إن الاختلاف آية من أعظم آيات الله تعالى، يغمر الكون بكل تفاصيله وتجلياته، فلا ينفك عنه جزء ولا كل، لا يحيد عنه عنصر من عناصره؛ ولذلك فإنه من غير الطبيعي أن ينظر إليه كما لو أنه ظاهرة مرضية، أو أمر خارج عن المألوف يجب تجنبه أو إزالته بصفة نهائية.
وإذا كانت بعض الاختلافات لا تؤثر في السير العادي لنظام الحياة ولاستقرار الإنسان داخل هذا الكون، بل على العكس من ذلك، لولاها لاختل التوازن والنظام. فإن بعضها الآخر – إذا لم تفهم جيدا – فقد تؤدي إلى نتائج وخيمة تؤثر سلبا على حياة البشر واستقرارهم واستمرارهم؛ وأقصد هنا خصوصا الاختلافات الدينية والعقائدية التي أدت إلى حروب لا حصر لها، امتد بعضها لقرون من الزمن، وذهب ضحيتها ألوف مؤلفة من أتباع مختلف الأديان.
وهذا ما يفرض علينا تصحيح نظرتنا لهذه الاختلافات الدينية، والنظر إليها على أساس أنها جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وحياتنا عموما في هذه الأرض، ومن ثم التفكير في كيفية التعايش معها، والتكيف مع مقتضياتها ومتطلباتها. فالاختلافات الدينية، وحتى لا تتحول من سنة إلهية إلى وبال على الإنسانية، بما تسببه من حروب ونزاعات. تفرض علينا فهم الأديان الأخرى، والتعرف عليها عن قرب، والتواصل مع أتباعها. كما تفرض علينا الاعتراف المتبادل، وقبول الآخر.
وبما أن الدين هو أحد أبرز مكونات الهوية الإنسانية، وأحد المحركات الأساسية للجنس البشري، فإن في فهمه فهما للحضارات والثقافات المعاصرة، وفهما لقيمها ومبادئها ومواقفها. وهذا كله لا يمكن أن يتم إلا من خلال الدراسة الموضوعية لمختلف الأديان.
إن أهمية دراسة الأديان لا جدال فيها، خصوصا في هذا العصر الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة، وأصبح التواصل والحوار مع الأخر ضرورة ملحة، وبالتالي أصبحت معرفة دين الأخر من بدهات العيش المثمر والفعال، فالأديان تشكل المكون الأساسي من ميراث الإنسانية الثقافي والحضاري، ومن ثم فإنه لا يمكن فهم الحضارات والثقافات المعاصرة وقيمها ومفاهيمها ومواقفها – حسب عبد الله الشرقاوي – إلا إذا فهمنا الأديان التي تنتمي إليها، لأن الدين أحد المحركات الرئيسية للجنس البشري.
هذا وقد انكب علماء المسلمين منذ العصور الأولى على دراسة الأديان – وإن اختلفت أغراضهم في ذلك – وصفا، وتأريخا، ونقدا، وجدالا ومقارنة؛ فألفوا في ذلك الشيء الكثير. كما انتبه علماء الغرب لهذه المسألة فبادروا لدراسة الأديان مؤكدين أهمية هذا الفرع العلمي، وفي ذلك يرى الباحث كيدرنات أن التطورات العلمية الأخيرة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، جعلت التواصل بين الثقافات أمرا لا مفر منه، وهذا ما دفع الغربيين لمعرفة باقي الأديان، إلى جانب معرفة دينهم، ومن ثم أصبح الدين المقارن موضوعا مهما للدراسة والبحث .
أكثر من ذلك، اعتبر علماء الغرب الاقتصار على معرفة دين واحد، وإهمال باقي الأديان، اعتبروه جهلا بذلك الدين نفسه حتى قال مؤرخ الأديان إريك شارب Eric John Sharpe: “الذي يعرف المسيحية فحسب، فهو لا يعرف شيئا”.
وكان ماكس مولر Müller Max قبل ذلك قد دافع عن المقارنة وعن دراسة الأديان الأخرى، معلنا شعاره الشهير: “الذي لا يعرف إلا ديانة واحدة فهو لا يعرف أية ديانة”.
كما ذهب علماء مقارنة الأديان إلى أن دراسة الأديان دراسة منهجية موضوعية تساعد على اكتشاف الذات في ضوء اكتشاف الأخر، وتنتهي في الواقع إلى تصور أكثر جدية للديانات، وإلى فهم أعمق لما تمثله كل ديانة في نظر أتباعها.
