إنّ الأصل في المُلك هو لله تعالى وحده، يقول الله تعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [سورة النور: 33]، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [سورة الحديد: 7]. ثم من خلال النصوص الشرعية للإسلام، نبعت أنماط الملكية التالية: الملكية المشاعية للمباحات العامة المادية، ثم الملكية العامة، ثم الملكية الخاصة، ثم الملكية المجموعية؛ كملكيات أصيلة لها نصوص معينة في القرآن والسنة.
ثم ظهرت الملكية المختلطة في الاقتصاد الإسلامي وفقاً لقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر: 18]، فعندما ظهرت الملكية المختلطة في الاقتصاد العالمي استوعبها الاقتصاد الإسلامي حسب هذه الآية الكريمة؛ ثم هذّبها وروّضها لتتوافق شروطها وكينونتها مع الأحكام الشرعية؛ وأصبحت الملكية الخامسة الحادثة غير الأصلية فيه. وبهذا، أصبحت هناك خمسة أنماط من الملكيات في الاقتصاد الإسلامي: أربعة منها ملكيات أصلية تستند إلى نصوص شرعية من القرآن والسنة، وملكية جديدة معاصرة هي الملكية المختلطة، والتي أُقرّت وفقاً للاجتهاد الفقهي على ضوء القرآن والسنة والمصادر الأخرى للشريعة الإسلامية.
وهذا يعني أن الاقتصاد الإسلامي يتضمن خمسة أنواع من القطاعات الاقتصادية النابعة من هذه الملكيات الخمس، هي:
- القطاع المشاعي (أي: قطاع المباحات العامة المادية) النابع من الملكية المشاعية المادية.
- القطاع العام النابع من الملكية العامة.
- القطاع الخاص النابع من الملكية الخاصة.
- القطاع المجموعي النابع من الملكية المجموعية.
- القطاع المختلط النابع من الملكية المختلطة.
فالقطاعات الأربعة، بدءاً من القطاع الثاني، تُعَدُّ قطاعات فعَّالة تستطيع الدخول إلى مختلف النشاطات الاقتصادية من إنتاج واستثمار واستهلاك وغيرها، وتدخل فعالياتها الإنتاجية في عمليات احتساب الدخل القومي. أما القطاع الأول (القطاع المشاعي المادي)، فإنه لا يدخل مباشرة في النشاطات الاقتصادية؛ لكون ثرواته طبيعية لم تتدخل الجهود البشرية في زراعتها وتنميتها، مما يُبقي عليها مشاعية، ومن ثم يُوزّع نتاجها مجانًا، عكس منتجات القطاعات الأربعة الأخرى التي أنتجتها الجهود البشرية، والتي تدخل إلى الدورة الاقتصادية من خلال التيار النقدي للاقتصاد الكلي للبلد الإسلامي. وعلى هذا، فإن منتجات وثروات القطاع المشاعي تُعَدُّ ضمانةً ورصيدًا قويًّا للدخل القومي في الاقتصاد الإسلامي، ويستطيع جميع أفراد المجتمع الأخذ والانتفاع منها بشكل مجاني، وتدخل هذه المأخوذات بشكل مستقل في عمليات احتساب الدخل القومي.
حدود الملكية الفردية
يُقر الاقتصاد الإسلامي بحق الملكية الفردية غير المحدودة كمّاً، وغير المطلقة قيداً. ويبيح الإسلام للإنسان تملك الأراضي والآلات والمصانع، كما يبيح له تملك الألبسة والأواني وأثاث البيت وأمتعته. وقد وضعت الشريعة الإسلامية التخطيط الشامل للحياة الاقتصادية، كما في سنوات الأزمة في قصة النبي يوسف عليه السلام، ويوفر للإنسان الحافز والحرية المنضبطة شرعاً لاكتساب الرزق والتماس المعاش. ولكي تكون الحرية الفردية مكفولة ومضمونة، يجب أن يُعطى الفرد حق الملكية في وسائل الاقتصاد وتدبيره وتنظيمه.
أما إذا سُلب هذا الحق من الفرد وأُمِّمَت وسائل الإنتاج من قِبل الدولة، فإن هذا يعني إلغاء حريته الفردية وملكيته الخاصة؛ لأن تأميم وسائل الإنتاج والربح الفردي يعني خضوع جميع أفراد المجتمع للإدارات والمنظمات العامة التي تسيطر على اقتصاد الدولة ومصادرها وتوجيهاتها، وهذا يعني حرمان الفرد من حريته الفطرية والشرعية نحو الإنتاج والاستثمار والتطور والنمو المطّرد والمستمر.
وفي دليل احترام الملكيات الخاصة في الاقتصاد الإسلامي، يقول الله تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ [سورة النساء: 32]، فلكلٍّ نصيب من الرزق، ولا يجب أن يتعدى إنسان على حق إنسان آخر. لذا، كان للسارق المتعدي على حق غيره عقوبة رادعة بيّنها الله تعالى في قوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة المائدة: 38]. ويقول رسول الله ﷺ: “كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ: دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ” [صحيح مسلم، رقم الحديث: 2564]. ويقول عليه الصلاة والسلام: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ” [سنن الترمذي، رقم الحديث: 1421].
ملكية وسائل الإنتاج والمصالح العليا للأمة
إن ملكية وسائل الإنتاج بأنواعها: المشاعية لثروات المباحات العامة المادية، والعامة، والخاصة، والمجموعية، والمختلطة، تشكل الأركان الأساسية للاقتصاد الإسلامي، حيث يتحدد التوزيع الرئيسي للدخول على أساسها في ظل الحرية الاقتصادية المنضبطة بأحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما يحقق العدالة والتوازن والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في جميع المجالات الحياتية المختلفة للبلد الإسلامي.
كما يقوم الاقتصاد الإسلامي على أسس معتدلة ومتوازنة؛ فلا يتعصب للفرد على حساب الجماعة، ولا يتحمس للجماعة على حساب الفرد، فهو يوفّق بين المصلحتين، وكذلك المصالح الأخرى النابعة من الملكيات الأخرى في آن واحد؛ لأن الفرد عضو في هذه الجماعة وليس كمًّا مهملًا ضائعًا من أي اعتبار، وإنما هو كيان له ما للجماعة من المصالح والمنافع.
وفي أنواع الملكية تلك، لا تُسقط الشريعة الإسلامية من حسابها مصلحة الفرد ولا مصلحة الجماعة ولا المصالح الأخرى للمجتمع الإسلامي، بل تحقق جميع هذه المصالح في آن واحد؛ من دون التضحية النهائية بأحدها أو ببعضها من أجل الأخرى. وهي تضبط هذه وتلك بضوابط تتفق مع العدالة والإنصاف ولا تتنافى معها، ولا تترك العنان لإحدى المصالح الخمس (النابعة من المباحات العامة المادية، والملكية العامة، والخاصة، والمجموعية، والمختلطة) بأن تطغى على بعضها أو كلها لأجل نفسها، بل توازن بينها بشكل دقيق، فإذا زادت من إحداها أو قللتها، فلا يكون ذلك على حساب الأخرى، بل تزيد وتنقص منها حسب المصالح العليا للأمة.
استقلالية الاقتصاد الإسلامي عن المذاهب والنظم الاقتصادية الوضعية
لا يتفق الاقتصاد الإسلامي مع الرأسمالية الوضعية، التي تعد الملكية الخاصة المطلقة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية الوضعية التي ترى أن الملكية العامة أو الاجتماعية المطلقة هي المبدأ، ولكنه يعتمد مبدأ الملكية الخماسية، أي الملكية ذات الأشكال الخمسة المتنوعة. فهو يؤمن بملكية: المباحات العامة المادية، والعامة، والخاصة، والمجموعية، والمختلطة، ويخصص لكل منها حقلاً خاصاً تعمل فيه[1].
إذن، من الخطأ أن يُسمّى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً وإن سمح بالملكية الخاصة لبعض من رؤوس أموال الأمة ووسائل الإنتاج؛ لأن الملكية الخاصة عنده ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن نطلق على المجتمع الإسلامي مجتمعاً اشتراكياً وإن أخذ بمبدأ الملكية العامة (أو ملكية الدولة حسبما يطلق عليها بعض الكتّاب) لبعض من الثروات ورؤوس الأموال ووسائل الإنتاج للأمة؛ لأن الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في منظوره. وكذلك من الخطأ أيضاً أن يُعدَّ مزيجاً مركباً من هذا وذاك؛ لأن وجود الملكيتين العامة والخاصة في المجتمع الإسلامي لا يعني أن الاقتصاد الإسلامي مزيج بين المذهبين الوضعيين الرأسمالي والاشتراكي أو أنه أخذٌ من كلٍّ منهما، وإنما يأتي ذلك التنوع الخماسي في أشكال الملكية من تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد فكرية خاصة ومعينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم والأحكام الإسلامية المستقلة، وهي تتناقض جذرياً مع الأسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية والاشتراكية الوضعيتان[2].
