– شهر رمضان خفف عن الأسرة المسلمة الكثير من آلام “كورونا”
– القرآن الكريم اعتبر الأسرة الوحدة البنائية الأساسية للمجتمع
– الزوجان الذكيان يسارعان إلى التغاضي عن الهفوات
– ليس في الأسرة حقوق من طرف واحد وإنما حقوق متبادلة
– التحديات التي تواجه الأسرة هي نفسها التي تواجه المجتمع
جاءت أزمة “كورونا”، بما فرضته من البقاء في المنازل، لتكون فرصة للأسرة ليلتقي أفرادها بعضهم ببعض، بعدما باعدت بينهم هموم الحياة كثيرًا، مما يجعلنا نعيد النظر في مكتسبات هذه الأزمة، ومراجعة أحوال أسرنا، لاسيما في ضوء التحديات التي تواجهها، ويواجهها المجتمع ككل.
في هذا الحوار، نتعرف مع د. أكرم رضا، الخبير الأسري والتربوي، على أحوال “الأسرة” في زمن كورونا، ونظرة الإسلام للأسرة واهتمامه بها، إضافة إلى التطرق لأهم التحديات، وضرورة إشاعة “الثقافة الأسرية”.
وأكرم رضا له العديد من المؤلفات والدورات في مجالات الأسرة والتربية والتنمية البشرية. ومن مؤلفاته: الأسرة المسلمة في العالم المعاصر (بحث فائز بجائزة مكتبة الشيخ على بن عبد الله آل ثاني الوقفية العالمية، لعام 1421هـ)، موسوعة قواعد تكوين البيت المسلم، مهارات تربية الأولاد في ظلال الأسرة المسلمة، بلوغ بلا خجل، مراهقة بلا أزمة (جزءان)، إدارة الذات (دليل الشباب إلى النجاح)، متعة النجاح (الشخصية الفعالة والطريق إلى السعادة)، إدارة العمر(السعادة بين إدارة الذات وإدارة الوقت)..فإلى الحوار:
من بين ما كشفت عنه أزمة “كورونا”، وضع “الأسرة” وعلاقة أفرادها بعضهم ببعض.. كيف ترون ذلك؟
لم أرصد رصدًا كاملًا وضع الأسرة أثناء الأزمة، ولكن أظن أن الاجتماع هذا الوقت الطويل في البيت سيعطي الفرصة لكل طرف أن يقترب أكثر من الآخر، وتتكشف الشخصيات أكثر، ويبدأ الاتفاق المشترك للتعايش يطفوا على السطح..
والزوجان الذكيان من يسارعان إلى التغاضي عن الهفوات وعدم فتح ملفات الخلاف، بل تنمية الاتفاق والتغافل وعدم العتاب على كل موقف.
كيف يمكن الاستفادة من هذه الأزمة في إعادة ترتيب أحوالنا الأسرية، لاسيما ترافق ذلك مع شهر رمضان؟
نعم كان رمضان في هذه الفترة رحمة من الله للبيوت؛ فقد اجتمعت الأسرة على ما لم تكن تجتمع عليه قبلاً، وتوفر وقت طويل يمكن استغلاله؛ اجتمعوا على الطعام والقرآن وصلاة التراويح. لقد أخبرني زوجان أنهما ولأول مرة في حياتهما يختمان القرآن كاملاً في رمضان معًا في التراويح في رمضان. قال لي الزوج: كنت أسعد عندما كانت تصحح لي القراءة هي أو أحد أبنائي، لقد اكتشفت أنهم يحفظون كثيرًا. وقالت لي الزوجة: كانت أسعد لحظات حياتي عندما كانت تنزل دموعي خشوعًا وتأثرًا بقراءته وبكائه؛ لقد اكتشفت كم أن زوجي قريب من الله.
رمضان خفف عن الأسرة المسلمة الملتزمة الكثير من آلام هذه الجائحة. لقد قام الأزواج بدور رائع وتنافسي في المطبخ، واكتشفت الكثير من الزوجات دور أزواجهم العظيم في ضبط الأولاد في البيوت. كانت بيئة رائعة للتربية بالحب والتعاون في البيوت.
وإن كان هناك بعض الاستثناءات، فسببها الأساسي أن الزوجين قد اصطحبا اختلافاتهما وملفاتهما وجبال الهموم والأذى معهما في وقت المنحة المطهرة ورمضان المبارك! وعقدا المحاكمات التي كانت نتيجتها أن الكل مذنب، ولم يقع العقاب المؤلم الا على الاولاد!
كيف اهتم الإسلام بـ”الأسرة”.. وبم تميز منهجه في النظر إليها؟
لا يخفى على من له بصيرة النظرة الراقية إلى الأسرة في المنهج الاجتماعي الإسلامي.. وحتى من يريد الطعن فيها فإن وضع الأسرة المزري في مناهج الآخرين لا يدع له مجالاً للطعن!
