حينما اصطف الفريقان للقتال يوم بدر، برز ثلاثة من قادة المشركين، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وطلبوا المبارزة، فقام لهم ثلاثة من الأنصار، فقال لهم عتبة بعدما عرّفوا بأنفسهم: “أكفاء كرام”، ثم قال: يا محمد، أخرج لنا نظراءنا من قومنا، فأمر رسول الله -ﷺ- حمزة وعلياً وعبيدة بن الحارث بن المطّلب، فعرّفوا بأنفسهم واحداً واحداً، وعتبة يرد عليهم واحداً واحداً: “كفء كريم.
هذا عتبة مشرك جاهلي أمّي، وهؤلاء الستة الذين خرجوا لمبارزته كلهم مسلمون على خلاف دينه، وقد خرجوا لمبارزته قاتلاً أو مقتولاً، وهو يردد: “أكفاء كرام” !!، عتبة تدفعه الشجاعة والفروسية ليتقدم قومه، ويسبقهم إلى التضحية بنفسه وبأخيه وبولده! ثم يظهر تمسكاً بقيمه العربية الأصيلة، فلا يسبّ خصمه ولا ينتقص منهم، بل يحترمهم ويعترف بفضلهم وكفاءتهم، وهذا بكل تأكيد ليس النموذج “الجاهلي” الوحيد، فهذا المطعم بن عدي -الجاهلي المشرك- يجير رسول الله -ﷺ- ويحميه بعد عودته من الطائف، والوليد بن المغيرة يجير عثمان بن مظعون بعد عودته من الحبشة، وأغرب من هذا أن يخطب رسول الله -ﷺ- بنت عدوّه أبي سفيان -وكان يومها رأس الشرك- قبل أن يسلم -رضي الله عنه- فيرد بقوله: “هو الفحل الذي لا يجدع أنفه”، أي هو الكفء الذي لا ينبغي أن يُرد!!
احفظوا هذه الكلمات، وفكّروا في معانيها ودلالاتها وأبعادها، لماذا يقول العدوّ لعدوّه: أنت كفء كريم؟!
إنه ليس الضعف ولا النفاق، فقد كان هؤلاء أولي بأس وقوة، وهم في حالة حرب وصراع، لكنها المروءة واحترام الذات قبل احترام الآخر، لأن هؤلاء المختلفين كانوا قبل اختلافهم أقراناً، يجلسون معاً ويتسامرون معاً، يسافرون ويتاجرون ويتصاهرون، وهم من نسب واحد، وبلد واحد، فلو استباحوا حرمة بعضهم البعض، لعادت النقيصة عليهم جميعاً، ولصار كل واحد كأنه يشتم نفسه، ويكذّب نفسه كذلك.
انظر إلى بهت اليهود حينما سألوهم عن صاحبهم عبدالله بن سلام -رضي الله عنه- ولم يكونوا قد علموا بإسلامه، فقالوا: هو عالمنا وابن عالمنا، وحبرنا وابن حبرنا، وسيّدنا وابن سيّدنا، فلما علموا بإسلامه قالوا: هو جاهلنا وابن جاهلنا، وسفيهنا وابن سفيهنا، فأصبحوا مثالاً للقوم الذين لا يحترمون كلمتهم، ولا يفون بأمانتهم وذمتهم.
اليوم ماذا نقول؟
هل نقول لبعض من نقرأ عنهم من أصحاب الشهادات، ورجال السياسة والإعلام ولجموع من الناشرين والمغرّدين: تعالوا وتعلموا من عتبة بن ربيعة! من المطعم بن عديّ! من الوليد بن المغيرة!
لقد طفح الكيل، وأنت ترى بعض الساسة يستقبلون نظراءهم و”ضيوفهم” اليوم، ثم في اليوم الثاني -ولأدنى خلاف- يبدأ الطعن في كل شيء، حتى في الأعراض، فلا يراعون ديناً ولا عهداً ولا مروءة ولا نسباً ولا صهراً ولا ضيافة ولا أي شيء!
حتى النخب المثقفة من الجماعات والأحزاب والهيئات، أول خلاف بينهم ترى كلمات البهت والظلم تتطاير على ألسنتهم، والله يقول لعباده: “ولا تنسوا الفضل بينكم”، ويقول: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى”.