من الإشكاليات الفقهية التي طال الجدل فيها الخلاف في حكم أسهم الشركات التي “نشاطها حلال وبعض تصرفاتها مشوبة بالحرام”، وهو جدل يتجدد كلما طرحت مثل هذه الأسهم للاكتتاب العام للناس، وتغيب عنه عدد من الحقائق العلمية والمنهجية بل بعض القواعد الأخلاقية كذلك للأسف.
وتلبية لرغبة بعض الفضلاء، كتبت هذه التوضيحات، ويعود الفضل علي في بلورتها بعد الله جل وعلا لشيخي الدكتور وليد بن هادي – رئيس الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية بقطر – فقد فتح الله عليه في هذه القضية بنظرات علمية جديدة تصحح مسار النقاش الفقهي فيها، وله بحث في الموضوع وقد أملى علي بعض مسوغات المجيزين واستأذنته في نقلها في مقالتي هذه.
أولا: توضيح حول التكييف
يُكيَّف السهم في الشركات المساهمة بأنه يمثل حصة شائعة في شركة من الشركات. والشركة هي: خلط أموال أو أعمال أو ذمم رجاء تحقيق ربح أكبر مما يحققه الشخص بمفرده. فالأموال في الشركات تصبح حصة شائعة معلومة غير معينة، أُذن لبعض الشركاء أن يقوموا عليها، وهم مجلس الإدارة في عصرنا، وذلك حتى يتحقق الغرض من الشركة وهو تحقيق الربح الوفير.
ولهذا فإن حقيقة الشركة تقوم على ركنين ضروريين وهما: الخلطة والوكالة في التصرف، وفق شروط المشاركة سواء كانت شروطا شرعية مستمدة من الشريعة، أو شروطا جعلية يضعها الشركاء.
ثانيا: توضيح حول التقسيم
اشتهر تقسيمٌ ثلاثي للأسهم، لكن تقسيمها في الحقيقة رباعي، كما حقق ذلك شيخي الدكتور وليد بن هادي، قال حفظه الله: “الشركة المختلطة في الأصل هي التي يكون لها نشاطان أصليان مقصودان أحدهما حلال والآخر حرام، كالبنك الربوي الذي لديه فرع إسلامي، وغير ذلك من الشركات التي تجمع بين هذين النوعين من النشاط، إلا أن المصطلح المشهور للشركات المختلطة يفيد بأنها هي التي نشاطها مباح وتلبست بالحرام، سواء بمقولة الفعل أو مقولة الانفعال، وهذه التسمية مبنية على صحة الإضافة لأدنى مناسبة أو ملابسة، وبهذا يتبين بأن هناك أربعة أنواع من الشركات”.
وعليه؛ فأسهم الشركات أربعة أنواع:
النوع الأول : أسهم “مباحة النشاط”، كالصناعة والعلاج والبناء والصيرفة الإسلامية. فهذه لا خلاف في جوازها.
النوع الثاني : أسهم “محرمة النشاط”، سواء كانت تتعامل في أعيان محرمة كالخنزير والخمر، أو كانت تتعامل في عقود محرمة كالربا والقمار. فهي محرمة أيضا باتفاق.
النوع الثالث : أسهم “مختلطة النشاط”، وهي التي تتعامل في سلع مباحة وسلع محرمة، كالعصائر والخمر، أو تتعامل في عقود مباحة ومحرمة، كالمسابقات الجائزة والقمار. فهذه لا يجوز الاكتتاب فيها؛ لأن المكتتب عازم على ارتكاب المحرم.
النوع الرابع : أسهم “مباحة النشاط، لكن بعض تصرفاتها محرمة”، فنشاطها المقصود حلال ولكن شابتها تصرفات محرمة خارج نشاط الشركة، أي أنها شركات مباح نشاطها باتفاق، لكن المفوضين بإدارة الشركة وقعوا في مخالفات شرعية في إدارة نشاط الشركة، رغم أن الشركاء العاديين لا علم لهم بها، وإن علموا فقد لا تكون لهم قدرة على عزل الشركاء المفوضين بالإدارة، ولا تغيير قراراتها، وإن كان لهم قدرة على الإنكار اللساني في الجمعية العمومية للشركة والتأثير على القرارات قدر الوسع.
فهذا النوع من الأسهم هو الذي اشتهر فيه الخلاف بين المعاصرين بين مبيح بشروط، ومانع بإطلاق.