حق التملك في الإسلام[3]
أقر الإسلام التملك، وعدَّه من الحقوق المشروعة للإنسان. وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة العديد من الأدلة الشرعية التي تبين حق التملك. قال الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [سورة التوبة: 103]، وقال تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [سورة الذاريات: 19]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [سورة المعارج: 24-25]، وقول رسول الله ﷺ: “إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا” [صحيح البخاري، رقم الحديث: 1739]. فقد بيّن العلماء أن معنى الآيات، والضمير المتصل في كلمة “أموالهم”، يشير إلى مشروعية التملك. لكن الملكية في التشريع الإسلامي ليست مطلقة، فهي مقيدة بضوابط تحددها الشريعة الإسلامية، فيها تحقيق للعدل، وللمصالح العامة للفرد والأمة[4].
حدود ما يملكه الإنسان في الإسلام
ليس لما يملكه الإنسان حدود تحده وتقدّره في الشريعة الإسلامية، فللإنسان أن يملك من المال ما يستطيع أن يتملكه بوسائل ملكه المشروعة دون حد مقدَّر. وفي ذلك له الخِيَرة، إن شاء فعله وإن شاء تركه، وذلك دون مساءلة عليه.[5].
الملكية الفكرية في الإسلام[6]:
يطرح التساؤل حول معنى عبارة “حقوق الطبع محفوظة”، وهل للإسلام موقف منها، وهل يعني ذلك احتكارًا للعلم؟
الإجابــة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
إن ما يُسطَّر في مقدمة أغلب الكتب من قولهم: “حقوق الطبع محفوظة للمؤلف” يُراد منه أن كل من بذل جهداً علمياً في تأليف كتاب، أو ترجمته، أو تحقيق مخطوط قديم، فله حق الانتفاع به، والاستفادة مما يترتب على طبعه ونشره من أرباح. وليس الأمر قاصراً على هذا الحق المالي، فثمة حقوق أخرى يملكها المؤلف ويختص بها، وتُجمل في أمرين: أولاً: الحقوق الأدبية، وثانياً: الحقوق المالية.
أولاً: الحقوق الأدبية
وتسمى أيضا الحقوق المعنوية، فتقوم على جملة من المبادئ أهمها:
1- إثبات أبوة المؤلف على مصنفه، واستمرار نسبته إليه، فليس له حق التنازل عن صفته التأليفية فيه لأي فرد أو جهة، كما أنه لا يسوغ للغير انتحاله والسطو عليه.
2- أن للمؤلف حق نشر مصنفه، وحق الرقابة عليه بعد النشر، فله أن يمنع تداوله، وأن يوقف نشره إذا تراجع عما فيه من أفكار وآراء مثلاً.
3- أن للمؤلف سلطة التصحيح والتعديل، قبل إعادة الناشر طباعة الكتاب مرة أخرى.
وموقف الإسلام من هذا الحق الأدبي واضح حيث إن هذه الفقرات:
أ- تعطي التأليف الحماية من العبث.
ب-الصيانة عن الدخيل عليه.
ج- تجعل للمؤلف حرمته والاحتفاظ بقيمته وجهده. وهي مما علم من الإسلام بالضرورة، وتدل عليه بجلاء نصوص الشريعة وقواعدها وأصولها.
ثانياً: الحقوق المالية
أن الحقوق المالية أو المادية هي بمثابة الامتيازات المالية للمؤلف لقاء مؤلفه. وهذا الحق يفيد إعطاء المصنف دون سواه حق الاستئثار بمصنفه لاستغلاله بأي صورة من صور الاستغلال المشروعة، وهذا الحق يمتد بعد وفاة المصنف، ليختص به ورثته شرعاً.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: هل يجوز للمؤلف أخذ العوض على مؤلفه أم لا يجوز؟ والخلاف في هذه المسألة من أثر الخلاف بين أهل العلم في أخذ العوض على تعليم القرآن وأمور الحلال والحرام. وأدلة العلماء في هذه المسألة على هذين القسمين:
القسم الأول: أدلة المانعين من أخذ العوض
- أنه لا يجوز التعبد بعوض، والتأليف في العلوم الشرعية عبادة، وعليه فلا تجوز المعاوضة عليه.
- أن حبس المؤلف لكتابه عن الطبع والتداول إلا بثمن يعد باباً من أبواب كتم العلم، وقد جاء فيه الوعيد في قوله ﷺ: “من سُئل عن علمٍ يعلمهُ فكتمهُ أُلْجِمَ يومَ القيامةِ بِلِجَامٍ من نارٍ” [أخرجه أبو داود (3658)، والترمذي (2649)].
- أن بذله للنشر والانتفاع ـ بمعنى جعل حق الطبع لكل مسلم ـ يحقق مقصداً من مقاصد الشريعة، وهو نشر العلم وتيسيره وتقريبه للناس.
القسم الثاني: أدلة المجيزين لأخذ العوض
- قوله ﷺ: “إِنَّ أَحَقَّ ما أَخَذْتُمْ عليه أَجْرًا كِتَابُ اللهِ” [صحيح البخاري، رقم الحديث: 5737]. وشرح الحديث: القرآن الكريم له فضل عظيم، وتعليمه للناس من أعظم الأعمال التي تقرب إلى الله سبحانه، وذلك عندما يكون خالصاً لوجهه سبحانه. وفي هذا الحديث يقول النبي ﷺ: “إن أحق ما أخذتم عليه أجراً”، من المال أو أي عوض آخر، “كتاب الله”، وهو القرآن الكريم. وهذا توجيه عام، ويدخل فيه إباحة الأجر على التعليم أو الرقية وغير ذلك. وفي رواية البخاري: أن جماعة من أصحابه ﷺ قد أخذوا قطيعاً من الغنم على رقية، فقال لهم رسول الله ﷺ: “قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهماً”، فعبر عن رضاه بما أخذوا، وشاركهم فيه[7].
- حديث قصة جعل القرآن صداقاً، وفيه قول النبي ﷺ: “قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بما معكَ مِنَ القُرْآنِ” [صحيح البخاري، رقم الحديث: 5132]. فإذا جاز جعل تعليم القرآن عوضاً تُستحل به الأبضاع، فمن باب أولى أخذ العوض عليه لتعليمه ونشره، وأولى منهما أخذ العوض على مؤلف يحمل مفاهيم من الكتاب والسنة. فصارت دلالة هذا الحديث على جواز العوض على التأليف أولى من مورد النص.
- أن التأليف عمل يد وفكر، وقد سُئل النبي ﷺ عن أطيب الكسب فقال: “عملُ الرَّجلِ بيدِه وكلُّ بيعٍ مبرورٍ” [أخرجه الإمام أحمد: 17265]. وقال عليه الصلاة والسلام: “إن أطيبَ ما أَكَلْتُم مِن كسبِكم، وإن أولادَكم مِن كَسْبِكم” [أخرجه أبو داود: 3528].
- العمل بقاعدة: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”. فإن المفسدة الحاصلة بترك الكتب الشرعية بلا حفظ لحق طبعها مفسدة ظاهرة في هذا الزمان، من جراء قلة أو انعدام الوازع الديني ومراقبة الله في نشر علوم الشريعة وبثها للناس. فإذا لم تُدرأ مفسدة شيوع حق النشر، تحكّم الناشرون في إفساد الكتب، وترك تصحيحها وتصويبها، وترك الاعتناء بالآيات والأحاديث ونحو ذلك، وقد يُسقطون ما يُسقطون جهلاً، ويزيدون ما يزيدون جهلاً كذلك. والمصالح التي قد تكون مع شيوع حق النشر، لا تُقدَّم على درء هذه المفسدة.
- إن تجويز ذلك فيه دفع عظيم للبحث والتحقيق، وترويج سوق العلم ونشره وبثه، وشحذ لهمم العلماء لنشر نتائج أفكارهم وإبداعهم، وهذا من أهم وسائل تقدم الأمة وتصحيح نهجها. وفي المنع سلب لهذه الوسائل، وسبب لركود الحركة العلمية في مجال التأليف والإبداع، لا سيما مع تغير الزمان والأحوال، وندرة المتبرع، وشدة الحاجة، وضعف الهمم وقصورها.
- أنهم أجازوا أخذ الأجرة على نسخ المصحف، فعن ابن عباس أنه سئل عن أجرة كتابة المصاحف فقال: “لا بأس! إنما هم مصورون، وإنما يأكلون من عمل أيديهم”. واختلفوا أيضاً في حكم إجارة المصحف على قولين، هما وجهان لدى الحنابلة، أحدهما الجواز. فهذان ضربان من جواز أخذ العوض بشأن القرآن، وهو أصل العلم وأساسه، وواجب النشر والتعليم. أفلا يصح بعد هذا أن يقال بجواز أخذ العوض على التأليف، وقد بُذل فيه ما بُذل؟!
