لقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، ووهبه العقل الذي يستطيع أن يفكر به ويصمم ويبدع ويخترع، وجعله على قدر عالٍ من الذكاء. وكم من علوم إنسانية واختراعات مبتكرة وإنجازات رائعة حققتها البشرية ونجحت فيها نجاحا كبيرا. وصارت العلوم تتدفق في كل مجال، وتسارعت الاكتشافات وسارع معها النمو العمراني والاقتصادي والتطور التكنولوجي والعلمي. وكل ذلك بفضل الله وتوفيقه، ثم بما أعطاه للإنسان من مخ ذكي وطاقات جبارة ومواهب فذة، لم يعطها لغيره من المخلوقات. وذلك حتى يكون أهلا للامتحان الأخروي الذي فرضه عليه ويتمكن به من تحقيق الخلافة في الأرض وعبادة الله كما ينبغي. قال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } ( الإسراء: 70)
وهذا العقل ليس للاختراع والإبداع فحسب، بل هو الأداة التي يستطيع بها الإنسان التمييز بين الحق والباطل واتخاذ القرارات والإيمان بالعقائد السماوية والأرضية. ومن ثم هو الذي يجعل الإنسان مخير إلى جانب أنه مسير؛ حيث يحتاج عقله لعبادة الله وإقامة شرائع دينه واختيار الإيمان على الكفر. ولولاه لما نطق إنسان بالشهادة وصار مسلماً وآمن بمحمد. ولولاه أيضا ما نطق آخر بكلمة الكفر وصار مشركا وكفر برسالة محمد. قال تعالى: { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (يونس: 14)
وبالإضافة إلى أهمية العقل في الإيمان فإن له أهمية أخرى كبرى في المسؤوليات الدنيوية من واجبات حياتية وفروض فرضها الله عليه. وذلك مثل العناية بنفسه وبأسرته وصغاره ووالديه وغيرها. بالإضافة الى مسؤوليات العمل ومتطلبات التعليم الذي يحتاجه في دنياه ليتمكن من الكسب الحلال الذي يعيل به نفسه وأسرته. ومن ثم تعمير الأرض وتحقيق الخلافة فيها. قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } (الأنفال 22). ولذا كان حريا بكل إنسان أن يحترم عقله وعقول الآخرين. فلا يغمط الناس ويعاملهم بالأوامر كما يأمر السيد عبده. ولو أنه شرح وجهة نظره لوجد الناس أكثر عونا وتقبلا لفكرته. وقد وجه الله تعالى نبيه للدعوة بالحكمة وحسن الجدال في قوله تعالى: { ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }.
إعمال العقل بالأسئلة
واحترام العقل يكون بإعطائه الفهم والفرصة للتأمل والدراسة للاقتناع بأفعاله؛ سواء كانت من الناحية الشرعية أو العلمية أو العملية. وكذلك بالتفكر في كل مشكلة أو أمر قبل إصدار الأحكام والقرارات. فلنأخذ مثلاً أن هناك ظاهرة انتشرت وتريد أنت كباحث أن تحللها أو تدرسها على الأقل. فللوصول لذلك لابد من إعمال العقل وإتاحة الفرصة له ليصول ويجول في هذه المهمة حتى يصل لنتيجة محايدة صادقة بعيدة عن تزييف الحقائق وتغطيتها. وهذا يدعم باب الصدق في الرأي والفكر وقول الحق حتى ولو كان ضد ما ترغب النفس برؤيته وتصديقه. ويكون ذلك بالتفكر والتأمل؛ ثم طرح الأسئلة والإجابات لها. كأن تسأل عقلك أولا: هل هناك مشكلة أصلا في هذه الظاهرة أم أنها لا تشكل مشكلة؟ وحتى إن كانت لا تشكل مشكلة على الأقل ظاهريا فلا يمنع ذلك من التفكر فيها والتأمل في احتمالات الخير والشر التي يمكن أن تنتج بسببها. ثم بعد أن تأملت فيها من كل جوانبها يمكن أن تنتقل للسؤال الثاني وهو ما هي مسبباتها؟ وما الذي يساعد على زيادتها ونقصانها؟ وكيف يمكن أن نعالجها إذا وقعت؟ وكيف يمكن نتفاداها قبل أن تقع؟ وما الحكمة في تقديرها؟ وهكذا … فمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة بعد التفكر بعمق والبحث الجاد حول الظاهرة يساعد على فهمها وعلى إعمال العقل وإعطائه الفرصة للتفهم المشكلة وطرح الحلول.