ثالثا: توضيح حول عدم وجود نص خاص في المسألة وأن المساهم المطهر لا يعتبر آكل ربا
من باب الأمانة العلمية المنهجية يجب أن يعلم الناس أنه لا يوجد نص شرعي خاص في هذا النوع المركب من الشركات يحسم حكمه الشرعي، ولهذا فمن يستدل بنصوص تحريم الربا أخطأ الاستدلال؛ لأن الموافق والمخالف، لا يبيح التصرفات المحرمة ربوية وغير ربوية في تلك الشركات المركبة، ولهذا فإن الطرفين كليهما لا مناص لهم من الاستدلال بالنصوص والقواعد العامة.
وفي هذا يقول شيخي الدكتور وليد بن هادي: “لا بد من التنبيه على أن الأدلة الشرعية إما أن تكون نصا خاصا، وإما أن يؤخذ الحكم من النصوص والقواعد العامة، ومبنى الخلاف في الجزئيات يعود إلى تحقيق المناط، لأن المجيزين والمانعين متفقون على تحريم الربا، وتحريم القدر المحرم، وتأثيم المفوضين بالإدارة، وإنما الخلاف في المساهم الذي لا يقدر على منع هذا التعامل لواقع الشركات المعاصرة، هل يجوز له المشاركة باعتبار أنه لن يأكل الربا بإخراج الزيادة الربوية فانتفت حقيقة الربا، أو أن المشاركة محرمة، فالخلاف يعود إلى المشاركة لا إلى حكم أخذ الفائدة الربوية، بمعنى آخر هل وجود هذا الجزء المحرم يُصيِّر النشاط كله حراما، كالبنك الربوي، بحيث يكون المتعامل عازما على الكبيرة في إقراض هذا الجزء اليسير، أو أنه لا يأخذ هذا الحكم، إذ أنه لم يعزم على الإقراض بدلالة خلوه من عقد الشركة، فليس الإقراض جوهر الشركة ولا موضوعه، وبدلالة أنه قد لا يوجد الإقراض أصلا، وإذا وجد فإنه لأغراض الشركة التشغيلية، وهذا المتعين.
كما أن هناك أمرا آخر تقتضيه الأمانة العلمية، وهو أن المساهم الذي دخل في ذلك النوع من الشركات، وقام بالتخلص من الدخل المتأتي من الربا وغيره من التصرفات المحرمة، فإنه لا يعد آكل ربا وآكل حرام، وهذا ما نبه عليه شيخي الدكتور وليد بن هادي، في قوله: “الذين حرموا الشركات المباحة النشاط المختلطة التصرفات لا بد أن يبينوا حقيقة مهمة للناس، وهي أن من أخرج الفائدة، فإنه لا يلحقه إثم آكل الربا؛ لأنه لم يأكله أصلا، إذ لو باشر شخص الإقراض بالربا، ثم تاب بإخراج الزيادة، فإن الله تعالى لن يسأله لم أكلت الربا؟، وكذلك الحال في هذه الشركات؛ لأنه بالتخلص لم يأكل الربا، وقد نص المازري أن من تعامل في شركة المضاربة وحصل على الربا، وأخرجه، فقد انتفت حقيقة الربا”.
رابعا: توضيح حول أدلة القول بجواز الدخول في الشركات “مباحة النشاط لكن بعض تصرفاتها محرمة“
ما دام لا يوجد نص خاص في مسألتنا المتعلقة بشركة “مباحة النشاط مختلطة التصرفات”، فالمسألة إذا اجتهادية، يحتكم فيها إلى النصوص والقواعد العامة.
وقد استند المبيحون لهذا النوع من الشركات على عدة قواعد، منها:
1- قاعدة تفرق الصفقة :
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: “معنى تفرق الصفقة: تفريقها في الحكم، ففي حالة.. الجمع بين الحلال والحرام في صفقة يصح العقد في الحلال، ويبطل في الحرام”.
ومن المعلوم أن أصل عقد هذا النوع من الشركات جائز؛ لأن نشاطه المرخص له حلال، فالفساد ليس في أصل العقد وركنه، وإنما لحق بعض أوصافه الخارجية، ولهذا يفرق بينهما، فيصح الحلال ويبطل الحرام، فيبقى العقد على ما هو عليه، ويبطل الوصف الممنوع، وأثر البطلان يكون في التطهير، وذلك لأن التصرف المخالف منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، ولا يسري الفساد على أصل نشاط الشركة؛ لأنه مباح باتفاق، بل يقتصر على الوصف الباطل فحسب، ولهذا يجوز المساهمة فيها بناء على هذه القاعدة وشرطها.