- أن في حماية حقوق الطبع دفعاً لتسلط الناشرين، من مسلمين وكافرين، عليها، حتى لا تكون جواداً رابحاً يغامرون عليه من غير أي عوض. وهل لهذا نظير في الشريعة أن يعمل الإنسان عملاً يُحرَّم عليه عوضه، وينساب لغيره؟
وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس بالكويت 1409هـ – 1988م ما يلي:
أولاً: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتموّل الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً، فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانياً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.
حقوق الملكية الفكرية
النظرة الشرعية إلى حقوق الملكية الفكرية كالاسم التجاري، والعلامة التجارية، وحقوق التأليف والاختراع[8]:
أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتموّل الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانياً: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً.
ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.
٭ الإسلام يحرم التعدي على حقوق الملكية الفكرية والاستيلاء عليها[9]:
قالت اللجنة الدائمة للفتوى: “إن الإسلام يحرم التعدي على حقوق الملكية الفكرية ويوجب على الإنسان احترام حقوق الآخرين”، محذرةً من الاستيلاء على تلك الحقوق أو الاستفادة منها إلا بإذن أصحابها.
وأوضحت اللجنة في بيان لها حول الحقوق الفكرية، أن الشريعة المباركة جاءت بحفظ الحقوق لأصحابها وأكدت على تحريم التعدي على حقوق الآخرين، وذلك بقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [سورة البقرة – الآية 190]، ومن ذلك أن الله منع التعدِّي على أموال الآخرين، وقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: “أَلَا لا تَظْلِموا، أَلَا لا يَحِلُّ مالُ امرِىءٍ إلا بِطِيبِ نفسٍ منه” [الألباني-هداية الرواة-الصفحة أو الرقم:2875]، مشيرةً إلى أن المراد بالمال في الحديث الشريف هو كل سلعة مباحة أو فكرة لها قيمة.
وأضافت أن الأفكار أصبح لها قيمة حسب الأنظمة الصادرة في ذلك، وبالتالي يصبح التعدي عليها غير جائز، كما أن الآثار المادية والمالية الناتجة عن الحقوق الفكرية هي حق لمالكها؛ ولا يجوز التعدي عليها أو أخذها بدون إذن من ملاكها بعقد أو إباحة.
وحذرت من الاستيلاء على الحقوق الفكرية للآخرين أو الاستفادة منها أو أخذ العوض عنها إلا بإذن من أصحابها، موصيةً الجميع بتقوى الله والحذر من التعدي على حقوق الآخرين.
حماية الملكية الفكرية في الإسلام
لم يرد عند الفقهاء مصطلح حماية الملكية الفكرية أو حق الملكية الفكرية[10]. ومن ثمّ فإنه مصطلح جديد وقادم من الغرب، نعم، نقرأ في كتب الفقهاء وعلماء أصول الفقه مصطلح الحق، والحق في اللغة العربية نقيض الباطل، ومعناه ثبوت الشيء، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة يس-الآية:7]، وقول رسول الله ﷺ: “إنَّ اللهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ؛ فلا وصيَّةَ لوارثٍ” [سنن أبي داود-رقم الحديث: 2870].
- والحق في اصطلاح الحقوقيين هو اختصاص يخوّل الشرع صاحبه بموجبه سلطة له أو تكليفاً عليه.
- والحق في الشريعة الإسلامية هو ما يختص به الشخص عن غيره مادة ومعنى وله قيمة.
- وينقسم الحق عنده إلى: 1-حق مادي. 2-حق معنوي كالملكية الفكرية وحق التأليف.
- والحق في الإسلام غاية ووسيلة في آن واحد، ولكنهما منضبطان بالأحكام الشرعية وغير مطلقتين، غاية شرعية يسعى الإنسان لتحقيقها والوصول إليها؛ ووسيلة للوصول إلى مصلحة أو مصالح مشروعة، ولو كان الحق غاية مطلقة لجاز للإنسان أن يتصرف فيه كما يشاء وحسب هواه؛ ولكن الإسلام ضبطه ووضع له الأسس والأحكام ليستطيع القيام بمهام الاستخلاف على الأرض ثم قيامه بإعمارها حسب قول الله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [سورة هود-الآية:61].
- وإذا كان الفرد شخصية طبيعية، فإن الدولة شخصية معنوية، ومن يقومون على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، هم يمثلونها ويعملون للمصلحة العامة.
- وحق الملكية الفكرية سواء كان مالاً فقط، أو مالاً وغير مال، فإنه من المصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية.
- فهو مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون، أو مصلحة مستحقة شرعاً.
- الإسلام احترم التفكير عموماً، واحترم العقل، وعدّهما من النعم، لذلك دعا إلى المحافظة على الكليات الخمس: (الدين، العقل، النفس، النسل، المال) التي منها العقل، فالإسلام وإن لم ينص صراحة على حماية حق براءة الاختراع وحق التأليف، فإنه احترم العلم والعمل الشريف.
- فقول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [سورة القصص-الآية: 77]، يُفهم منه أن العمل النافع مطلوب شرعاً، ومن ثم فإن حقه في الحياة مصون شرعاً، لكن حماية هذا الحق يجب ألا تؤدي إلى احتكار العلم، فالمحتكر ملعون، ولكي لا يُحتكر العلم يجب أن تحدد مدة حماية حق الملكية الفكرية بزمن معين كالخمسين سنة مثلاً.
حقوق الملكية الفكرية في النظامين الاشتراكي والرأسمالي الوضعيين
لما كانت الحقوق الفكرية[11] تهدف أساساً إلى تحقيق المنافسة الربحية، فإنه من الطبيعي أن تقل أهميتها في النظام الاشتراكي الوضعي لكونه يعتمد على الملكية العامة أو الاجتماعية المطلقة، وكذلك الربحية العامة أو الاجتماعية الطاغية، ونبذ الربحية الخاصة عند الإنتاج والاستثمار وأي عملية تجارية والقضاء عليها، وما يترتب على ذلك من إهدار للحقوق الفكرية وعدم تشجيع الابتكار والاختراع والمخترعين. وكل ما في الأمر أن الابتكارات والاختراعات التي يقوم بها الأفراد في ظل النظام الاشتراكي الوضعي تمتلكها الدولة مقابل جوائز تقديرية أو أدبية أو مكافآت مالية تُعطى للمخترع. في حين تبقى تلك الاختراعات في ظل النظام الرأسمالي الوضعي ملكاً لصاحبها، الذي له حق احتكارها والاستئثار باستغلالها مالياً مدة معينة، وحرمان المجتمع من استغلالها طوال هذه المدة.
فالمخترع في الرأسمالية الوضعية يستطيع أن يستأثر باختراعه لنفسه ويحتكره لصالحه في كل المدة التي يحددها القانون، وبالتالي يتصرف به بكافة التصرفات القانونية. في حين أن المخترع في الاشتراكية الوضعية لا يستطيع أن يستأثر باختراعه لنفسه ولا يحتكره لصالحه أية مدة، ولا يستطيع التصرف به بأي صورة من الصور، بل عليه أن يردَّه إلى الدولة لقاء مكافأة محددة في القانون؛ لتقوم هي باستثماره لصالح المجتمع. ولذلك فإن براءة الاختراع في النظام الرأسمالي الوضعي عبارة عن عقد بين المخترع والإدارة يقدم بمقتضاه الأول سرّ اختراعه إلى الجمهور ليصبح بالإمكان الإفادة منه صناعياً، مقابل حقه في احتكار استغلاله والإفادة منه خلال فترة معينة، متمثلاً ذلك في الوثيقة المسماة بالبراءة الصادرة عن الجهة الإدارية المختصة.
أما في النظام الاشتراكي الوضعي فإن براءة الاختراع تُمنح للمخترع من قبل السلطة العامة للدولة، وللمخترع الحق في نسبة الاختراع إلى نفسه؛ بالإضافة إلى مكافأة مالية عند التطبيق، مقابل نزع ملكية الاختراع منه، وتعميمه على مصانع الدولة لتصنيعه.
المنظور المتوازن للاقتصاد الإسلامي وغير المتوازن المطلق للأنظمة الاقتصاديّة الوضعيّة تجاه الملكيّة الخاصة
تختلف الأنظمة الاقتصادية الوضعيّة في تنظيم الملكيّات الفرديّة[12]، فالاشتراكيّة الوضعية تعتمد سياسة تضييق دائرة الملكيّات الفرديّة إلى أضيق الحدود، في مقابل التوسع في نظام الملكيّة العامة التي تديرها الدولة، حيث تكاد تقصر حدود ملكيّة الأفراد على الضروريات والحاجات الأساسيّة، بينما تتملك الدولة الأرض وما عليها وجميع الموارد ووسائل المواصلات والمصانع، وتتحكم في الأسواق تحكماً كاملاً. ورغم أن المقصد المعلن لهذا النظام هو تحقيق المساواة، إلا أن الواقع العملي أظهر عيوباً وخللاً في التطبيق، حيث أضعف روح الجد والاجتهاد وقتل المَلَكات الفردية، مما أدى إلى تراجع الإنتاج والتنمية. ومع فشل محاولات الإصلاح، انهار هذا النظام بسقوط راعيه الرسمي الاتحاد السوفيتي في بداية عام 1992م.
