هل هناك قواعد أو أسس عامة تساعد المقدمين على الزواج على اختيار شريك الحياة؟ وكيف نختار شريك الحياة؟! ذلك السؤال البسيط الذي يجاب عنه في عالم الواقع يوميًّا مئات بل آلاف المرات، لكن مع بساطته تجد الكثيرين لا يستطيعون الإجابة عنه، سواء في عالم النظرية أو عالم التطبيق. وقبل أن نجيب عن هذا السؤال فإننا سنطرح سؤالا آخر يتعجب الناس عندما يوجه إليهم وهو: لماذا تتزوج؟! عندما نسأل أحدهم هذا السؤال ينظر إليك مندهشًا من السؤال، ثم يجيب في معظم الأحيان إجابات غير مفهومة مثل: كما يتزوج الناس، أو ولماذا يتزوج الناس؟!
هكذا يظل السؤال بلا إجابة واضحة في ذهن من يقدم على الزواج ويهم لاختيار شريك الحياة، في حين أن الإجابة مهمة جدًا للاختيار؛ لأنني عندما أقوم بالاختيار لشريكي/ شريكتي في مهمة واضحة بالنسبة لي وهدف أسعى للوصول إليه فلا بد أن هذا الاختيار سيتأثر ويتغير تبعًا للمهمة والهدف، وكذلك درجة وضوحهما في ذهني.
ما الهدف من الزواج؟
فهل أنا أتزوج للحصول على المتعة، أم لتكوين أسرة، أم لتكوين عزوة وأولاد كثيرين أفتخر بهم، أم طاعة لله، أم إعمارًا للأرض وتحقيق مراد الله في خلافة الإنسان، أم من أجل كل هذا، ولكن في إطار صورة متكاملة تكون طاعة الله وتحقيق مراده هما الهدف الأسمى، وتأتي رغبتي في الاستمتاع والأنس سواء بالزوجة أو الأولاد كروافد لهذا الهدف.. كل تلك صور مختلفة لإجابات متعددة؛ ومن هنا تختلف الرؤى في كيفية الاختيار.
إذا لم يكن هناك وضوح لهدف الزواج لدى طرفي العلاقة فستختلف رؤية أداء كل طرف في هذه الشراكة للدور المطلوب منه؛ حيث يختلف الدور باختلاف الهدف من الزواج أصلا.
قبل أن أسأل نفسي: كيف أختار؟ أسأل نفسي: لماذا أتزوج؟ وما هو الدور الذي سأقوم به؟ وبالتالي ما هو الدور المطلوب من شريك حياتي؟ وهنا يصبح الانتقال للسؤال عن كيفية الاختيار انتقالا منطقيًا وطبيعيًا، ومعه يبرز أول سؤال: هل أختار بالعقل أم بالعاطفة؟.. وفي أحيان أخرى يصاغ السؤال بشكل آخر: هل أتزوج زواجًا كلاسيكيًا يقوم على اختيار الأهل بمقومات العقل، أم أتزوج باختياري وذلك عن طريق ارتباط عاطفي؟
زواج العقل وزواج العاطفة
صياغة الأسئلة بهذا الشكل توحي بأن ثمة تناقضًا بين اختيار العقل واختيار العاطفة، أو بأن الاختيار الكلاسيكي أو اختيار الأهل – أو زواج الصالون كما يسمونه – لا تدخل فيه العاطفة، أو بأن الإنسان لا يصح أن يستخدم عقله وهو يقرر الارتباط عاطفيا بزميلة العمل أو الدراسة أو الجيرة.
والحقيقة أن الأمر غير ذلك؛ لأن طريقة الزواج ليست هي الحاسمة في كيفية الاختيار، ولكن إدراك الشخص لكيفية الاختيار هو الذي يطوّع أي طريقة لما يريد هذا الشخص، بحيث يحقق ما يريده في شريك حياته قدر الإمكان.
العقل والعاطفة يجب أن يتزنا عند الاختيار توازنًا دقيقًا يجعلنا نشبه الزواج بالطائر ذي الجناحين: جناح العقل، وجناح العاطفة، بحيث لا يحلق هذا الطائر إلا إذا كان الجناحان سليمين ومتوازنين، لا يطغى أحدهما على الآخر.
العاطفة حدها الأدنى -عند الاختيار- القبول وعدم النفور، وتتدرج إلى الميل والرغبة في الارتباط، وقد تصل إلى الحب المتبادل بين الطرفين.. أما الاختيار بالعقل فيعني تحقق التكافؤ بين الطرفين من الناحية النفسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والشكلية والدينية.
“ترضون دينه”.. ليس كل ما قاله الرسول
يقول تعالى في محكم آياته: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [سورة المائدة: 3]، لقد اكتمل الدين، وتكفل الله سبحانه بحفظه على مر العصور، فوصل إلينا بغير تحريف ولا تشويه، ومن هذا الدين علمنا أن مصادر التشريع إما أصلية (عن طريق الوحي)، وتشمل القرآن والسنة النبوية، أو فرعية، وتشمل القياس والاجتهاد ، كما تعلمنا أيضًا أن سنة الرسول – ﷺ – تشمل القول والفعل والتقرير (التقرير: فعل أو قول أتي به أحد الصحابة، ولم ينكره عليه الرسول – ﷺ -).