2- قاعدة جواز التعامل بالشرط الفاسد للحاجة :
يقول شيخي الدكتور وليد بن هادي: “هذه الشركة تأخذ حكم العقود التي فيها شروط فاسدة، وتعاطي العقود الفاسدة يجوز للحاجة، فالحاجة لم تبح الربا كما توهم البعض، وإنما أباحت الدخول في معاملة اشتملت على شرط فاسد، كمن يشتري سيارة ويشترط عليه البائع زيادة، فالشرط باطل، ومع ذلك يجوز الدخول لعموم البلوى، ويشهد له حديث بريرة في الصحيحين حيث اشتُرط في بيعها بقاء الولاء للبائع، فصحح النبي ﷺ البيع وألغى الشرط الفاسد.
فالتعامل بالربا في هذه الحالة له حكم الشرط الفاسد، ولا يصير النشاط كله حراما، بخلاف ما لو كان النشاط كله محرما، فيحرم حينئذ الإقدام على الشركة؛ لأن المساهم عازم هنا على الإقراض، فهو بذلك عازم على كبيرة من كبائر الذنوب، لأن الإقراض في هذه الحالة جوهر الشركة، بخلاف الشركة المساهمة المسماة بالمختلطة، فلم يعزم المساهم على الإقراض، وإنما جاء تبعا لا قصدا، وهذا هو مراد من استدل بقاعدة التبعية هنا، بل قد يدخل المساهم ويعزم على إزالة المحرم”.
3- قاعدة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة في إباحة المحظور :
هذه قاعدة شرعية نطقت بها نصوص شرعية كثيرة، فمن ذلك حديث زيد بن ثابت: «أن رسول الله ﷺ أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها» متفق عليه، مع أن النبي ﷺ نهى عن شراءِ التمْر بالرطَب، فقال رسولُ الله -ﷺ-: “أينقصُ الرطبُ إذا يبسَ؟ ” قالوا: نعم، قال: فلا إذا” رواه أصحاب السنن، فقد أرخص الحديث الأول في ربا الفضل المنهي عنه لحاجة الناس إلى الرطب في موسمه رغم وجود التفاضل بين التمر وبين الرطب بعد أن يجف.
والحاجة العامة في جواز الدخول في الشركات “المباحة النشاط المختلطة التصرفات”، لها أوجه عدة: فمنها حاجة المساهمين الخاصة هم وأسرهم لهذه الأوعية الاستثمارية الضخمة والآمنة للادخار والاستثمار مقابل ما يجده من مخاطر في الاستثمارات الصغيرة، ومنها حاجة المجتمع والدولة لهذه الشركات الضخمة لإقامة مصالح ضرورية حيوية كالماء والكهرباء والاتصالات والصناعات، وتحقيق الاكتفاء والاستقلال الاقتصادي عن الدول الأخرى، فضلا عن الحاجة إلى الشركات المساهمة في توزيع الثروة وعدم احتكارها والتوسعة على الناس، خاصة في الدول التي تهدف إلى ذلك من خلال فتح الاكتتاب في الشركات العامة السيادية بسعر رمزي من أجل تحقيق تلك المصالح المحمودة، ولهذا يحسن بالناس أن يحتفظوا بهذه الأسهم التي يقصد منها توزيع الثروة والتوسعة على الناس؛ لأن ذلك أوفق بالامتياز في سعر الاكتتاب الذي أُعطوه.
4- جواز التعامل التجاري مع غير المسلم :
والاستدلال بهذه القاعدة في موضوعنا دقيق. قال شيخي الدكتور وليد بن هادي:
“من الأدلة المهمة على الجواز: أن الفقهاء نصوا على جواز مشاركة النصراني، فإذا أدخل على رب المال الربا، وجب عليه التخلص، وقد نص على ذلك الحنفية والمالكية، وهو مقتضى القواعد، فإن التطهير جاء به القرآن، (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)، فإخراج الزيادة تطهير بنص القرآن، أما لو اشترى عينا محرمة، فالمال وربحه محرم.
وهذا الحكم في الشركات البسيطة التي للموكل يد وسلطان عليها، أما الشركات المعاصرة، فليس للموكل يد، فنلحق عذره في عدم القدرة بعدم العلم في المشاركة البسيطة عند الأقدمين، بجامع العذر في كل منهما، فذاك معذور بجهله فوجب عليه التطهير، وهذا معذور لعجزه فوجب عليه التطهير”.