أما النظام الرأسمالي الوضعي، فهو على النقيض من النظام الاشتراكي، حيث يتوسع في إقرار الملكيّات الفردية ولا تتدخل الدولة في النشاط التجاري إلا نادراً. وكما فشل النظام الاشتراكي لتضييقه على الملكية الخاصة، فشل النظام الرأسمالي في تحقيق السعادة لمجتمعاته، حيث فتح الأبواب على مصاريعها للملكيّات الفرديّة مما خلق طبقية بغيضة، وبوناً شاسعاً بين الأغنياء والفقراء، إضافة إلى سماحه بالأنشطة الاحتكارية والممارسات التجارية الضارة بالناس، كالاستثمار في الخمور والقمار وأماكن اللهو.
هذه السلبيات المترتبة على تبني النظامين الاشتراكي أو الرأسمالي الوضعيين، لا تجدها في النظام الاقتصادي الإسلامي. فهو نظام يضمن تحقيق حاجات الناس، ويقر الملكيّة الفرديّة الربحية، ولكنه ينفرد بوضع ضوابط على كيفية التملك، ويُخضع استثمارها لرقابة الدولة، بما يضمن نفع الملكيات لأصحابها وللمجتمع على السواء.
كما أن الاقتصاد الإسلامي راعى الفقراء ومحدودي القدرات، وذلك بضمان موارد تغطي احتياجاتهم، كالزكاة المفروضة في أموال الأغنياء، والصدقات التطوعيّة التي حث الشرع عليها. وهؤلاء هم من قصدهم الله تعالى في قوله: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [سورة المعارج: 24-25]. وحتى لا تركن هذه الفئات الفقيرة إلى ما يُدفع لها، حثهم الشرع على السعي والعمل والترفع عن أموال الصدقات متى وجدوا ما يكفيهم، كما مدح الله المتعففين بقوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [سورة البقرة: 273].
كذلك، أتاح النظام الاقتصادي الإسلامي المجال للاستفادة من القدرات والفروق الفرديّة؛ حيث لم يحدد الملكيّات بسقف أعلى. وفيما يخص الأسواق، لم يجعل الأصل سيطرة الدولة عليها كما في الاشتراكية، ولم يتركها حرة تماماً كما في الرأسمالية، وإنما أعمل قاعدة العرض والطلب الشرعية التي توازن الأسواق. فإن اختلت هذه القاعدة بتواطؤ أو احتكار، تدخلت الدولة لإصلاح الخلل ومنع التجاوزات فقط. وإذا اقتضى الأمر التسعير لمنع الضرر، جاز ذلك استثناءً، مع أن الأصل عدم التدخل، لقول النبي ﷺ عندما طُلب منه التسعير: “إِنَّ اللَّهَ هوَ المسعِّرُ، القابضُ، الباسطُ، الرَّازقُ…” [سنن أبي داود، رقم الحديث: 3451].
كما تتدخل الدولة لمنع استثمار الأموال في التجارات المحرمة. وفي ظل النظام الاقتصادي الإسلامي، يحق للدولة استثنائياً نزع بعض الملكيّات الخاصة للمصلحة العامة، كشق طريق أو بناء مرفق ضروري، مع تعويض المالك تعويضاً عادلاً، فمصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد.
وإذا كان الإسلام قد أطلق الملكيّات الفرديّة ولم يضع لها حداً، فإن الدولة تراقب وتلزم أصحاب هذه الأموال بأداء الحقوق المتعلقة بها، كإخراج الزكاة، ومعاقبة الممتنعين عنها. كما وجهت الشريعة أرباب الأموال إلى استثمارها وتنميتها، وحذرت من تعطيلها، لما في ذلك من منفعة للمالك بالربح، وللمجتمع بتوفير المنتجات وفرص العمل ودعم الاقتصاد.
لا شكّ أن ترسيخ مفهوم فلسفة الملكية الفرديّة وضوابطها في الشريعة الإسلاميّة يحقق المصلحتين الفردية والجماعية في آن واحد للمجتمعات الإسلامية؛ ويُبيّن المنهج المعتدل المتوازن تجاهها؛ والذي عجزت الأنظمة الوضعيّة عن تحقيقه، بتضييقها الخانق في النظام الاشتراكي الوضعي؛ وإطلاقها المفسد في النظام الرأسمالي الوضعي.
تعريف النظام الاقتصادي الإسلامي
النظام الاقتصادي الإسلامي[13] يهدف إلى إشباع حاجات الإنسان ضمن إطار من القيم والأخلاق الإسلامية، التي تحدث نوعاً من التوازن بين الفرد والمجتمع الذي يحقق الرقي للإنسان والمجتمع في كافة ميادين الحياة.
ماهية النظام الاقتصادي الإسلامي
يُعرَّف النظام الاقتصادي الإسلامي بأنه: السلوك أو التصرف أو التعامل الإسلامي الذي ينبثق من العقيدة والأخلاق الإسلامية في استخدام الموارد الاقتصادية الوفيرة غير النادرة في المجتمع أو البلد الإسلامي؛ لإشباع الحاجات الاقتصادية والإنسانية المسموح بها شرعاً.
إن النظام الاقتصادي الإسلامي لا يعمل بمعزل عن القرآن والسنة النبوية الشريفة، بل إن المسلم يستنبط القواعد والأسس العامة التي تحكم السلوك الاقتصادي من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية؛ والتي يجد من خلالها التوجيه والإرشاد والطريق الاقتصادي الشرعي الذي يجب على المسلم أن يسلكه؛ والتي تحدد السلوك الاقتصادي الفردي والاجتماعي تجاه جميع المتغيرات الاقتصادية كالاستثمار والإنتاج والتبادل التجاري وغيرها؛ كقول الله تعالى في مجالي الإنفاق والادخار: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [سورة الإسراء-الآية:29]. إذن فإن المرشد والمصدر الأول الذي يعتمد عليه بل ويتكون منه الاقتصاد الإسلامي هو: القرآن والسنة؛ ثم الاجتهادات البشرية على ضوئهما.
الاقتصاد بين الاقتصاد الإسلامي والرأسمالية الوضعية
عند المقارنة بين منظور الاقتصاد الإسلامي والنظام الرأسمالي الوضعي حول الاقتصاد، نجد أن الرأسمالية الوضعية تسعى أولاً إلى تحقيق المصلحة الشخصية؛ وعندما تتحقق المصلحة الشخصية، تتحقق لديها المصلحة العامة المشتركة. يقول العالم الاقتصادي الوضعي آدم سميث: “إننا لا نتوقع أن يتكرم علينا الجزار أو الخباز بطعام العشاء، لكننا نتوقعه من اعتبارهما لمصلحتهما الشخصية. ونحن لا نخاطب إنسانيتهما لكن نخاطب حبهما لنفسيهما، ولا نتحدث عن ضروراتنا، لكن عن مكاسبهما”. وهذه العبارة تعني أن مصلحة الآخرين أو المجتمع تأتي من خلال وبعد تحقيق المصلحة الفردية.
أما في الاقتصاد الإسلامي، فإن المصلحة الفردية والمصلحة العامة لهما كيانهما الخاص؛ وتوجد حالة من التكامل والتعاون والتآزر بينهما؛ ولا يتوقف تحقيق أحدهما على تحقيق الآخر كما هو الحال في الرأسمالية الوضعية. وهناك خمسة أنواع من المصالح في الاقتصاد الإسلامي تبعاً لوجود خمسة أنواع من الملكية فيه؛ وهذه الملكيات هي: (المشاعية للمباحات العامة المادية، العامة، الخاصة، المجموعية، المختلطة)؛ وتبعاً لهذه الملكيات، هناك خمسة أنواع من المصالح الاقتصادية فيه هي: (مصلحة المباحات العامة المادية على الشكل المشاعي أو الشيوع بين أفراد المجتمع الإسلامي، المصلحة العامة، المصلحة الخاصة، المصلحة المجموعية، المصلحة المختلطة). والسمات الاقتصادية لهذه المصالح هي كالآتي:
وجود التآلف والتكامل والتناصر والتآزر فيما بينها.
