جعل المحدثون الإسناد أصلا لقبول الحديث؛ فلا يقبل الحديث إذا لم يكن له إسناد نظيف، أوله أسانيد يتحصل من مجموعها الاطمئنان إلى أن هذا الحديث قد صدر عمن ينسب إليه؛ فهو أعظم وسيلة استعملها المحدثون من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى عهد التدوين كي ينفوا الخبث عن حديث النبي ﷺ، ويبعدوا عنه ما ليس منه.
الإسناد وفضائل الأمة الإسلامية
إن الله سبحانه وتعالى شرف هذه الأمة بشرف الإسناد ومنّ عليها بسلسلة الإسناد واتصاله، فهو خصيصة فاضلة لهذه الأمة وليس لغيرها من الأمم السابقة، وقد أسند الخطيب في كتاب “شرف أصحاب الحديث”(1) إلى محمد بن حاتم بن المظفر قال:
(إن الله أكرم هذه الأمة وشرّفها وفضّلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها، قديمهم وحديثهم إسناد، وإنما هي صحف في أيديهم وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، وتمييز بين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوا عن غير الثقات. وهذه الأمة إنما تنص الحديث من الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط والأطول مجالسةً لمن فوقه ممن كان أقل مجالسةً. ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهاً وأكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل ويضبطوا حروفه ويعدوه عدّاً. فهذا من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة).
وقال أبو علي الجياني(2): (خصّ الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها من الأمم: الإسناد، والأنساب، والإعراب)(3).
أهمية الإسناد عند المحدثين
وقال الحاكم النيسابوري: (فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت مبتراً.
كما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب(4)، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري(5)، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود، قال: حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني(6)، قال: حدثنا بقية، قال حدثنا عتبة بن أبي حكيم(7)، أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة، وعنده الزهري، قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله ﷺ، فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأك على الله، ألا(8) تسند حديثك؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم(9)، ولا أزِمَّة(10)) (11).
دور الإسناد في صناعة الحديث
هكذا أدرك المحدثون منذ الصدر الأول ما للإسناد من أهمية بالغة في الصناعة الحديثية؛ إذ هو دعامتها الأساسية ومرتكزها في أبحاث العدالة والضبط. وكذلك أدرك المحدثون أنه لا يمكن نقد المتن نقداً صحيحاً إلا من طريق البحث في الإسناد، ومعرفة حلقات الإسناد والرواة النقلة، فلا صحة لمتن إلا بثبوت إسناده.
وأعظم مثال على اهتمام المسلمين بالإسناد هو ما ورثوه لنا من التراث الضخم الكبير الهائل، وما سخروا للإسناد من ثروة علمية في كتب الرجال. والبحث في الإسناد مهم جداً في علم الحديث، من أجل التوصل إلى معرفة الحديث الصحيح من غير الصحيح، إذ إنّه كلما تزداد الحاجة يشتد نظام المراقبة، فعندما انتشر الحديث بعد وفاة النبيﷺ اشتد الاهتمام بنظام الإسناد، وعندما بدأ السهو والنسيان يظهران كثر الالتجاء إلى مقارنة الروايات، حتى أصبح هذا المنهج مألوفاً معروفاً عند المحدثين؛ إذ إنه لا يمكن الوصول إلى النص السليم القويم إلا عن طريق البحث في الإسناد، والنظر والموازنة والمقارنة فيما بين الروايات والطرق.
من هنا ندرك سر اهتمام المحدثين به، إذ جالوا في الآفاق ينقّرون أو يبحثون في إسناد، أو يقعون على علة أو متابعة أو مخالفة، وكتاب “الرحلة في طلب الحديث”(12) للخطيب البغدادي خير شاهد على ذلك. وتداول الإسناد وانتشاره معجزة من المعجزات النبوية (13) التي أشار إليها المصطفى ﷺ في قوله: «تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم» (14).
الحديث النبوي والإسناد: حماية السنة النبوية
ثم إن للإسناد أهمية كبيرة عند المسلمين وأثراً بارزاً، وذلك لما للأحاديث النبوية من أهمية بالغة، إذ إن الحديث النبوي الشريف ثاني أدلة أحكام الشرع، ولولا الإسناد واهتمام المحدثين به لضاعت علينا سنة نبينا ﷺ ولاختلط بها ما ليس منها، ولما استطعنا التمييز بين صحيحها من سقيمها؛ إذن فغاية دراسة الإسناد والاهتمام به هي معرفة صحة الحديث أو ضعفه، فمدار قبول الحديث غالباً على إسناده، قال القاضي عياض: (اعلم أولاً أن مدار الحديث على الإسناد فيه تتبين صحته ويظهر اتصاله) (15).
وقال ابن الأثير (16): (اعلم أن الإسناد في الحديث هو الأصل، وعليه الاعتماد، وبه تعرف صحته وسقمه). وهذا المعنى مقتبس من عبارات المتقدمين.
قال سفيان الثوري: (الإسناد سلاح المؤمن، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟).
وهذا أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج (19) يقول: (إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد) (20).
وقال عبد الله بن المبارك: (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) (21).
وعلى هذا فالإسناد لابد منه من أجل أن لا يضاف إلى النبي ﷺ ما ليس من قوله وهنا جعل المحدثون الإسناد أصلاً لقبول الحديث؛ فلا يقبل الحديث إذا لم يكن له إسناد نظيف، أوله أسانيد يتحصل من مجموعها الاطمئنان إلى أن هذا الحديث قد صدر عمن ينسب إليه؛ فهو أعظم وسيلة استعملها المحدثون من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى عهد التدوين كي ينفوا الخبث عن حديث النبي ﷺ، ويبعدوا عنه ما ليس منه.
الفائدة الكبيرة من جمع الأسانيد
وقد اهتم المحدثون كما اهتموا بالإسناد بجمع أسانيد الحديث الواحد، لما لذلك من أهمية كبيرة في ميزان النقد الحديثي؛ فجمع الطرق كفيل ببيان الخطأ، إذا صدر من بعض الرواة، وبذلك يتميز الإسناد الجيد من الرديء، قال علي بن المديني: (الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه) (22).
ثم إن لجمع الطرق فائدة أخرى؛ فيستفاد تفسير النصوص لبعضها، إذ إن بعض الرواة قد يحدث على المعنى، أو يروي جزءاً من الحديث، وتأتي البقية في سند آخر؛ لذا قال الإمام أحمد بن حنبل: (الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً) (23).
وقال الحافظ أبو زرعة العراقي (24): (الحديث إذا جمعت طرقه تبين المراد منه، وليس لنا أن نتمسك برواية ونترك بقية الروايات).
ويعرف أيضاً بجمع الطرق: الحديث الغريب متناً وإسناداً، وهو الذي تفرد به الصحابي أو تفرد به راوٍ دون الصحابي، ومن ثم يعرف هل المتفرد عدل أو مجروح، فتكرار الأسانيد لم يكن عبثاً وإنما له مقاصد وغايات يعلمها المشتغلون بهذه الصنعة.
قال الإمام مسلم في ديباجة كتابه “الجامع الصحيح”: (وإنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله ﷺ فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار، إلا أن يأتي موضع لا أستغني فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلابد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيأته إذا ضاق ذلك أسلم) (26).