ويمكن تلخيص نقاط تبين أسلوب القرآن في بناء وتنمية الأسرة لتهيئتها لتأدية دورها الراقي في المجتمع. لقد احتوى القرآن (المصدر الأول للتشريع، كلام ربنا المحفوظ بحفظه) على غالب أحكام الأسرة، حيث لم يدع للسنة المكرمة مجالاً كبيرًا إلا في التطبيق؛ وذلك لئلا يدع الأسرة حتى لأخطاء الاجتهاد المعفو عنها وهو يميز قوانين الأسرة وضوابطها بالثبات.. ومن هذه النقاط:
1- اعتبر القرآن الأسرة- وليس الفرد- الوحدة البنائية الأساسية للمجتمع. وفي البدء كانت أسرة؛ فقد أنزل الله آدم وزوجه حواء أسرة مرتبطة برباط الزوجية للتناسل وتعمير الأرض.
2- ليس في الأسرة حقوق من طرف واحد، إنما هي حقوق متبادلة؛ ما هو حق للزوج يقابله واجبات على الزوجة، والعكس.
3- بجانب حدود الله المنضبطة بالقوانين والنصوص القطعية الدلالة، يحكم الأسرةَ واجبٌ آخر لا يوجد في أي منهج اجتماعي غير الإسلام، وهو (المعروف)؛ الذي لخصه القرآن في قوله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً).
4- بقدر ما نظّم المنهج الإسلامي قيام الأسرة وربطها بميثاق غليظ، نظم أيضًا فك رباطها، ووضع للطلاق ضوابط حفظت حقوق الطرفين، وخاصة الطرف المفترض ضعفه وهو المرأة.
5- لا تنتهي الأسرة في المنهج الإسلامي بانفصال الزوجين، وخاصة إذا كان هناك ثمرة للعلاقة (أولاد)؛ فقد وضع الله قوانين منضبطة لرعاية الأولاد في حالة قيام الأسرة أو انفصالها.
6- لم يضع الأسلام الأسرة تحت رعاية القوانين والحقوق القضائية فقط، وإنما جعل للفضل والتراحم بين الزوجين دورًا كبيرًا في قيامها واستمرارها، واستمتاع جميع أطرافها بالعيش تحت ظلها: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
7- حدد المنهج الإسلامي الأدوار داخل الأسرة تحديدًا دقيقًا، وأشار إلى عدم خلط الأدوار، وميّز كل طرف من الأطراف بميزات تؤهله لأداء دوره المناط به: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، وجعل الرجل هو قائد الأسرة: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، وعبر عن القيادة بالمهمة وليس بالميزة… (وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ).
8- جعل المنهج الإسلامي (الشورى) نظامًا تسير به أمور الأسرة، وأكد عليه في أضعف حالات ارتباط الأسرة: (فَإِن أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مٍّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا). ويظل للرجل القيادة والمسؤلية النهائية عن الأسرة، والمرأة لابد أن تتفهم ذلك: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
ما أهم التحديات التي تواجه “الأسرة” في مجتمعاتنا؟
التحديات التي تواجه الأسرة هي التحديات نفسها التي تواجه المجتمع المسلم كله؛ وأهمها البعد المستمر والمتزايد والواضح عن منهج الإسلام كضابط للمجتمع، وحاكم للضمائر، ومرجع للقوانين.
كذلك الضعف الشديد في مجتمعات الإسلام على جميع المستويات سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا وفكرًّيا، والذي من خلاله يسهل لأي فكر وافد أن يجتاح قيم الأسرة المسلمة، والتي لا تقوم إلا عليها.
وهذا الضعف أيضًا جعلنا غير مؤهلين لتلك الثورات التكنولوجية وفي مجال التواصل الاجتماعي؛ والتي سوّت البلدان بعضها وبعض، وقصّرت المسافات، وألغت تأثير الجبال والصحارى والمحيطات!
وأيضًا الضعف الشديد الذي أصاب الرجل “قائد الأسرة”، لأسباب متعددة؛ وأعلاها الجهل أن يقوم بدوره المطلوب منه كَربّان يقود “سفينة الأسرة” إلى النجاة.
اختلاف الأجيال بين أفراد الأسرة.. كيف نتعامل معه؟
نعم “اختلاف الأجيال”، وليس كما تطلق عليه بعض مدارس التربية “صراع الأجيال”؛ فنحن ندرك أن البيئة من أهم محاور التأثير في العملية التربوية؛ فمربي الأمس ليس هو مربي اليوم، والثقافة التي تلقاها تختلف، والأدوات المستخدمة تختلف، والتحديات تختلف؛ ولذلك فهناك اختلاف كبير بين أبيك وهو يربيك، وبينك وأنت تربي ابنك.
والمطلوب هو إعادة قراءة منظومة التربية في ضوء متغيرات العصر، والتقليل من تقديس تراثك الأبوي في التربية، ومحاولة معرفة لغة الجيل الجديد، والاعتراف بالفروق بين زمانك وزمانهم.
ولا يمنع ذلك من وجود مجموعة كبيرة من الثوابت التربوية، لا تتغير من جيل إلى جيل؛ فلنحافظْ عليها.. واجعل ماضيك التربوي ذكريات رائعة داعمة للعملية التربوي التي تقوم بها.