عدم وجود التناقض والتضاد فيما بينها، وإذا حدث ذلك؛ فتُفضَّل حينئذ المصالح العامة للمجتمع على المصالح الفردية بشكل منضبط بالأحكام الشرعية؛ ونعني به عدم القضاء على المصالح الفردية؛ بل ترويضها وتصحيح مسارها ونشاطاتها لتتفق مع المصالح العامة والمصالح الأخرى للمجتمع الإسلامي؛ مع إعطاء البدل أو العوض للملكية الفردية حتى لا يُغدر بها ولا تُؤكل حقوقها.
كل مصلحة من المصالح الخمس لها مكانتها وشخصيتها الاقتصادية المستقلة الخاصة بها؛ ويجب أن يُحترم كل منها؛ ولا تُنتهك حقوقها.
ترسيخ وتفعيل الأحكام الشرعية للحفاظ على حالات التوافق والتعاون فيما بين أجزاء الملكية الواحدة وبينها وبين الملكيات الأخرى. فمثلاً، لتوزيع الماء القليل على بساتين متعددة في زراعات القرى والأرياف؛ تُستخدم قاعدة الأقربية الجغرافية للسقي فيها حسب حديث رسول الله ﷺ الوارد: “قَضى رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي سَيْلِ مَهزُورٍ، الأَعلَى فوق الأَسْفَلِ. يَسْقِي الأَعْلَى إِلَى الكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى مَن هُوَ أَسْفَلُ مِنه” [سنن ابن ماجه، رقم الحديث: 2481]، والحديث الوارد: “أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَضَى، فِي شُرْبِ النَّخْلِ مِنَ السِّيْلِ، أَن الأَعْلَى فَالأَعْلَى يَشْرَبُ قَبْلَ الأَسْفَلِ، وَيُتْرَكُ المَاءُ إِلَى الكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَاءُ إِلَى الأَسْفَلِ الَّذِي يَلِيهِ، وَكَذلِكَ، حَتَّى تَنْقَضِيَ الحَوَائِطُ أَوْ يَفْنَى المَاءُ” [سنن ابن ماجه، رقم الحديث: 2483].
هذه المصالح الخمس المتعاونة سبيل قوي للولوج إلى العمليات التنموية في البلد الإسلامي؛ لأنها تعني إدخال عوامل إنتاجية مختلفة إلى النشاطات الاقتصادية وتفعيلها في آن واحد؛ للوصول إلى الأهداف المرجوة من تلك العمليات.
إن أي نشاط اقتصادي في الاقتصاد الإسلامي يعتبر عملاً عباديًا لكونه يطبق أحكام الشريعة الإسلامية؛ ويلتزم بتعاليمها من الأوامر والنواهي، وفي هذا يكون على النقيض من الأنظمة الاقتصادية الوضعية التي لا تأخذ بنظر الاعتبار الأحكام الشرعية الإسلامية في نشاطاتها.
الاقتصاد الإسلامي نظام اقتصادي قائم بنفسه
إذا تأملنا في النظام الاقتصادي الإسلامي؛ نجد أنه يمثل العدل الوسط بين النظامين الوضعيين الرأسمالي والاشتراكي، فالاقتصاد الإسلامي هو نظام قائم بذاته[14]، له فكره الاقتصادي والاجتماعي الخاص به، فهو يعترف بقيمة الإنسان، كما يعترف بحقوق المجتمع، فيقيم توازنًا بينهما، بل إنه جعل الفرد للجماعة، والجماعة للفرد عن طريق التضامن العام بين الأفراد. فهو إذن ليس فرديًا فقط يؤدي إلى الرأسمالية الوضعية، وليس جماعيًا يؤدي إلى الاشتراكية الوضعية، وإنما يمنح الفرد حرية منضبطة بالأحكام الشرعية؛ يُسمح له بتنمية نفسه من دون أن يطغى على حرية وكيان الآخرين، ويمنح المجتمع أو الدولة التي تمثله سلطة واسعة في تنظيم وتوازن الحريات الاقتصادية على أساس من التراحم والتعاون المتبادل بين الفرد والجماعة، لا على أساس الحقد والتناقض بين الناس.
وبناء عليه فإن الاقتصاد الإسلامي يعترف بحق الإنسان في التملك الفردي، ويمنحه حق الانتفاع والاستثمار لماله، والتصرف فيه طوال حياته وبعد مماته، في حدود معينة تعتبر أوسع بكثير من القدر الذي تسمح به الاشتراكية الوضعية، ولكنه لا يعطي المالك السلطان المطلق فيما يملك بغير أي قيد عليه كما تفعل الرأسمالية الوضعية، فهو لا يسمح بالربا والاحتكار، ولا أن تكون الملكية سبيلاً للاستغلال الحرام والطغيان، وبذلك يجمع الاقتصاد الإسلامي بين مزايا كل من الاشتراكية والرأسمالية، ويتجنب الانحراف والمبالغة في كل منهما. ولا يمكن القول بأن نظام الاقتصاد الإسلامي نظام رأسمالي أو اشتراكي؛ بل هو اقتصاد مستقل له أركانه وأسسه الخاصة به، ومنظور مستقل وأدوات وعوامل مستقلة في معالجة المشاكل الاقتصادية؛ ودفع عجلة التطور والتنمية لاقتصاد البلد الإسلامي.
الاقتصاد الإسلامي نظام اقتصادي قائم بنفسه لا ينسب إلى مذهب آخر جديد كان أو قديم، فإذا ما وجدت في الرأسمالية أو الاشتراكية الوضعيتين أو غيرهما من الأنظمة الوضعية بعض معاني الإنسانية أو نوع من التكافل الاقتصادي؛ فلا يعني ذلك أن نظام الاقتصاد الإسلامي هو ذلك النظام أو ناتج منه أو تابع له. وكذلك من غير الصحيح أن يُقال إن الاقتصاد الإسلامي قد زاوج بين سمات هذه الأنظمة واستُنتج منها، والصحيح أنه اقتصاد مستقل له أسسه ومبادئه الخاصة به؛ وهو النهج الوسطي؛ كما يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [سورة البقرة-الآية:143].
– المال مال الله والبشر مستخلفون فيه:
إذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجد أنه ينسب المال إلى الله تعالى، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [سورة النور-الآية:33]، وقول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا﴾ [سورة المدثر-الآية:12]، ثم ينسبه إلى الإنسان عن طريق استخلاف الله تعالى له، يقول الله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [سورة الحديد-الآية:7]، ثم يرشده إلى طريق الخير والهداية؛ يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة البقرة-الآية:274].
فالمال المستخلف هو مال الله تعالى بالأصل، هو خلقه وقسّمه ورزقه للإنسان عن طريق الاستخلاف. فأصبح مالاً له؛ ووضع له الأسس والضوابط والأحكام للعمل الشرعي فيه، وترك له الوسائل والتفاصيل ليختارها ويستعمر بها الأرض.
– القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يدعمان حقوق الملكية الفردية:
أقرت نصوص الشريعة الإسلامية الملكية الفردية، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [سورة الأنعام-الآية:152]، وقال تعالى: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ [سورة الهمزة-الآية:3]، وقال: ﴿مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [سورة المسد-الآية:2]، وقال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [سورة آل عمران-الآية:186]، وقال: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ﴾ [سورة الليل-الآية:18]. في هذه الآيات وغيرها الكثير مما ينسب فيها المال إلى الإنسان؛ تشير بوضوح إلى الملكية الفردية التي يقرّها الإسلام.
والإسلام ثم الاقتصاد الإسلامي ينتهج المنهج الوسط في منظوره الاقتصادي، فهو يقر حق التملك الفردي على أن يبقى منسجمًا مع مصلحة الجماعة، محققًا لأهدافها، ومتفقًا مع نظرة الإسلام الاقتصادية الكلية التي تقوم على تحقيق مصلحة الفرد والجماعة في آن واحد، وأن الملكية الخاصة في الإسلام تؤدي وظيفة فردية ووظيفة اجتماعية؛ من غير تنافر أو تناقض فيما بينهما. ونظرة الإسلام في مسألة الملكية تتفق مع طبيعة النفوس البشرية التي تحب المال، وتسعى للتملك بقول الله تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [سورة الفجر-الآية:20]. وكذلك الملكيات الأخرى فإنها عندما تحقق مصالح نفسها؛ تحقق أيضاً المصالح الأخرى في حالة من التعاون والتكامل فيما بينها، والشريعة الإسلامية منذ مجيئها قد وضعت الضوابط والأحكام الخاصة بكل نوع من أنواع الملكيات في داخلها وكذلك مصالحها المرتبطة بها؛ من خلال بيان كيفية التصرف الشرعي لكل ملكية منها على حدة.
وهكذا فقد كفل الإسلام الملكية الفردية وأقرّها، ولم يغفل دور الملكيات الأخرى؛ وخاصة منها الملكية الجماعية وأهميتها، ووضع القواعد والأطر لهذه الملكيات؛ حتى لا تتحكم فيها الميول والأهواء، ولا تتنازعها الأمزجة والاتجاهات، أو الالتفاف حول نشاطاتها وتحوير مساراتها الشرعية نحو المحرمات أو تأويل النصوص بما يتفق وشرههم للمال والسلطة.