5- قاعدة الأصل والتبع :
ومن القواعد المهمة أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، أي يغتفر في التبع غير المقصود ما لا يغتفر في الأصل المقصود.
وهذه القاعدة استمدت من نصوص شرعية كثيرة، منها حديث “مَنْ بَاعَ عَبْداً وله مال، فمالُه للبائع إلا أن يشترطَ المبتاعُ” متفق عليه، فصح بيع العبد المقصود بشروط البيع، وعفي عن شروط البيع في ماله التابع له؛ لأنه غير معقود عليه، وإنما قصد استبقاء ملك العبد له.
قال ابن رشد المالكي في كتابه بداية المجتهد: “قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدا كان، أو عرضا، أو دينا..ويجوز عند مالك أن يشتري العبد وماله بدراهم، وإن كان مال العبد دراهم أو فيه دراهم، وخالفه أبو حنيفة، والشافعي إذا كان مال العبد نقدا، وقالوا: العبد وماله بمنزلة من باع شيئين لا يجوز فيهما إلا ما يجوز في سائر البيوع.
وقال المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف :” فإن كان المال مقصودا للمشتري : اشترط علمه وسائر شروط البيع. وإن كان غير مقصود، بل قصد المشتري تركه للعبد لينتفع به وحده: لم يشترط ذلك. لأنه تابع غير مقصود. وهذه الطريقة هي المنصوصة عن الإمام أحمد، وأكثر أصحابه. كالخرقي، وأبي بكر والقاضي في خلافه، وكلامه ظاهر في الصحة. وإن قلنا العبد لا يملك. وترجع المسألة على هذه الطريقة إلى بيع ربوي بغير جنسه، ومعه من جنسه ما هو غير مقصود. ورجح صاحب المغني هذه الطريقة”.
والشاهد من ذلك أن المساهم في شركة “مباحة النشاط مختلطة التصرفات”، قصده متجه إلى نشاط الشركة وربح نشاطها، وليس متجها إلى الإقراض أو الاقتراض بالربا، فلا تؤثر هذه التصرفات المحرمة التابعة على أصل صحة نشاط الشركة، لأنه هو الأصل المقصود.
6- قاعدة رفع الحرج وعموم البلوى :
فهذه المخالفات الشرعية في إدارة هذا النوع من الشركات عمت بها البلوى، إذ لا تكاد تخلو الشركات المعاصرة من مخالفات مقصودة أو غير مقصودة – بل الشركات الإسلامية نفسها لا تخلو من مخالفات مقصودة أو غير مقصودة – نظرا لفشو الجهل بأحكام الشريعة أو لين التدين والعزيمة، أو احتمال وجود اضطرار لها معفو عنه. فلو منع الدخول لهذا النوع من الشركات أو لزم الخروج منها، لما استقر أمر الشركات، ولضاق على الناس أبواب من السعة التي تقضي دين المدين، وحاجة المحتاج، وتؤمن ذريته، وتوسع عليهم، ولا سيما مع زيادة الأعباء المادية في عصرنا.
خامسا: توضيح حول الورع وأن محله ليس في المختلف فيه وإنما فيما لم يتبين فيه الحكم
من المعلوم أن نصوص الشريعة نوعان: محكمات، ومتشابهات.
فالمحكمات هي القطعيات التي لا خلاف فيها. أما المتشابهات، فهي التي تحتمل أكثر من معنى وأكثر من حكم سواء في باب المأمورات أو في باب المنهيات.
وهذه المتشابهات بينها الراسخون في العلم، وإن اختلفوا في بيانهم واجتهادهم، ولا يدخل الورع في الخلاف الفقهي المعتبر على ما رجح عدد من العلماء، وإلا لزم عدم جدوى الاجتهاد فيه؛ لأنه لا تبقى له فائدة ما دام الورع المزعوم يقتضي اختيار القول الأشد أو المحرِّم، وللزم أن يقال إن العالم -الذي أداه اجتهاده إلى القول بالإباحة- ليس متورعا إذا كان هناك عالم آخر يمنع، ولهذا فإن الورع يكون محله فيما لم يتبين للعلماء رأي فيه.
