قلما يتناول الباحثون والفاحصون للمنتج العلمي والتراث الأدبي لرجل ما في حياته إلا إن كان من أهل التجديد والاجتهاد والإضافات النوعية في حياته وحياة الناس، ومن هؤلاء المبدعين في هذا المضمار الذين تناولتهم الأقلام الدارسة والفاحصة والمستفيدة أحد الصناع الكبار للصحوة الإسلامية المعاصرة والمحافظين على هوية الأمة من المسخ والفسخ والنسخ، وهو العلامة الشيخ يوسف القرضاوي عليه من الله سابغ الرحمات ووافر البركات.
فالرجل من القليل القليل الذين أثروا المكتبة الإسلامية بإضافات نوعية وكتابات مستجادة أفاد منها الموافق والمخالف، شأنه شأن الكبار من أهل العصر أمثال محمد الطاهر ابن عاشور، وأبي الأعلى المودوي، والشيخ محمد الغزالي، وأبي الحسن الندوي، وعلي الطنطاوي، وسيد قطب، ومحمد متولى الشعرواي، ومحمد سعيد رمضان البوطي، ومحمد عمارة، والقائمة لن تغلق أمام هذا الاستقراء المنقوص في الحديث عن أمجاد هؤلاء الأعلام البررة الذين سعدت بهم الأمة، وعادت إلى هويتها الدينية التي تكالبت على نهشها التيارات الدّعية من الشرق والغرب.
وكلامنا اليوم عن الإمام المجدد الشيخ يوسف القرضاوي الذي لم تنكسر الأقلام في الكلام عن آثاره في الدعوة الإسلامية، حيث تناسلت المقالات الكثيرة في ذلك، ولماّ يجف تراب قبره عرفانا للرجل، واعترافا بالفضل، وشهادة بالقبول.
فالرجل رحمه الله من الأوائل الذين فتحوا مساحات جديدة وشقوا طرقا مستغلقة في الفقه والاجتهاد، وكم احتفى سلفنا بأمثال هؤلاء، ومن ذلك ما كتبه أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل، وهو سفر مجيد متين في التوريخ للمبدعين في تراثنا وعلومنا وحضارتنا.
وأوليات الشيخ القرضاوي كثيرة في التأليف والإرشاد والإعلام والدعوة والبلاغ، وتأسيس المنظمات والجمعيات والهيئات الدعوية والأهلية والمالية، وشواهد هذا كثيرة خط معظمها في مذكراته المتداولة “ابن القرية والكتاب”.
وسنقف اليوم على بعض الأوليات التي افتجرها وابتدعها يراعه وكدّ تفكيره، ومنه ما كان الإبداء منه، أو مشاركة لغيره، أو حضّا من يراعه، أو تحضيضا من لسانه، فقد كان القامة القمة القيمة رحمه الله، ومن بينها:
أولا- فقه الأولويات: وهو الفقه الذي أبدع فيه بفتح أبوابه وتأصيل مسائله وإزالة الخوف من تقحّم تطبيقاته، تأسيا بإعادة الاستفادة من ظروف التنزيل الأولى، إذ أن ما صحّ للأول صحّ للآخر في التطبيق، مراعاة للحال والمآل، وهو ما رفع الحرج عن كثير من الهيئات الدعوية التي رافعت لأجل العودة إلى الإسلام هديا ومنهاجا وتشريعا بعد موجة الردة التي سوّدت الديار الإسلامية أيام الاستعمار والدول الشمولية، فلم يكن بد من إعادة البنيان لبنة لبنة إلى أن يستوي العود وتنضج الثمرة، وليس ذلك تعضية للشريعة ولا للدين، ولكنه من باب ما لا يدرك جله لا يترك كله.
ثانيا- فقه الموازنات: الفقه الذي جدّد مناره وأحيا أعلامه بعدما كان متواريا خلف فتاوى الأقدمين، وهو فقه مكين ثوى في المدونات القديمة ولم يجد سبيلا للتنزيل إلا في الفقه الفردي، فنقله الشيخ إلى الفقه الجماعي، أو فقه الدول، وهو يتماسّ مع السياسة الشرعية بمفهومها الأكبر، حيث قدم فيه الشيخ حلولا عاجلة للعاملين في الحقول الدعوية، بما يرفع الحرج في التعامل مع الموافق والمخالف، وتقديم المتاح والمباح، وفقه الاستطاعة، والضرورات والمندوحات.