وشدد الإسلام في اتباع طرق التملك المشروعة والبعد عن طرق التملك غير المشروعة، ولكون الأهواء مختلفة متشعبة؛ لذلك فقد وضع الله تعالى قواعد وأطر لهذه الملكيات، فلا غش، ولا تدليس، ولا تغرير، ولا استغلال لحاجة الناس، ولا احتكار لقوت المسلمين، ولا ربا في المعاملات، ولا استغلال لحاجات الناس، بل هناك تعاون وتكافل وتآزر بين أفراد المجتمع الإسلامي على أساس البرِّ والتقوى؛ وهي كما قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [سورة المائدة-الآية: 2].
وفي هذا الصدد نجد إباحة الإسلام التملك: بإحراز المباحات غير المملوكة لأحد؛ كإحياء الموات وإحراز الكنوز والمعادن، والاصطياد والاحتطاب، وأباح التملك بالتراضي، إما بعوض؛ كالبيع والإجارة والمشاركة وغير ذلك، أو بغير عوض؛ كالهبة والوصية والصدقة، كما أباح التملك بالميراث، وهو ما يحصل بغير اختيار من الوارث. وحرّم الإسلام كل ملكية جاءت بطريق غير مشروع ومنهي عنه ومناقض للأحكام الشرعية كالسرقة، والغصب، والاحتكار، والربا والغش، وغير ذلك من الطرق المحرمة.
كذلك فإن الإسلام شدد في المنع من استخدام الملكية في الإفساد في الأرض، والإضرار بالناس، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [سورة الأنفال-الآية:36]، وبيّن الطرق الشرعية للإنفاق والتي تفيد بناء الفرد والمجتمع؛ كما قال الله عز وجلَّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة-الآية: 215].
بالتأكيد، يسعدني تدقيق هذا الجزء من المقال. لقد قمت بإجراء التصويبات الإملائية والنحوية وتعديل علامات الترقيم، مع تصويب رقم الآية القرآنية المذكور خطأً، والالتزام الكامل بصياغة وأسلوب الكاتب الأصلي.
ثلاثة مبادئ رئيسية للاقتصاد الإسلامي
ينبني الاقتصاد الإسلامي على مبادئ رئيسية عديدة منها هذه الثلاثة الأساسية؛ التي تميزه عن النظريات والقوانين الاقتصادية الوضعية[15]:
أولاً: تعدد ملكية وسائل الإنتاج
الاقتصاد الإسلامي المعاصر يمتلك خمسة أنماط من الملكيات هي: الملكية المشاعية للمباحات العامة المادية، والملكية العامة، والخاصة، والمجموعية، والمختلطة، وكلها بالأصل متأتية ونابعة من ملكية لله تعالى، أما ملكية البشر لوسائل الإنتاج فاستخلافية.
الأصل في الملكية التامة أنها لله، فهو سبحانه وتعالى الخالق، لا شريك له في ملكه، الرازق، الواهب، المانح، المانع، مالك الملك والملكوت، قال الله تعالى:
- ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة: 29].
- ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّmَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [سورة المائدة: 18].
- ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ﴾ [سورة طه: 6].
- ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [سورة الأعراف: 10].
- ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ [سورة الحجر: 21].
- ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ﴾ [سورة سبأ: 24].
وقد نجد في آيات أخرى نسبة المال للناس، كقول الله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [سورة الذاريات: 19]، وقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة التوبة: 103]، وقوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 279]، والملكية هنا إنما هي ملكية المنفعة والتصرف.
ويمكن إدراك هذا بضم الآيات بعضها إلى بعض، وتدبر قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ [سورة النساء: 5]، فالمال هنا مال السفهاء؛ حجرت الشريعة الإسلامية عليه بسبب السفه، والسفه مناقض لمبدأ الاستخلاف في قول الله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [سورة الحديد: 7]؛ لذلك قوبل مالكه بالتحجير عليه والإنفاق عليه منه. فالله عزَّ وجلَّ استخلف البشر في ماله، وجعل لهم حق المنفعة والتصرف فيه، وهذا الحق جُعل في بعض الأموال للأفراد وهو ما يُعرف بالملكية الخاصة، وفي بعضها الآخر جُعل للجماعة أو الدولة، وهو ما يُعرف بالملكية العامة، وكِلا النوعين من الملكية الخاصة والعامة محميتان ومصونتان في الإسلام، لا يجوز اغتصابهما أو الاعتداء عليهما أو إدخالهما في النشاطات المحرمة شرعاً، ووُضعت العقوبات الزاجرة لمن ينتهك حقوقهما.
وقال رسول الله ﷺ في الحديث القدسي: “إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا” [سنن أبي داود، رقم الحديث: 3383]. وهذا الحديث يثبت الشراكة بين المسلمين؛ مما يثبت وجود الملكية المجموعية لشخصين فأكثر. أما الملكية المختلطة فهي ملكية جديدة في الاقتصاديات المعاصرة؛ ويستوعبها الاقتصاد الإسلامي حسب الأدلة الشرعية؛ يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر: 18]. فحسب هذه الآية الكريمة، عند السماع بظهور هذه الملكية الجديدة، يقوم الفقهاء باستيعابها إلى داخل الاقتصاد الإسلامي من خلال تصفيتها بالمصافي الشرعية؛ وتخليصها من المثالب والعيوب غير الشرعية؛ ثم تنظيفها وجعلها تتفق مع الأحكام الشرعية؛ لتنتفع منها الأمة.
أما الملكية المشاعية للمباحات العامة المادية: فهي الملكية التي ترجع ثرواتها إلى جميع أفراد الأمة، ويكون الأخذ منها مجانًا؛ من دون تعويض؛ والكل له حق الأخذ أو الانتفاع منها؛ من دون إفراط ولا تفريط، والدولة الإسلامية تقوم بالإشراف عليها وتنظيم الأخذ والانتفاع منها مكانًا وزمانًا وحالًا. فمثلاً، قيام الدولة بتنظيم أوقات وأماكن وحالات صيد الأسماك في الأنهار والبحيرات والسدود؛ حتى لا تُهدر ثرواتها؛ وينتظم صيدها حسب فصول السنة الأربعة للصيادين.
المباحات العامة المادية هي: الثروات والموارد الطبيعية التي لم يدخل الجهد البشري في إنتاجها؛ ويباح لجميع أفراد الأمة الانتفاع منها، مثل المياه في مصادرها الأصلية، والأراضي غير المملوكة، والمعادن والنباتات الطبيعية، والحيوانات والطيور البرية. وهذه المباحات لا تخضع للملكية العامة والخاصة والمجموعية والمختلطة في الاقتصاد الإسلامي؛ وتُعتبر ملكًا للمجتمع الإسلامي ككل على شكل الشيوع المجاني.
الموارد الاقتصادية للمباحات العامة المادية:
تشتمل على موارد اقتصادية عديدة منها ما يلي:
- المياه وثرواتها الطبيعية: العيون، الأنهار، البحار، البحيرات، المحيطات، الأمطار، الثلوج والبرد. وكذلك الثروات والمعادن الثمينة في المياه مثل: الثروات السمكية والحيوانات المائية الأخرى بجميع أنواعها، معادن اللؤلؤ والمرجان والأحجار الكريمة.
- الأراضي: الأراضي غير المملوكة، والمراعي والغابات الطبيعية التي لم تنشئها الجهود البشرية.
- النباتات: الأعشاب، والأشجار البرية.
- الحيوانات البرية: الطيور، والحيوانات التي تعيش في البرية.
- معادن النفط، والغاز، والمعادن الأخرى في منابعها الأصلية: هذه المعادن الثمينة التي تقوم الحضارة الإنسانية عليها هي في الأصل مشاعية، إلا أن الدولة الإسلامية تقوم بإنتاجها واستثمارها والتبادل التجاري بها؛ كونها سلعاً استراتيجية تمس مستقبل الأمة وكيانها؛ لذلك تقوم الدولة من خلال القطاع العام بإنشاء المعامل والمؤسسات الإنتاجية عليها لاستثمار ثرواتها والإنتاج فيها؛ ثم توزع إيراداتها نقداً أو عيناً أو كليهما في آن واحد على أفراد الأمة.
- مباحات معاصرة: هناك مباحات معاصرة ظهرت في اقتصاديات البلدان الإسلامية تتمثل في الغابات والأنهار والسدود والحدائق العامة؛ التي تنشئها هذه البلدان لمواطنيها؛ وتجعلها مباحات عامة ينتفع منها الناس مجانًا بالسفر والسياحة والاستراحة إليها وفيها؛ فهذه الثروات هي تابعة للقطاع العام؛ والدولة تسمح لمواطنيها بالانتفاع منها مجانًا من دون تعويض.
