يحتاج الإنسان إلى قوة كبيرة كي يتعايش مع الكم الكبير من المتناقضات التي يراها حوله، ويشعر بها داخله.. ولهذا ـ ربما ـ أطلق كاتب وصفه الساخر للحياة، حيث قال: “إن الرجل لَيُعتبرُ محظوظا إذا خرج منها حيًّا”!
هذه البراعة تنعكس بالضرورة على واقعنا النفسي وصحتنا العقلية، وليس عبثا أن تصبح نفوسنا سقيمة لا ينفع معها إلا استشارة طبيب نفسي أو اللجوء إلى دواء “البروزاك” لننام بلا وخز ضمير، ولا مبالاة بالمصير. وقد كتبت “كارين هورني” كتابا كبيرا عن”الشخصية العصابية في هذا العصر” وشرحت بعض معالم هذا الداء الذي يفتك بالأرواح قبل أن يقضي على الأجساد.
سيقول بعض الناس (لا أريد أن أصفهم بغير هذا، وقديما غضب الأحناف من البخاري لأنه أشار إلى أبي حنيفة الإمام في “صحيحه” بـ”وقال بعض الناس”) إن ما نعيشه من أمراض نفسية ينبع أساسا من فقدان الإيمان وخواء الروح.. قد يكون هذا صحيحا في بعض الحالات، لكن الشيء الصحيح الآخر هو أن فهمنا ـ الخاطئ ـ للدين حوله إلى مشكلة وليس إلى حل.
علينا أن نعترف أيضا أن جزءا كبيرا من هذا المرض ينبع من تعقيدات هذا الواقع الذي يجعلك تأسى على حيوان مشرد لا يجد مأوى، وتغض الطرف عن ملايين الأشخاص الذين يموتون بسبب حماقات ارتكبها غيرهم.
لن نبحث طويلا لنجد سمات التناقض في هذه الحياة التي نحياها، فهذا العالَم = الذي تفنن في اختراع أكثر من وسيلة للاتصال وأكثر من جهاز، أغرق السوق بالهواتف النقالة والكمبيوتر الجيبي أو اللوحي أو المحمول، وأثقل الشبكة الإلكترونية بمواقع التواصل الاجتماعي = هذا العالم في واقع الأمر يعاني من أزمة اتصال حقيقية. وفي حين يمكن أن تعلق على صورة وضعها شخص من البرازيل على “جداره” تكون أعجز ما تكون عن محادثة زوجتك التي تنام بجانبك، أو أمك أو صديقك أو جارك. ولا داعي للتذكير بأن كل ما ينتج من حالات طلاق وخصام ونزاع وحروب سببها الرئيس غياب ثقافة التواصل بين الناس.
جبران خليل جبران اكتشف قبلنا هذه المعادلة المعقدة في قوانين الحياة فوجهنا إلى الطريق الصحيح للتعامل مع الناس، إذ قال: “ليست حقيقة الإنسان بما يُظهره لك، بل بما لا يستطيع أن يُظهره، لذلك إذا أردت أن تعرفه فلا تصغ إلى ما يقوله بل إلى ما لا يقوله”.
إذا أردنا أن نفهم الإنسان فعلينا أن نُصغي إلى صمته، هكذا سيقول الحكماء لو أسعفهم القول.. لكن الغريب اليوم أن لا أحد يصمت، فالناس جميعا يتكلمون ولا يُحبون لعب دور المنصت إلا أمام شاشة التلفزيون التي تشحن العقول كما نشحن هواتفنا كل ليلة لتستهلكنا في اليوم الموالي. علينا أن لا نتفاجأ إذًا حينما نعلم أن أكبر القطاعات المربحة هو قطاع الاتصالات! وكلما احتمينا من الصمت بالانشغال في التلفون أو به، فإننا نعلن أنفسنا كبشر خارج مجال الخدمة!