أنسخاتون زوجة ابن حجر، ابنة القاضي ناظر الجيش كريم الدين،[1] ، كانت عالمة فاضلة، عابدة صالحة، من بيت رئاسة وحشمة، ولها ميل شديد إلى علم الحديث، ونالت منه نصيبا وافرا، وصارت من المحدثات الشهيرة في عصرها لكن شهرة الحافظ ابن حجر حجبت شهرتها، وكانت تنهي ختمة صحيح البخاري في شعبان.
نعمت الزوجة والشيخة لتلاميذها
ترجمة مقولة:” وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة” واضحة جدا في واقع حياة الحافظ ابن حجر مع زوجته أُنْسخاتون، وإنها نهضت عن زوجها بعبأ البيت معنويا وروحيا وبتربية أولاده، وكانت خير زوجة وأنيس، ومن ثم استطاع الحافظ التفرغ التام بالنشاط الواسع في خدمة العلم، وخدمة الحديث النبوي الشريف على وجه الخصوص، وبث مناره وإعلاء شأنه بمختلف السبل من تصنيف وتحقيق وتعليم وتربية مما عم نفعه في الأمة الإسلامية كما لا يخفى.
وروي أنه سئل الحافظ عن زوجه مرَّة: «كيف هي لك؟ وكيف لأولادها؟ وكيف هي بالعلم والتحديث والحفظ؟» فأجاب الحافظ ابنُ حجر رحمه الله:” هي نِعْمَ الزوجة لي ونِعْمَ الأم لبناتها، وما أراها إلاَّ نِعْمَ الشيخة لتلاميذها”، وسأله تلميذه أيضا: ” مِن أين لها هذا الفضل؟”، قال الحافظ: ” منذ أن تزوجتُها وبعد زواجي منها بسبع ليالٍ ما تركتْ ليلة بِلا قيام إلاَّ من عُذر، وما أرى من بركة في بيتنا وبناتنا إلا بفضل هذه الركعات”[2]
وقد وصفها الإمام السخاوي بأنها “كانت رئيسة دينة كريمة راغبة في الخير مجابة الدعاء” [3]
ونعم الزوجة أُنْس العظيمةالوفية، وراء الرجل العظيم علما ونسكا وتبعلا.
عناية الحافظ ابن حجر بتعليم زوجه
إن للحافظ ابن حجر من الصبغة العلمية ما ظهر أثره في أهله، وإنه قام بدورعظيم في تنشئة أهل بيته وإعدادهم العلمي والفكري حتى لا يكاد يذكر أحد من عائلته إلا بالعلم ولو كان يسيرا، ومن ذلك أن أُنْس خاتون زوجة الحافظ ابن حجر قد تأصلت تأصيلا علميا نافعا مجديا، بدءا من معين ابن حجر، حيث أوصل الحافظ بينه وبينها الصلة العلمية الوثيقة لتكون مشاركة معه في حقل رواية الحديث ونشره، ثم لم تكن تقف تلك الصلة العلمية في داخل بيت الحافظ، بل ساعد زوجه على أن تكون مستزيدة من علم الحديث خارج الدار سماعا وإجازة، وقد أصحبها معه إلى حضور مجالس السماع والرواية وإلى حلقات العلم في أمكان متعددة حضرا وسفرا، وأَسمَعَها من شيخه شيخ الصنعة الحافظ العراقي «الحديث المسلسل بالأولية»، وكذا أسمعها إياه من لفظ العلاّمة ابن الكويك في يوم ختمه “صحيح البخاري“،[4] وأجاز لها باستدعاء عدد من الحُفّاظ المصريين والمكيين واليمنيين؛ منهم: أبو الخير ابن الحافظ العلائي، وأبو هريرة ابن الحافظ الذَّهبي.