– كيفية الانتفاع بالمباحات العامة المادية:
- يجب أن يكون الانتفاع بهذه المباحات وفقًا للأحكام والقواعد الشرعية.
- يجب أن يتم الانتفاع بها بما يحقق المصلحة العامة ويمنع الإضرار بالآخرين.
- يجب عدم الإسراف والتبذير في استهلاك الثروات والموارد الطبيعية.
- على الجميع محاولة الحفاظ عليها؛ وعدم القضاء عليها؛ أو تدميرها؛ لأن هذه الموارد هي للأمة كلها؛ وليست لأفراد أو جهات معينة.
- عند الانتفاع من هذه الموارد يجب صونها والإبقاء عليها للأجيال القادمة أيضًا.
– الإسراف في المباحات من العدوان المحرم:
الإسراف هو مجاوزة الحد في استهلاك المباحات، بالمبالغة في أكلها أو شربها أو غير ذلك من الاستخدامات. قال الفقيه ابن عابدين في ردّ المحتار: الإسراف صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي. والإسراف خُلق مذموم، أفتى العلماء بحرمته، ومنهم من قال بكراهته، والقول بالحرمة أولى، لأن الأدلة تشهد له، وقواعد الشريعة تعضده وتقويه. قال السرخسي في المبسوط -حنفي-: وأما السرف فحرام، لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾ وقال جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا﴾ [سورة الفرقان: 67]. وذلك دليل على أن الإسراف والتقتير حرام، وأن المندوب إليه ما بينهما.
وقال الخادمي في بريقة محمودية -حنفي-: اعلم أن الإسراف حرام قطعي، لثبوته بقطعي، ومرض قلبي، وخلق رديء دنيء، ولا تظنن أنه أدنى كثيرًا في القبح من البخل.
وقال في المبسوط: ولأنه إنما يأكل في منفعة نفسه، ولا منفعة في الأكل فوق الشبع، بل فيه مضرة، فيكون ذلك بمنزلة إلقاء الطعام في مزبلة، أو شر منها، ولأن ما يزيد على مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره، فإنه يسد به جوعته إذا أوصله إليه بعوض أو بغير عوض، فهو في تناوله جانٍ على حق الغير، وذلك حرام، ولأن الأكل فوق الشبع ربما يمرضه، فيكون ذلك كجراحته.
وإلى القول بالتحريم ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما نقله عنه غير واحد منهم ابن مفلح في الآداب الشرعية فقال: وقال الشيخ تقي الدين في موضع آخر: الإسراف في المباحات هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم. وقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية، بالتنفير من هذا الفعل الذميم، فقد جعل الله تعالى المسرف أخًا للشيطان فقال عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [سورة الإسراء: 27].
والمسرف غير محبوب عند الله تعالى، فقد قال عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [سورة الأنعام: 141]. فضلاً عن أن الإسراف يؤدي إلى كثير من المعاصي الأخرى، كقصد السمعة والرياء بهذا السرف، والوقوع في البطالة وضعف النفس والكسل. وأما السنة فقد ورد فيها قول النبي ﷺ: “ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه”. رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح. [16]
ثانياً: التكافل الاقتصادي وضمان الكفاية
يتفرد الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاديات الوضعية بوجود ما يسمى بنظام التكافل الاقتصادي ونظام ضمان الكفاية المعتبرة، قال رسول الله ﷺ: “مَن وَلِيَ لنا عَمَلًا وليس له مَنزِلٌ فليَتَّخِذْ مَنزِلًا، أوَ ليست له زَوجةٌ فليَتَزوَّجْ، أوَ ليس له خادِمٌ فليَتَّخِذْ خادِمًا، أوَ ليست له دابَّةٌ فليَتَّخِذْ دابَّةً، ومَن أصابَ شَيئًا سِوى ذلك فهو غالٌّ” [مسند الإمام أحمد، رقم الحديث: 18015]، وقول النبي ﷺ: “من كانَ لنا عاملًا فليَكتسِبْ زوجةً، فإن لم يَكن لَهُ خادمٌ فليَكتسِبْ خادمًا، فإن لم يَكن لَهُ مسْكنٌ فليَكتسب مَسْكنًا” [سنن أبي داود، رقم الحديث: 2945].
فالدولة الإسلامية تضمن للفرد المسلم تمام الكفاية، ثم الكل يعمل ويكتسب دخولاً أكثر من غير تحديد؛ ثم العمل بالنفقات الواجبة بين أفراد الأسرة الواحدة؛ أي الإعالة الواجبة بين العمودين الآباء والأبناء، ثم العمل بالصدقات الواجبة والتطوعية؛ لسد حاجات الذين لا تكفيهم أجور عملهم؛ وكذلك العاجزين عن العمل بسبب العوق أو الهرم أو أسباب أخرى خارجة عن طاقاتهم، لإيصال مستويات معيشتهم إلى تمام الكفاية فأزيد. ثم بعد هذا، اللجوء إلى بيت المال والدولة الإسلامية نفسها لسد حاجات الذين لم ينتفعوا بالشكل الشرعي المضبوط من الخطوات السابقة لرفع مستوياتهم الدخلية والمعيشية.
هذا الذي بيّنّاه في الضمان المعيشي هو في النظام الاقتصادي الإسلامي؛ أما الرأسمالية الوضعية؛ فهي على نقيض من ذلك كله؛ لأنها لا تعرف شيئاً عن هذا التكافل ولا تعترف به، بل إن عالمهم الاقتصادي آدم سميث دعا إلى حيادية الدولة في المجال الاقتصادي وعدم التدخل في الحياة الاقتصادية.
وإذا وجدنا غير هذا في الدول الرأسمالية المعاصرة؛ فإنها نتيجة لإضرابات العمال أو لنشاط النقابات العمالية، وليس هو التحول أو الرجوع عن المبادئ الرأسمالية الوضعية، بل جاءت نتيجة للضغوط الاقتصادية والاجتماعية أو حتى السياسية؛ ولاستجابات القوى الداخلية والخارجية، وبذلك يمكننا القول: إن الرأسمالية الوضعية انهارت قبل انهيار الاشتراكية، فما يوجد في هذه الدول يعتبر سقوطاً لأهم مبادئ الرأسمالية ودليلاً على فشلها.
وفي الاشتراكية الوضعية بمرحلتيها وجدنا تناقضها وأوهامها؛ ففي الاشتراكية الوضعية الأولى كان المبدأ: “لكل حسب حاجته”، أما في الاشتراكية الثانية وفي ظل المركزية الدكتاتورية الشديدة تراجعوا عن هذا المبدأ وصارت: “من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله” مع إلغاء الملكية الخاصة الربحية في كليهما. يقول ستالين: “يجب أن يكون مفهومًا أن نظام المزارع الجماعية لا يعني مجرد احتكار الدولة لكل مصادر الإنتاج الزراعي فحسب، بل يعني أيضاً جعل العمل شرطاً أساسياً للحصول على لقمة العيش. فنحن لا نقيم المزارع لنطعم المتطفلين، فحد الكفاف لا تمام الكفاية مرتبط بالعمل، للرجال والنساء على السواء، وبدون ملكية خاصة”. ونتيجة لاصطدام هذا النظام بالواقع، بدأت الملكية الخاصة غير الربحية في حدود ضيقة تتسرب داخل الدولة الشيوعية، ثم كان انهيار هذا النظام الذي لم يكد يبلغ ثلاثة أرباع القرن.
– المبدأ الأساسي للتوزيع في الاقتصاد الإسلامي:
أما في الاقتصاد الإسلامي، فإن المبدأ الأساسي للتوزيع هو: “لكلٍّ حسب حاجته، ثم لكل حسب عمله، ثم لكل حسب وضعه زمانًا ومكانًا وحالًا، ثم لكل حسب طاقة بيت المال” [17]. وهذا المبدأ يعني أن توزيع الدخول والثروات في الاقتصاد الإسلامي يمرُّ بهذه المراحل الأربعة:
- المرحلة الأولى: لكل حسب حاجته: تعتمد هذه الفقرة على تحقيق الشريعة الإسلامية الكفاية المعيشية المعتبرة لكل فرد مسلم. والكفاية المعتبرة: “عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ لِلْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَسْكَنِ وَسَائِرِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، لِلشَّخْصِ نَفْسِهِ وَلِمَنْ هُوَ فِي نَفَقَتِهِ” [18]، وقول الإمام تقي الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: “واعلم أن المعتبر من قولنا يقع موقعًا من كفايته المطعم والمشرب والملبس، وسائر ما لا بدّ منه على ما يليق بالحال من غير إسراف ولا تقتير” [19].