ثالثا- فقه الوسطية: الفقه الذي بزّ فيه الشيخ غيره، حتى عُدّ رائده والمنافح عنه، بل لا يذكر الاسم إلا ويقترن به رحمه الله، ولا غرو أن تُنشأ جامعة حمد بقطر مركز القرضاوي للوسطية، وأن يتنادى العاملون لتأسيس منتدى الوسطية العالمي ردا على تخاريف جماعا الرفض والعنف التي شانت الصورة السمحاء للإسلام بمقابحها الكثيرة، والتي وطّئت الأكناف للعدو الشامت المتربص الذي اتخذ من أفعالها تكئة للولوج إلى ديارنا فارضا أوامره ونواهيه في مناهجنا ومقرراتنا الدراسية.
ومن إبداعات الفقه الوسطي عند الشيخ القرضاوي برّد الله مضجعه ما رصف به اللغة الدعوية من البينيات والمقارنات الرائقة عن الدعوة بين: الكليات والجزئيات الانفتاح والانغلاق، الجحود والتطرف، الاجتهاد والتمذهب، السلف والخلف، السنة والبدعة، الانفتاح والانغلاق، الجحود والتطرف، الآمال والمحاذير، الانضباط والتسيب، الأصالة والمعاصرة، الاختلاف المشروع والتفرق المذموم. وكذلك فرادته في نحت العناوين الدالة مثل: الجبرية في العقيدة، الشكلية في العبادة، السلبية في السلوك، والسطحية في التفكير، الحرفية في التفسير، والظاهرية في الفقه، والمظهرية في الحياة .
رابعا- فقه التيسير: وهو الفقه الذي غاب عن الفتوى والحضور بسبب غلبة فقه التحوط والورع، وهو ما جعل البعض المقتصد أو الظالم لنفسه يتفلّت من الشريعة، وخاصة في هذا العصر الموار بالشبهات والشهوات، وغلبة النماذج الغربية المادية على شؤون الحياة، فقدم الشيخ تنظيراته العالية ومرافعاته المميزة للعودة إلى التيسير في الفروع مع التشدد في الأصول، وكان لذلك تطبيقات كثيرة بدء في كتابه المبتدأ الذي شرق وغرب، وهو “الحلال والحرام في الإسلام”، وكان الكتاب ملاذ الكثيرين في العودة إلى الالتزام والتديّن، وتُرجم إلى عديد اللغات، ثم كتاب الصيام، وعديد الفتاوى المعاصرة التي هي مستندة إلى بحث عميق، وكدّ للفكر، واستحضار للدليل، واستشراف للمقاصد، واستظلال بالكليات. وهو يرمي في كل ما سلف إلى إبقاء الأمة قاطبة سابقها ومقتصدها وظالمها تحت حكم الشريعة السمحاء.
كما عضد الشيخ هذا التوجه الجديد في الإفتاء بكتبه حول خصائص الشريعة وميزاتها، ومناسبتها للإنسان في كل حين وآن، ومكان وظرف، وشرط، وظهر إبداعه اللائح في هذا المضمار في كتابه عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية.
خامسا- فقه المناسبات: الفقه الذي يتبع فقهي الأولويات والموازنات، والمتعلق بالخطاب الإسلامي المعاصر الذي دعا الشيخ القرضاوي إلى ترشيده حسب الحاجات والاحتياجات والفئات المقصودة به، كما هو الأمر في كتابه الفذ” خطابنا الإسلامي في عصر العولمة“، وهذا الفقه متعالق بتبليغ وتنزيل الأحكام الشرعية حسب المقتضى والحال والمآل، وقد أدى إغفاله أو تجاهله إلى انكسارات في بعض مسارات الدعوة الإسلامية.