والتفكير لا يساعد على فهم المشاكل وحلها فحسب؛ بل ينمي مواهب الإنسان وذكائه وقدراته الذهنية والعلمية؛ كما أنه يبث في النفس احترام الذات واكرامها. وهذا بدوره يجلب شيء من السعادة والثقة بالنفس. حيث يرفع الإنسان نفسه من منزلة التابعين بلا هدى إلى منزلة المفكرين والعلماء الذين هم قادة الناس بتفكيرهم وأفهامهم. قال تعال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ).
وقد ذم الله تعالى الذين لا يعقلون وشبههم بالصم والبكم. وذلك لأنهم لم يعملوا عقولهم ويتفكروا في آيات الله وكلامه. قال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)[1]. وقال عن الكفار: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[2]. وهذا فيه تصغير لهم وتقليل لشأنهم.
مفتاح للنجاة
والتفكر سببا في نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة. ففي الاخرة يلوم أهل النار أنفسهم على عدم الإستماع والتعقل. قال تعالى: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }. فلو أنهم أعملوا عقولهم وتفكروا في مخلوقات الله وقدرته لوصلوا إلى الإيمان به والتسليم له؛ ولنجوا من نار جهنم وعذابها. وأما التفكر في الدنيا أيضا فكثيرا ما ينجِّي صاحبه من مواقف صعبة وعصيبة. ومثاله من اقترب منه دب فهداه عقله لأن يعطيه طعامه حتى لا يصير هو الطعام له. وكذلك التفكر يساعد الإنسان على كسب المال وتوجيه استعماله ليدر عليه الدخل والربح المرضي. ومثال ذلك من أرشده عقله لأن يستثمر امواله في الشباب فتنمو وتنفعه في كبره. أو بمن بدأ بمشروع فكبر وصار شركة كبيرة ذات دخل عال. ومثاله أيضا من قرأ عن رحلة سياحية، فانبهر بها وبما تحويه من نزهات وزيارات لأماكن أثرية ومعالم عالميه. فأراد أن يذهب ليروح عن نفسه؛ ولكنه رأى التكلفة عالية ويمكن أن تحدث عجز في ميزانيته لبقية العام. فتفكر ملينا وتراجع عن الرحلة رغم أن رغبته لا تزال موجودة. فأنقذه تفكيره بذلك من الوقوع في الضيق المالي. وهناك أمثلة غير هذه كثيرة جدا نعيشها بشكل يومي ويهدينا الله بفضله للتفكر فيها بعقلانية فنستطيع بعدها تدبير أمورنا بما يصلح لنا ويدر علينا الخير والرخاء.
والتفكر وإعمال العقل يرفع من قيمة الإنسان عند الله وعند الناس ويزيد من احترام الإنسان لنفسه واحترام الناس له. وهذا الاحترام لا يأتي بالتفكير فحسب، بل يمكن تحقيقه بطرق عدة؛ منها التحلي بمكارم الأخلاق كالكرم والشجاعة والنخوة والصبر وعدم سرعة الغضب والتحكم في المشاعر السلبية وتنمية الصفات الجيدة. وكذلك التفكر يقلل من جهالات المرء كجعله يتريث في الحكم على الأمور والتفكير في عواقبها. وهذا يساعده على الاتصاف بحسن الخلق والتصرف بحكمة ولين مع الناس؛ مما يكسبه حسن السيرة ومحبة الناس. فأكثر سوء الخلق يأتي من سرعة الغضب والحكم على الأمور دون روية ولا فكر. والتسرع في الحكم على الناس يولد الندم واحتقار الذات. ولذا على المرء أن يفكر قبل أن يحكم حتى لا يقع في الظلم الذي يؤدي إلى مقت النفس ولومها ثم حساب الله واقتصاص المظلومين يوم القيامة. فهناك الحقوق لا ترد بكلمات كما كانت في الدنيا … ولكن بالحسنات ثم إن نفدت بتحمل السيئات.
وختاما اسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعا لسليم الفكر وحسن التدبير وصالح العمل. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.