وأشار الإمام السخاوي إلى هذا الاهتمام من الحافظ بقوله: ” وكان شيخُنا رحمه اللَّه كثيرَ التَّبجيل لها والتَّعظيم لا سيما وهي عظيمةُ الرَّغبة فيه”[5]
منزلة زوج الحافظ ابن حجر العلمية
لقد تبوأت أنس خاتون زوجة ابن حجر مكانة علمية سامية في زمنها، حيث اعترف لها أهل العصر بالعلم والفضل، وخاصة في الحديث، وكان لها جهودا مذكورا ومشكورا في دراسة السنة النبوية، بل عُقد لها مجلس تجتمع فيه بالناس وأحصى في مجلسها ألف محبرة على ما نقل، حتى قيل:” إنها المرأة الوحيدة التي كان لها مجلس تحديث في مسجد عَمْرو بن العاص في مصر”[6] وتلقى عنها جماعة من أعلام العصر وتتلمذ على يدها خلق كثير بحضرة زوجها الحافظ ابن حجر، وكان من أشهر تلاميذها الإمام السخاوي، وهو القائل في استهلال ترجمته لها:”شيختُنا الرئيسة الأصيلة أُنْس” إلى أن قال:” وقد خرَّجتُ لها “أربعين حديثًا عن أربعين شيخًا”، قرأتُها عليها بحضورِهِ – يعنى ابن الحجر- وحملت عَنْهَا أَشْيَاء.[7] رحمهم الله جميعا.
وما كانت هذه المكانة العلمية الشريفة لتكون لها لولا – الله أولا ثم – اهتمام زوجها بها ورعاية لها وتعهده إياها بالعناية، وكان يداعبها أحيانا ويقول:” قد صِرْتِ شيخةً”[8] وهكذا فاقت زوج الحافظ ابن حجر نساء زمانها وكفى بها شرفا لآل ابن حجر.
احتفال أنس بختم صحيح البخاري
من عادة أنس خاتون زوجة ابن حجر الشهيرة بين المجتمع والتي اعتادها كبار البلاد وصغارها: إقامتها الوليمة العلمية السنوية عند قبيل رمضان، وذلك بمناسبة ختم مجلس قراءة صحيح البخاري والذي يعقد بين رجب وشعبان في كل سنة، وكانت تدعو الناس إلى حضورها وتقوم بتوزيع الحلويات وغيرها لتكون من باب شكر نعمة الختم، وتعظيما للحديث النبوي الشريف، وتشريفا لأهل الحديث، وتحفيزا على طلبه والاعتناء به، والتشهير والتنويه بشأنه.
ويقول السخاوي حاكيا صنيعها في ذلك”: وكانت كثيرةَ الإمداد لشيخنا العلَّامة ابن خضر، وهو الذي كان يقرأ لها “البخاري” في رجب وشعبان مِنْ كلِّ سنةٍ بالمدرسة، وتحتفل يومَ الختم بأنواعٍ مِنَ الحلوى والفاكهة وغير ذلك، ويهرعُ الكبارُ والصغار لحضور هذا اليوم، وهو قُبَيْل رمضان، بين يدي صاحب التَّرجمة- يعنى بحضرة الحافظ ابن حجر- ولما مات ابن خضر قرأه لها سبطُها سنة واحدة في حياة جدِّه، وكان في أوائل ما لَبسَ زيَّ الفُقَهاء، واستمر حتى الآن. “[9]
ولعل من الدواعي الحاملة لإقامة هذا الاحتفال في هذا التوقيت – أي في نهاية شهر شعبان، إن صح هذا الاحتمال الداعى- هو إعلام الناس وتشجيعهم لاستعداد شهر رمضان، وأنه شهر التفرغ لقراءة القرآن وترك مجالس العلم ودروس الكتب خلال ذلك الشهر الفضيل، لا سيما قد نقل عن الإمام مالك أنه “إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم[10]“.
قال عبد الرزاق: “كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن[11] وإن كان هذا الفعل – أي ترك مجالس العلم- لا يمثل هدي السلف في رمضان، لعدم وجود دليل مقنع مقبول في الباب، فاحتفال زوج الحافظ في هذا الوقت قد يكون لسبب آخر غير المذكور، أو يحصل ذلك اتفاقا دون أي اعتبار أو قصد، بل من محض حب العلم والاعتزاز به، ونشر السنة النبوية والدعوة إليها.
[1] ينظر: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر 3/1207
[2] المقال من موقع الألوكة بعنوان (ترجمة الإمام ابن حجر العسقلاني) لمحمد أحمد يوسف مقبول
[3] الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 12/11
[4] ينظر: المصدر السابق
[5] الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر 3/1211
[6] المقال من موقع الألوكة بعنوان (ترجمة الإمام ابن حجر العسقلاني) لمحمد أحمد يوسف مقبول
[7] الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 12/11
[8] المصدر السابق
[9] المصدر السابق
[10] لطائف المعارف لابن رجب 1/183
[11] – المصدر السابق