هذا وقد صار التفاهم المشترك والتعايش السلمي بين شعوب القرية الكونية أمرا في غاية الأهمية، ليس فقط ليعيش الكل فيها بسلام وأمان، بل الوجود البشري بأكمله. وقد أكد الكاتب اللاهوتي المسيحي هانز كونغ Hans Kung على أنه لا سلام بين شعوب العالم دون الحصول على تفاهم سلمي بين الأديان، ولا تفاهم سلمي مشترك بين الأديان دون حوار فكري ومعرفي بين الأديان، ولا حوار بين الأديان دون دراسة أصول الأديان ومعتقداتها الفكرية والمعرفية.
الأمر نفسه أكده عرفان عبد الحميد رحمه الله بقوله: “أما نحن في عالم اليوم وظروف الوضع الدولي الراهن، عصر ثورة المعلومات ووسائل الاتصال، ودعاوي العولمة والكوننة، فإن احتياجنا إلى معرفة علمية رصينة ودقيقة، وصفية وموضوعية، محايدة وتاريخية، بخصائص الأديان السماوية وغير السماوية، وتفاصيل تواريخها ومرتكزات عقائدها، أشد من أي وقت مضى، وأحوج ما نكون إليه.
أما العلم الذي يهتم بدراسة الأديان فهو ما يعرف اليوم بعلم الأديان، أو مقارنة الأديان، أو تاريخ الأديان، أو غيرها من التسميات، هذا العلم الذي يسافر بنا عبر أديان العالم سابرا أغوارها، وكاشفا أسرارها، فيعرفنا بها معرفة عميقة، ويجليها لنا. وهذا ما يسهم في تعميق شعورنا بالتنوع والتعددية وتقبل الاختلاف، وقبول الآخرين والانفتاح عليهم، والتواصل معهم.
ورغم الانتقادات الكثيرة التي تعرض لها علم الأديان بدعوى أن تحليلاته تفتت القيم الدينية وتطمسها، وتذيبها، جارفة إياها إلى مستوى التمثلات المبتذلة، ومنتهية بها إلى مستوى من النسبية الموسومة بالريبة ، فإن جل الباحثين يؤكدون خلاف ذلك؛ إذ يرى مؤرخ الأديان الفرنسي مشيل مسلان Michel Meslin أن علم الأديان ينتهي حقيقة إلى فهم أكثر حداثة وإحاطة لما يقدمه كل دين لأتباعه، باحثا قبل كل شيء عن التقاط معاني اللغات الدينية ومفادها العميق بغية فهم أوضح، فهو يحلل ويقارن ويسبر الأغوار محاولا أن يتفكر في الأمر بطريقة تحليلية صارمة توصل إلى توليف، عابرا من مستوى اختبار المقدس المعاش إلى مستوى فهمه” .
كما أن دراسة الأديان لم تكن يوما من الأيام فكرا خاليا من التأثير والحركة في سبيل بناء وتكوين المجتمعات التي تسعى كي تكون في سلم الرقي والتقدم المدني والعلمي.
إن الناظر في عالم اليوم سيجد ثورة معلوماتية حولت العالم إلى قرية صغيرة، ووضعت الناس وجها لوجه، وسيجد ظروفا سياسية واقتصادية وثقافية فرضت على الناس التواصل والتعارف فيما بينهم، ومن ثم فإن الحاجة تبدو ماسة إلى دراسة الأديان، وذلك تجنبا للفهم الخاطئ للآخر، وللحكم المسبق عليه، وتكريسا للتعاون والتعارف، وتعزيزا للأمن والسلام بين الناس. فدراسة الأديان إذن – حسب الدكتور الشرقاوي – هي ضرورة حياتية وحضارية ودينية.
إن علم الأديان يسهم – بلا ريب – في تعميق شعورنا بالتنوع والتعددية وتقبل الاختلاف، وبالحرية والمسؤولية وعدم الإكراه وقبول الآخرين، والانفتاح عليهم والتواصل معهم، إنه يقدم فرصة ذهبية لفهم الذات وفهم الأخر معا، وإن كثيرا من المشكلات والحساسيات والتعقيدات ينتجها – غالبا – الجهل بالذات، أو الجهل بالأخر، أو الجهل بالاثنين معا. إن المعرفة بحد ذاتها هدف نبيل وجليل.