وبرغم معرفتنا بهذه الأمور، فإننا نجد عند التطبيق العملي لهذا الفهم عجبًا، ونجد تسطيحًا مخلا للأمور، وكأننا لا نعي ما نقرأ وما نسمع، أو كأننا عمدنا – عن قصد أو عن جهل – إلى تشويه ديننا وتحريفه، نحفظ الآيات والأحاديث والمواقف عن ظهر قلب، ولكنها لا تمر على العقل ليستنبط منها الحكمة والدروس المستفادة، ونتمسك بنص حديث يتناول أمرًا من أمور حياتنا دون النظر إلى ملابساته، ودون النظر نظرة تكاملية إلى باقي النصوص التي تتناول هذا الشأن.
إن حيرة أي فتاة تقدم لها شاب لا تنكر دينه وخلقه، ولكنها لم تجد في نفسها قبولا لفكرة الارتباط به؛ أي لم يتوافر الحد الأدنى من الميل العاطفي إليه، وهو القبول المبدئي، هذه الحيرة تعني أن هذا القبول هو التربة التي ينمو فيها الحب لاحقًا، وأن اختيار شريك الحياة أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، ويتعرض لعوامل نفسية وعائلية واجتماعية كثيرة.
والقبول العاطفي أمر حقيقي وموجود، وذلك إذا ما تقدم للفتاة أكثر من شخص، وجميعهم لا يُعاب عليهم دين أو خلق، ولكن الفتاة تميل عاطفيا لأحدهم دون الآخرين، فإن هذه هي الحالة التي يظهر فيها القبول لأحدهم دون غيره، أو أكثر من غيره، أما إذا تقدم شخص واحد فالدين والخلق هما المعيار الرئيسي، وإلا تكن فتنة في الأرض.
أركان عقد الزواج
إن أركان عقد الزواج هي الإيجاب والقبول والإشهار، فإذا انتفى القبول فلا يصح الزواج، والمشكلة أنك نظرت لنص حديث المصطفى – ﷺ: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم”، ونسيت – كما يحلو لنا دائمًا أن نفعل – أن الرسول – ﷺ – قال للصحابي الذي خطب امرأة ولكنه لم يرها: “انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما”؛ أي أن يكون بينكما المودة والحب.
نبي الله الخاتم – ﷺ – لم ينطق عن الهوى، وحينما قال في حديثه الشريف: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم”؛ فهو – عليه أفضل الصلاة والسلام – لم يضع شروطا أخرى بخلاف الدين والخلق؛ لمعرفته – عليه الصلاة والسلام – فالميل العاطفي قد لا يتولد قبل الزواج إلا في حالات نادرة أو قليلة.
لقد طلق – ﷺ – السيدة زينب بنت جحش من زوجها زيد بن حارثة (وهو حِب رسول الله، والقائد الذي شرفه الله بالشهادة في غزوة مؤتة)، بعد أن استحالت الحياة بينهما، ثم تزوجها الرسول الكريم لتصبح من أمهات المؤمنين، فهل كان زيد بن حارثة – رضي الله عنه – وأرضاه من الرجال الذين تنكر عليهم زوجاتهم دينًا أو خلقًا؟!! بالإضافة إلى أن موضوع تطليق السيدة زينب ليس له علاقة بالقبول العاطفي بل هو أمر خاص بموضوع التبني، وجاء التطليق بأمر إلهي من الله عز وجل، ولحكمة معينة يعلمها لنا الحق سبحانه.
وجاءت امرأة للرسول- ﷺ – فقالت له: يا رسول الله، لا أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام (أي أنها لا تريد مفارقته لسوء خلقه، ولا لنقصان دينه، ولكنها تكره أن تحملها كراهيتها له إلى التقصير فيما يجب له من حق)، فهل هددها الرسول بعقاب الله أم قال لها: “أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فقال له: اقبل الحديقة وطلقها”[رواه البخاري] .. هكذا وبكل بساطة لأنه – ﷺ – يراعي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويعلم أن المرأة لا يمكن أن تكون نعم الزوجة لزوجها إلا إذا أحبته، وأحسب أن الرسول – ﷺ – عندما قال: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه…”، كان يقصد ألا يُرفَض ذو الدين والخلق لتدينه وخلقه، وألا يقبل من فقدهما لأمور أخرى؛ مثل الوجاهة الاجتماعية أو الثراء.
لننظر للأمر من جهة أخرى، فعلاقة الزواج لابد أن تبنَى على المودة والسكن بين طرفيها؛ وأي مودة وسكن في علاقة لا تبنَى على القبول العاطفي، والمرأة حياتها الحب، ولا تستطيع أن تعطي إلا لمن تحب؟ فكيف ستتحمل المرأة مثلا عيوب هذا الرجل إذا لم تحبه؟ وكيف ينطق لسانها بكلمات الحب والغرام والقلب لا يوافقه؟ مهما حاولت التجمل فستجد نفسها بعد فترة لا تستطيع..
إن مسألة اختيار شريك الحياة مسألة صعبة وليست سهلة على الإطلاق لأنها مشروع حياة، فللقلب قرون استشعار يشعر من خلالها بالحب، فإذا كان أداء المرأة مع الرجل من قبيل أداء الواجب، فسوف تصل إليه هذه الرسالة واضحة وصريحة: “لا أحبك”! وتكون بذلك أول من دق مسمارًا في نعش هذا الزواج، فلتسأل المرأة نفسها أيهما أفضل: أن ترفضه قبل الزواج، أم تؤجل الرفض حتى يصبح الضحايا هي وهو وقائمة من ضحايا آخرين أطفال لا ذنب لهم؟!! وليسأل الرجل نفسه أيضا.