هل الخطاب الدعوي يلتفت بالقدر الكافي للأسرة؛ مفهومًا وقيمًا وتحديات؟
أصل الخطاب الدعوي في مصادره (القرآن والسنة) موجه إلى الأسرة لا خلاف ذلك: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).
والسؤال عن الممارسات الدعوية في هذا العصر؛ في الحقيقة، إن أدبيات الدعوات المعاصرة تحتوي على اهتمام شديد بالأسرة من حيث الفكرة، ولكن المشكلة في التطبيق الذي يحتاج منا اهتمامًا كبيرًا؛ حيث ما زالت الكثير من برامجنا على مستوى التوجيه الزوجي أو التربوي لا تواكب دفع الآخر، وتدور في فلك برامج القرن الماضي بل قرونًا أقدم! ولذلك، فإن ناتج الدفع ليس في صالح الأسرة المسلمة، في أغلب الأحيان..
جاءت ثورة “المعلومات والاتصالات” لتضيف تحديات مضاعفة على الأسرة.. كيف ترصدون ذلك؟
أسجل في هذا المجال الكثير من المخاوف بل الخسائر؛ حيث إن هذه الثورة لا صدى لها في بلادنا، بل هي ليست وليدة مجتمعاتنا وقيمنا بل ولغتنا. والتحدي كبير، وكل يوم نخسر أرضًا من مساحة الأسرة لصالح الانحراف عن مبادئها.
فتارة في مجال اللغة، حيث تنحسر اللغة العربية يومًا بعد يوم أمام لغة هذه الثورة الجديدة.. وتارة في مجال الوقت، حيث تأكل الألعاب والترفيه أوقات الأسرة بلا عائد.. وتارة في مجال العلاقات، حيث أصبح أفراد الأسرة في المكان الواحد كأنهم في جزر منعزلة.. ثم مجال القيم، حيث ينهار كل يوم أحد جدران قيم الأسرة المسلمة أمام دعوات الشذوذ والإباحية والعلاقات المحرمة والممارسات المحرمة.
لماذا لا نرى اهتمامًا بـ”الثقافة الأسرية”، سواء في العلاقة بين الزوجين، أو تربية الأولاد.. وكيف يمكن تدارك ذلك، خاصة لدى الشباب؟
إن مجتمعاتنا المسلمة منكوبة، تشتعل أجزاؤها بحروب داخلية، سواء أهلية أو حدودية وتكتلات عدائية، سواء داخل الجزء الواحد أو بين الأجزاء المتفرقة وتحالفات مع أعداء متربصين، وشعوب تبحث عن أمنها وسكنها واستقرارها وغذائها، وضعف وتأخر في جميع المجالات كما ترصد الإحصائيات العالمية في المجال الطبي والزراعي والاقتصادي والتعليمي والتربوي، وحيرة العامة بين علماء لا ضمائر لهم ومتكسّبين بعلمهم أو محاربين منبوذين لآرائهم.
إن أمة فيها كل هذه الأدواء كيف تتذكر أن لديها كيانًا مهمًّا اسمه “الأسرة”، حتى تهتم بـ”الثقافة الأسرية”؟!
إن تدارك ذلك لا تستطيع أن تقوم به جمعية خيرية أو معلم مناضل أو جهد فردي أو جماعي محدود؛ إنها صيحة أمة بعد يقظتها “أن إعطاء الأسرة قدراتها لتؤدي دورها، هو السبيل للإصلاح”.. لا بد أن تتوجه كل قوى الأمة للتعليم والتثقيف وبناء الأسرة بالتوازي مع إصلاح الفرد.
إن بَدْءَ التنزيل بكلمة (اقرأ)، والقسم بحرف الكتابة وأداة الكتابة ومنتج الكتابة على سلامة عقل النبي ﷺ: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)، لا يخفى على أحد.. كما لا يخفى احتفاء الإسلام بالعلم والدراسة.. وهو السبيل لكل نهضة: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).
فلا بد من نهضة علمية في مستوى الثقافة الأسرية تذكّر بهذا الكيان؛ الذي لو انهدم ينهدم معه المجتمع كله! ونستطيع استغلال وسائل التواصل المتوفرة.. فقط تتحد الجهود وتصفو النوايا ويقدَّم الأفذاذ.
ما الدور المنوط بـ”الأسرة” في التغيير المجتمعي المأمول؟
قالوا: “عندما تلاحق أعمالاً كثيرة، ستتعثر فيما لم تنتهِ من الأعمال”! فقبل أن نطالب الأسرة بأداء دورها، فلنوفرْ لها بيئة صالحة وقوة وثقافة لأداء الدور.
وهذا ما يمكن أن يتم بالتوازي؛ فيمكن للأسرة أن تتبنى منهج الاختلاط المراقَب والتربية بالمواقف، لملاحقة مكتسبات الأبناء من المجتمعات، بالغسيل التربوي بالقيم الإسلامية الثابتة.. وهذا لا يتم إلا بوالدين ترفّعا عن صغائر المشكلات الزوجية، وأعطى كلّ منهم ما عليه من الواجبات، وتجاهل ما له من حقوق، وارتقت نيته إلى آفاق (في سبيل الله) و(لتكون كلمة الله هي العليا).