سادسا- فقه المعاملات المالية: ومعلوم أن هذا الفقه قديم في المدونة القانونية الإسلامية، ولكن سطوعه بهذا الشكل الجديد القائم على مقارعة النظريات الغربية رأسمالية أو شيوعية، وتقديم بدائل شرعية جادة في عالم هيمنة البنوك الربوية كان من نصيب الشيخ القرضاوي وحلقته العمية من مجايليه ومقاسمي همومه أمثال مصطفى الزرقا، وعلي السالوس، وكانت فاتحة إبداعات القرضاوي كتاب” فقه الزكاة” الذي لم يؤلف مثله من سابقيه، وكان فاتحة خير على كل التآليف والرسائل والبحوث بعده، بما يعدّ صناعة فقهية تجديدية كان لها الأثر البالغ في صوغ المنظومة الفقهية المعاصرة.
سابعا- فقه البيئة: وهو الموضوع العريض الذي فرض نفسه على الساحات الدولية بعد الهزات المناخية التي تسبب فيها جشع النمط المادي الاستهلاكي الغربي، فتوالت الكتابات الإسلامية في هذا انطلاقا من درس الإنسان وعلاقاته بالكون، وقد أسهم الشيخ القرضاوي بدارسة فقهية موثقة في هذا عزز بها الأطاريح الإسلامية المناهضة للتوجه الغربي.
ثامنا- فقه السنن: الفقه الذي أحيته مدرسة المنار التي يشيد بها الشيخ، وينتمي إليها، متأثرا في ذلك بشيوخها الكبار أمثال محمد عبده ومحمد رشيد رضا، وورثتهم أمثال مصطفى المراغي، ومحمد عبد الله دراز، ومحمود شلتوت، والمقتدرين الذين حولوا أفكارها إلى حركة تسري، وعمل يتجسد، ومن هؤلاء حسن البنا ومحمد الغزالي والبهي الخولي، وطالما رفع الشيخ القرضاوي العقيرة بالعودة إلى هذا الفقه الغائب، والذي عرّفه بأنه “القوانين الكونية والاجتماعية التي أقام الله عليها عالمنا هذا، وقضى بأنها لا تتبدل ولا تتحول مثل التغيير والنصر والتدرج وغيرها”، وشحن كتبه ومحاضراته بهذا المعاني لجيل الصحوة حتى يستعد حضاريا لمقارعة المتسورين على الشريعة، أو المائعين في الآخر المحادّ للحضارة الإسلامية.
تاسعا- فقه الأقليات المسلمة: وهو الفقه الذي أولاه الشيخ عنايته الكبيرة، توجيها وإفتاء حتى لا تختطف الجاليات المسلمة في البلاد الأخرى، وكم شدّ الرحال إلى تلك المراكز مذكرا ومرشدا، وما المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث إلا واحدة من هذه البصمات الكبيرة للشيخ عليه رحمة الله، وقد استطاعت هذه الهيئة سد ثغرة كبيرة في الوفاء بالحاجات الدينية لمسلمي الغرب، حيث فاقت دورات المجلس العلمية ثلاثين دورة تقفت منهج الشيخ في الإفتاء والاجتهاد، وأخرجت عشرات الفتاوى الفقهية المناسبة للوضع الإسلامي هناك.
عاشرا- فقه التغيير: الفقه الحرج في التنظير والتنزيل، والذي لم يستنكف الشيخ عن الإبداع فيه بتشريح العلل والبحث عن المخارج لحال الأمة الإسلامية التي تداعت عليها أوضاع الجهل والفقر والتخلف والاستبداد والاستعباد والاستهواد وانتقاص الأرض من أطرافها، واحتلال أعز مقدساتها، فكان ظهيرا لكل حراك إيجابي يعيد الأمة لريادتها، وكتب في ذلك العديد من الكتب، وخط الكثير من المقالات، وصدح بالحق على كل منبر اعتلاه. وللقارئ أن يعود إلى كتب “أمتنا بين قرنين، الدين والسياسة تأصيل ورد شبهات، المبشرات بانتصار الإسلام”، وغيرها.
رحم الله الإمام المجتهد العلامة يوسف القرضاوي، شيخ الإسلام في عصره، وتقبله في الصالحين، وجعل مثواه جنات النعيم، وجبر كسر الأمة بفقده، وعوضها عنه خيرا، وأجارها في هذه المصيبة، فهو القادر وهو الباقي، وهو الولي الحميد.