وهذا ما بينه العلامة ابن الشاط ردا على قول الإمام القرافي بأن الورع فيما اختلف فيه المجتهدون باختيار القول الأشد، إذ قال رحمه الله:
” لا يصح ما قاله [أي القرافي] من أن الخروج عن الخلاف يكون ورعا بناء على أن الورع في ذلك لتوقع العقاب، وأي عقاب يتوقع في ذلك؟
أما على القول بتصويب المجتهدين فالأمر واضح لا إشكال فيه.
وأما على القول بتصويب أحد القولين أو الأقوال دون غيره، فالإجماع منعقد على عدم تأثيم المخطئ وعدم تعيينه، فلا يصح دخول الورع في خلاف العلماء على هذا الوجه. والدليل العلم به عادة… وكل من رجح عنده ذلك المذهب لا يسوغ له تركه، وكل من رجح عنده المذهب الآخر لا يسوغ له تركه فلا ورع باعتبار المجتهدين، ولا بد لمن حكمه التقليد أن يعمل بالتقليد، فإذا قلد أحد المجتهدين لا يتمكن له في تلك الحال، وفي تلك القضية أن يقلد الآخر، ولا أن ينظر لنفسه؛ لأنه ليس من أهل النظر، والمكلفون كلهم دائرون بين الاجتهاد والتقليد، والمجتهد ممنوع من الأخذ بغير ما اقتضاه نظره فلا يصح الورع الذي يقتضي خلاف مذهب مقلده في حقه، وإذا كان هذا النوع من الورع لا يصح في حق المجتهدين، ولا في حق المقلدين فليس بصحيح؛ لأنه لا ثالث يصح ذلك الورع في حقه، والله – تعالى – أعلم. (الفروق للقرافي 4/ 214-215)
وحتى لو صح أن الأخذ بالرأي الأشد ورعاً، فإن هذا ينبغي أن يشترط فيه على الأقل شرطان:
الأول: ألا يعتقد أنه أورع من غيره وأتقى منه، فإن هذه تزكية للنفس منهي عنها، ولا اعتقاد أن غيره فاسق فيما خالفه. قال القرافي فيما يتعلق بالاختلاف في بعض أحكام الصلاة بين مالك والشافعي:” ولو كان المالكي يعتقد بطلان صلاة الشافعي وبالعكس لكانت كل طائفة عند الأخرى من أعظم الناس فسقا لتركها الصلاة طول عمرها، ولا تقبل لها شهادة، وتجري عليها أحكام الفساق أبد الدهر، ويطرد ذلك في الفرق كلها من جهة مخالفها، وهذا فساد عظيم لم يقل به أحد بل مالك والشافعي وجميع الأئمة من أعدل الناس عند جميع الناس، ولا يقول بفسق أحد منهم إلا منافق مارق من الدين”. الفروق للقرافي (4/ 219)
والشرط الثاني: ألا يؤدي إلى تعطيل مصلحة راجحة، أو الوقوع في مفسدة مؤكدة أكبر، سواء كانت مصلحة خاصة، وأولى إذا كانت المصلحة عامة.
قال ابن تيمية: «وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمـن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية قد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع؛ كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة، ويرى ذلك ورعاً، أو يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع» مجموع الفتاوى: [10/512]
ومثال ذلك كما ذكر الشاطبي رحمه الله: ترك الخروج خشية منكرات الطريق، فإن هذا يعطل مصالح راجحة كصلاة الجماعة وطلب العلم وطلب الرزق.
وأما إذا كانت المصلحة التي يُفَوِّتُها التورعُ عامةً، فإن اختيار عموم الناس للقول الأشد عند الاختلاف لا يجوز أصلا، ولهذا أفتى الشاطبي بجواز أخذ الأموال لبناء الثغور والمرابطة فيها مع أن شيخه سعيد بن لب خالفه، فلو تواطأ عموم المسلمين على اختيار القول الأشد في مثل هذه الحالة لأوقعوا أنفسهم ودينهم في مفسدة مؤكدة.
وقال الزركشي:” وتوسع العبادي فقال في الزيادات سئلت عن الشبهة في هذا الزمان فقلت هذا ليس زمان الشبهة اجتنب ما عرفته حراما يقينا”.
وهكذا في موضوع الأسهم التي نشاطها حلال وشابتها بعض التصرفات المحرمة، فإن القول بمنعها تورعاً بعيد، والأخذ بالمنع يُفوت على المسلمين مصالح مطلوبة شرعا لدولهم ومجتمعاتهم، ووقعهم في الحرج.
والله أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل.