتنوعة، من عهد إلى آخر، ومن قرن إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، فهدفها تطبيق ما يأمله المجتمع للأبناء والناشئة([1]).
فالتربية ليست عملية جامدة، تنقل معلومات متوارثة، بل هي عملية تتضمن الثوابت الأخلاقية والقيمية، وفيها مرونة توجب عليها التعاطي مع الجديد في العلوم والفنون والابتكارات. ومن الخطأ حصر التربية في منظورها الحضاري على الجانب التقني والعمراني، فالتربية معبرة عن البنية الاجتماعية والأخلاقية والفكرية التي يرومها المجتمع.
وكما يشير سعيد إسماعيل علي، فإن النظام التربوي بصفة عامة، والفكر التربوي بصفة خاصة، إنما هو منظومة فرعية من نظام أكبر؛ هو البنية الاجتماعية العامة..، فلابد من استقراء الأبعاد الحضارية للبنية المجتمعية، والتعرف على تراثه التربوي، والنظر في كيفية الاستفادة منه في المنظومة التربوية المعاصرة([2]).
ومن هنا، نشدد على أن التربية عملية هادفة ومقصودة وموجهة -كما يقرر صلاح العرب عبد الجواد-، يقوم المربون من خلالها بتقديم مواد علمية، ومواقف تربوية؛ وقيما وأخلاقا تُنْتِجُ تغيراتٍ في السلوك الإنساني، مع الأخذ في الحسبان أن التربية أعم من التعليم، لأنها تتناول شخصية الفرد كله، فهي أعم وأشمل ([3]) من التعليم الذي قد يكون محددا مؤطرا، في مرحلة دراسية ما، أو تخصص ما،
بما يعني عدم حصر مفهوم التربية في المدارس والجامعات والمعاهد، وإنما هي عملية مجتمعية شاملة، تساهم فيها الأسر والعائلات، ومؤسسات التوجيه المعنوي والإعلامي.
أما علاقة التربية بالحضارة، فهي علاقة أكيدة، فأي مجتمع إنساني ساع إلى التقدم والنهضة؛ لابد أن يضع رؤية حضارية له، يستفيد فيها من تراثه الثقافي، وكذلك من حضارات الأمم الأخرى، وكما يشير وِلْ ديورانت في تعريفه للحضارة بأنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي([4])، وهذا لا يعني أن هدف الحضارة هو الجانب الثقافي فقط، والذي هو معنوي، فالحضارة -كما يوضح ديورانت- لها جوانب أربعة، هي الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وتبدأ الحضارة حيث ينتهي الاضطراب والقلق، ويأمن الإنسان من الخوف، وتتوافر فيه عوامل الإبداع والإنشاء، للمضي في طريقه لفهم الحياة وازدهارها([5]).
ولكن المحور الذي يؤكد عليه ديورانت أن أية حضارة تتأسس على ما يمتلكه المجتمع من تراث أخلاقي وروحي، فيما يسمّى “الضمير”، والذي يتطور ويصبح وعيا اجتماعيا، بما يشعر الفرد أنه منتمٍ إلى مجتمع وجماعة، لها أخلاقيات، ويقدم لها الولاء والاحترام، فما الأخلاق إلا تعاون الجزء مع الكل، والمدنية أو الحضارة تستحيل بلا أخلاق([6]).
وهذا ثابت، ولابد من الانتباه إليه، عندما نقرأه في دائرة التربية الحضارية، فلابد من غرس الوعي بأن الحضارة تبدأ بالميراث الروحي للمجتمع، وتنضبط بمرجعيته الأخلاقية والقيمية، كي يمتلك الفرد/ الطالب ثوابت محددة، تمنعه من السقوط في الاستلاب الحضاري للآخر.
تلك الرؤية التي يعمّقها ألبرت أشفيتسر بأن الحضارة التامة (المكتملة) إذا حددناها من الخارج، وعلى نحو تجريبي، فإنها عبارة عن تحقيق كل تقدم ممكن في الكشف والاختراع، وفي تنظيمات المجتمع الإنساني، وأن تعمل من أجل التكميل الروحي للأفراد، الذي هو الهدف النهائي للحضارة([7])، مؤكدا أن الحضارة الغربية تسير في طريق الانهيار، بسبب إفراطها في المادية، وترك الأخلاق يقررها المجتمع، لا أن تمتاح من ميراثها الديني([8]).
فالكارثة أن تكون الأخلاق محددة من قبل المجتمع، بدون مرجعية روحية، خاصة إذا تلاعب الساسة وذوو المصالح والأهواء به، وتصبح الطامة الكبرى بإسباغ الصبغة القانونية على الأخلاق التي يتوافق عليها المجتمع، ويتناسى أفراده تراثهم الروحي الإنساني([9]). والمثال على ذلك شرعنة الإجهاض، والإباحية، والشذوذ الجنسي، بل وتدريسها في المدارس الغربية، منذ مراحل التعليم الأولى، تم فرض تعليم المثلية الجنسية والعلاقات خارج الزواج في غالبية دول أوروبا وأمريكا الشمالية، تحت شعارات الحرية، ورفض هيمنة الآباء على أخلاق الأبناء، وأن الفرد يحدد هويته الجنسية كما يرغب([10]).
وتذكر نهى القاطرجي أن الشذوذ الجنسي لا يوجد تفسير علمي ثابت له، ولا يمكن أن يكون وراثيا أو بالخلقة، كما يدّعي البعض، وقد اكتسب شرعيته منذ الثورة الجنسية خلال العقد1970 -1980م،مدعوما من قوى سياسية واقتصادية ومنظمات المجتمع المدني، ثم اكتسب حضورا في المناهج الدراسية، تحت شعار حق الفرد في تحديد هويته الجنسية واختيار ما يروق له، بدون وصاية أسرية أو دينية([11])، وفي المنظور النفسي التربوي فإن أهم أسباب الشذوذ الجنسي؛ وجود خطاب مجتمعي متساهل، يدعو إلى العلاقات التحررية، ويشجع على العلاقات غير التقليدية، بجانب عيش الطفل في أسرة مفككة، يغيب فيها الأب، وتتسلط الأم، مع اعوجاج في تربيته الجنسية المبكرة، والعلاقة مع رفاق السوء، أو تعرضه إلى تحرش أو اغتصاب([12]) في صغره، من قبل المقربين منه، أو في المدرسة أو الكنيسة.
هذا مجرد مثال لغياب المرجعية الأخلاقية الحضارية، والسقوط في إسر النموذج الحضاري الغربي، الذي أقصى المرجعية الدينية، وجعل الإنسان مصدرا للقيمة والأخلاق والحكم والمعيار، وكما يقول مالك بن نبي، فإنه منذ القرن التاسع عشر فإن العلم والأخلاق منفصلان، فالأول زادت كل خطوة في كبريائه وشموخه، والثاني زادت كل خطوة من انحناءة رأسه، وانشطرت وحدة الإنسان إلى جزءين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي، مما يؤدي إلى تجزئة الأمة، ثم تجزئة الإنسانية([13]).
وبعبارة أخرى، فإن الحضارة الغربية الحديثة، أعلت من شأن العلم، وقدّست ذات الإنسان، وحاربت الكنيسة بالفكر العلماني، فأوجدت إنسانا مجزّأً، يفصل الروحي والقيمي عن العلمي الموضوعي، وبمرور الوقت، صارت ذاته غارقة في نرجسيتها، وشهواتها، ولذائذها، وتسربت هذه الأفكار إلى التربية في العالم العربي.