- المرحلة الثانية: ثم لكل حسب عمله: في هذه المرحلة تدخل جميع عناصر الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي من: (الأرض، العمل، رأس المال، التنظيم، الشورى) إلى الميدان الاقتصادي، وكل واحد منها يأخذ دخوله التي يستحقها لقاء بذل جهوده في مجالات الإنتاج المادي والخدمي. والعمل كأحد العناصر الإنتاجية الأساسية فيه عندما يدخل إلى العمل؛ يستحق: الأجور والرواتب النقدية أو الحقيقية أو كليهما في آن واحد؛ حسب نوعية العمل الذي يبذل جهوده فيه.
- المرحلة الثالثة: ثم لكل حسب وضعه زمانًا ومكانًا وحالًا: في المرحلة الثالثة هناك بعض أفراد المجتمع الإسلامي لم يستطيعوا الاستفادة من المرحلة الثانية بسبب العوق أو المرض أو الشيخوخة أو غيرها من الأسباب الإجبارية، فإن الأغنياء في هذه المرحلة يكفلونهم ويعاونونهم بالزكاة الواجبة وغيرها من الصدقات الواجبة والتطوعية، لرفع مستوياتهم المعيشية ليصبحوا مستفيدين من توزيع دخول الأمة كالمرحلة الثانية.
- المرحلة الرابعة: ثم لكل حسب طاقة بيت المال: في هذه المرحلة إذا ظهر هناك أفراد لم ينتفعوا من المرحلتين الثانية والثالثة؛ فإن الدولة الإسلامية هي التي تقوم بإعانتهم من واردات بيت المال؛ أي من الإيرادات العامة للدولة، ويعني أن الدولة الإسلامية تقوم بالتدخل في نظام التوزيع في البلاد؛ وتقوم برفع المستويات المعيشية لهذه الطبقة من المجتمع الإسلامي، لرفع مستوياتهم المعيشية وإلحاقهم بالأناس الآخرين؛ وليصبحوا مستفيدين من توزيع دخول الأمة كالمرحلة الثانية من توزيع الدخول والثروات.
ثالثاً: الحرية الاقتصادية المنضبطة
الحرية المنضبطة أو المقيدة بالضوابط الشرعية؛ مبدأ ثالث أساسي من مبادئ الاقتصاد الإسلامي، فالمسلم حرٌّ في اختيار العمل الذي يناسبه، وطرق الكسب التي يستريح لها، والتملك الذي يفضله، والإنفاق الذي يشبع رغباته، إلا أنها يجب أن تكون موافقة للأحكام الشرعية؛ أي لا يحلّ حرامًا؛ ولا يحرم حلالًا. وهذه الحرية المنضبطة تتعارض تماماً مع النظام الاشتراكي الوضعي الذي يكبت الحريات الإنسانية، وتتعارض أيضاً مع النظام الرأسمالي الوضعي الذي يطلق الحريات الإنسانية، وهي في الاقتصاد الإسلامي مقيدة في حدود الشرع، وتضبطها أحكام التشريع الإسلامي من الحلال والحرام.
فالمسلم الوكيل المستخلَف يجب أن يتصرف في الحدود التي يسمح بها الموكِّل، فليس من حق المسلم أن ينتفع بالمال أو يتصرف فيه إلا بما شرعه له المالك الحقيقي للمال؛ الذي هو الله تبارك وتعالى؛ والذي استخلفه فيه وطلب منه أن يستعمر به الأرض؛ في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [سورة هود: 61].
تلك هي مبادئ الاقتصاد الإسلامي التي بُني عليها أي عمل يكتسب منه الفرد المسلم؛ حتى لا يظلمَ المجتمع، ولا تظلمه الدولة حفاظاً على كرامة وحقوق الفرد والمجتمع في آن واحد.
سمات الملكية الفردية في مناهج الاقتصاد الإسلامي:
للملكية الفردية في الاقتصاد الإسلامي سمات وواجبات شرعية عديدة منها ما يلي[20]:
- مقادير الملكية الفردية غير محدودة؛ أي عدم وجود سقف أعلى محدد لحجمها.
- مربوطة بقيد وجوب اكتسابها بالطرق الشرعية.
- وجوب إنفاقها؛ وتعميم الاستفادة من المال على شرائح المجتمع المحتاجة، مما يفضي إلى العدالة الاقتصادية.
- المراقبة على منشأ الملكية وصيرورتها ونهايتها، أي الرقابة المستمرة عليها.
- وضع تشريعات عديدة تحدّ من احتكار المال وتداوله في يد واحدة أو أيادٍ قلائل في المجتمع، والأمر بتعميم منافع الثروة والمال على الغير.
- النهي عن إعاقة تداول المال والأمر برواجه وتداوله بين أفراد المجتمع الإسلامي.
- اعتبار المال عصبًا للحياة وقيامًا للأمة.
- النهي عن التكاثر المؤدي إلى التبذير والترف بالمال والثروة؛ والتي بدورها تؤدي إلى تمييع أخلاق المجتمع والانغماس في الحياة المادية المجردة من طيب الإحساس والشعور بالتضامن والسلام.
- لا يسمح الإسلام لبعض الثروات والأموال والملكيات الضرورية والاستراتيجية أن تكون تابعة للملكية الخاصة؛ بل أناط بالدولة ملكيتها على شكل الملكية العامة؛ للاستفادة منها على الشكل الاجتماعي؛ كالمنشآت العامة والطرق والجسور والسدود والمطارات والمدارس والجامعات ومنابع السلع والخدمات الضرورية والهامة في الدولة وغيرها التي تمس المصالح العليا للأمة.
- تحقيق الوظيفة الاجتماعية للدولة؛ وذلك من خلال رقابة المجتمع والحكومة على مسارات الإنتاج ونوعيتها وكمياتها على المستوى الكلي للبلاد؛ لتجنب الأزمات والاختناقات الاقتصادية والاجتماعية؛ وكذلك تجنب حدوث التبعية الاقتصادية للبلدان الغربية الوضعية.
- إن الإنتاج والتوزيع وملكية وسائل الإنتاج تخضع لأوامر ونواهي الإسلام؛ ويعني وجوب اعتمادها على مبادئ فلسفتي الاستخلاف والتسخير، ومن ثم فلسفة إعمار الأرض.
- إن الإنسان في المنظور الإسلامي ليس مجرد آلة في خدمة المجتمع؛ أو محصورًا في إشباع البطن والانغماس في الملذات؛ أو ممارسة الحرية المطلقة أو شبه المطلقة ومن دون مسؤولية، لأن الإنسان المسلم متوسط في تصرفاته؛ فهو يعمل لنفسه وأسرته ومجتمعه في آن واحد وبشكل متوازن، وتحت حرية اقتصادية منضبطة بالأحكام الشرعية؛ ويخلق المنافع الاقتصادية ليشبع حاجات نفسه ومحيطه الواسع من الذين يعيلهم من أفراد أسرته وآبائه والفقراء والمساكين والمعوزين وغيرهم من أفراد المجتمع الإسلامي.
- وهذا يبيّن خطأ المثل القائل: “الإنسان كالشمعة يحرق نفسه ليضيء الدرب أمام الآخرين”، لأن الفرد المسلم يعمل ويدخل إلى النشاطات الاقتصادية لأجل نفع نفسه ثم الآخرين؛ ولا يجوز له نسيان نفسه أو الآخرين في دروب حياته المختلفة؛ وذلك وفقاً لقول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [سورة القصص: 77].
- تفسير الآية: “والتمس فيما أتاك الله من الأموال ثواب الدار الآخرة، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا، ولا تترك حظك من الدنيا، بأن تتمتع فيها بالحلال دون إسراف، وأحسن إلى الناس بالصدقة، كما أحسن الله إليك بهذه الأموال الكثيرة، ولا تلتمس ما حرَّم الله عليك من البغي على قومك، إن الله لا يحب المفسدين” [21].
- وفي قول الله تعالى هذا: “اعتدال المنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة، بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفًا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها. لقد خلق الله تعالى طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبُّل لعطاياه، وانتفاع بها. فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله تعالى بالحسنى. وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة” [22].
- إن غاية الإسلام هي خلق مجتمع متكافل متوازن؛ تلتقي فيه مصلحة الفرد والجماعة تلقائيًا وفي آن واحد؛ وتحت رقابة شرعية للحفاظ على التنسيق المستمر بينهما.
- المنهج الإسلامي؛ منهج متوسط يدعو إلى التعاون بين المصالح الفردية والعامة، فأمَّن وضمن الحرية للملكية الفردية لأجل المصالح الفردية؛ ولكن بمراقبتها في جميع أطوارها حتى لا تضر بالجماعة، وكذلك أمّن وضمن الحرية للملكية العامة لتستطيع تحقيق المصالح الجماعية، وجعل منهما مسؤولين عن تأمين مصالح بعضهم البعض.