لم يكرم الخالق البارئ -جل وعلا- أمة من الأمم كما كرَّم الأمة الإسلامية؛ فالناظر في شريعتها وفي قرونها وأجيالها وأزمانها يجدها تنعم بفرص كثيرة للمغفرة الربانية والرضا الإلهي؛ فلقد أوتيت الثواب الأعظم والفرص الأكثر لتنال رضا ربها فيرضى عنها، ويدخلها في جنات النعيم بعد أن تكون الأمة الشاهدة والشهيدة، المنجزة لوعده، المحققة لمنهجه.
وشهر رمضان واحدٌ من أهم هذه الفرص التي أعطيت لأفراد هذه الأمة لكي ينالوا في شهر واحد من النعيم والمغفرة ما لم ينالوا في حياتهم الغابرة، فأهلا بشهر رمضان، شهر الصيام والمحبة والتسامح، شهر الرحمة والبركة والمغفرة، الشهر الذي تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين. فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فطوبى للصائمين العابدين القانتين، الباسطين أيديهم بالخير والعطاء، الذين وسعت قلوبهم حب الناس بعد أن امتلأت بحب خالق الناس.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -ﷺ- قال لما حضر رمضان: “قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم. (رواه أحمد والنسائي والبيهقي).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: “قال الله -عز وجل-: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم مرتين. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه”. (رواه أحمد ومسلم والنسائي).
وصوم رمضان ثابت بالكتاب والسنة، وهو فريضة من فرائض الإسلام الخمس التي بني عليها، وورد في مادة قاطعة وهي مادة الكتب والكتابة، فالقرآن سما
بالصوم إلى هذه المادة ليوقظ الشعور ويحرك الوجدان. انظر إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
ولأهميته القصوى حدد القرآن الكريم وقته وفصل أعذاره بنصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة.(1) وقد تناقل جميع المؤمنين العلم بها وبأحكامها جيلا بعد جيل.
ولأن الإسلام دين يسر لا عسر، ولأنه دين رحمة لا دين عنت وقسوة، فقد بنى كل تشريعاته على قاعدة {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، و{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، لذلك فقد رخص الله لمن أُكره على الكفر أن ينطق بكلمته دون أن يطمئن إليه قلبه، ورخص لمن أشرف على الهلاك أو خاف الضرر بجوع أو عطش أن يأكل ويشرب مما حرَّم الله بقدر ما يحفظ عليه حياته، أو يدفع عنه الضرر النازل به، فإذا لم يفعل ذلك ومات جوعا أو عطشا كان آثما عند الله مسرفا في تدينه.
وكذلك أباح الله لمن يتضرر أو يخاف الضرر باستعمال الماء في طهارة الصلاة أن يتيمم صعيدا طيبا، وأباح الصلاة في مواطن الخوف والمشقة مخففة، وأباح ترك الحج لمن خاف الطريق، كما اشترط أن تزيد نفقة الذهاب والإياب إليه عن نفقة الأسرة.
وفي هذا السياق نظر الإسلام إلى الناس في صوم رمضان على أنهم واحد من ثلاثة:
- الأول: مقيم قادر دون ضرر يلحقه أو مشقة ترهقه، وهذا صومه واجب محتم عليه وهو الأصل، وهو المذكور بقوله تعالى: {كتب عليكم الصيام} وقوله: {فمن شهد منكم الشهر}.
- الثاني: مريض أو مسافر أبيح له الفطر مع وجوب القضاء يوما بيوم عند الصحة أو الإقامة، وهو المذكور بقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184).
- الثالث: من يشق عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله؛ منه: ضعف الشيخوخة، والمرض المزمن، والحمل والإرضاع المتواليان إذا خيف على الحامل أو المرضع أو
الرضيع. وقد أبيح لهؤلاء وأمثالهم الإفطار، واكتفى منهم أن يطعموا عوضا عن كل يوم مسكينا واحدا بما يشبعه في وجبتين من طعام متوسط، ويقوم مقام الإطعام بدل ثمنه على حسب التقدير المتعارف بين الناس.(2) وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184).
ويقول المرحوم الشيخ محمود شلتوت: “الفدية لا تكون إلا عن فائت، والإطاقة لا يعبر بها عن اليسر والسهولة، فلا يقال: فلان يطيق حمل التفاحة وإنما يقال: يطيق حمل هذه الصخرة، وإذن فهي تدل على العسر ومشقة الاحتمال”.
“وحيث كان اليسر كان الصوم، وحيث كان العسر كان الإفطار، وهذا هو شرع الله ودينه”.
ولا شك أن الإنسان على نفسه بصيرة، وتقدير اليسر والعسر يرجع إليه ولا يحتاج إلى فتوى المفتين “البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس”.
والصوم شأنه شأن العبادات الأخرى يجب أن يؤدي بنية خالصة؛ فالله القريب، العالم بقلوب عباده، المطلع على الضمائر، المحيط بالسرائر لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له، لذلك فإن على الصائم أن يبتعد عن النفاق وسوء الخلق والكذب والفجر والغش والخداع وشهادة الزور، والفجر في الخصومة وغيرها.
والصوم له صورتان؛ فالصورة الأولى: صورة الكف عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والصورة الثانية: كف الجوارح عن الآثام. ولكل من الصورتين مُفطراتهما؛ فمفطرات الصورة الأولى للصوم هي الطعام والشراب وما إلى ذلك من المفطرات الحسية التي فصلها التشريع الفقهي، فبيَّن ما يفطر وما لا يفطر. أما مفطرات الصورة الثانية، فقد جاءت الأحاديث الكثيرة ولها نفس الدلالة على الإفطار مثل المفطرات الحسية.(4)
فالإفطار إذن لا يكون بالمفطرات الحسية فحسب، وبمعنى آخر ليس كل من كفَّ عن المفطرات الحسية بصائم؛ بل ينبغي أن يكف عن المفطرات المعنوية الخاصة بالصورة الثانية. يقول الإمام الغزالي -رحمه الله-: “كم من صائم مفطر،
وكم من مفطر صائم؛ فالمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه من الآثام ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه”.(5)
وفي الحديث الشريف: “كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.
فعلى الصائم أن يكف عن المفطرات الحسية والمعنوية كليهما؛ فيغض بصره، ويكف سمعه، ويحفظ لسانه؛ فلا يَنِمُّ ولا يكذب ولا يغتاب، وعليه أن ينأى بنفسه عن الخصومة والجفاء والمراء، وصوم القلوب عن الدنايا والأشياء الخسيسة مهم، وصوم العقل في الترفع عن نسج المؤامرات وتدبير المكائد للناس أو التفكير في الأمور السيئة وحقائر وصغائر الأمور، مما يهدم ولا يبني ويفرق ولا يوحد. فالصوم لا تقوم له قائمة ما لم يهيمن المسلم على نفسه وجوارحه وقلبه وضميره ليوجه سلوكه نحو كل ما هو جميل وخيِّر ومتسق مع منهج الإسلام.
وقد قسم الغزالي الصوم إلى درجات: “صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص”؛ أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل، وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله -عز وجل- بالكلية”.(6) والله نسأل أن نبلغ بصومنا أعلى درجاته؛ لننال رضا الله سبحانه وتعالى.
عبدالعزيز الكحلوت