“إنَّا أعطيناكَ الكوثرْ* فصلِّ لربِّك وانحرْ* إن شانِئَك هو الأبترْ”

سورة الكوثر كان في مناسبة نزولها ردٌ على المشركين الذين أخذوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلّم لظنهم أنه سينقطِع ذكره بعد وفاته, إذ لم يكن له أولاد ذكور يحملون اسمه، وهو بذلك وفق مصطلحاتهم الجاهلية “أبتر”, و هم يشمتون و يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده.

وقال أحدهم: دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره.

وكان هذا اللون من الكيد اللئيم يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا، ولعل ذلك أوجع قلب النبي و مسه بالغم أيضا.

وقد قال المفسرون في الكوثر ستة أقوال وأكثر… ولكن المتدبر بعمق لكتاب الله يعلم أنه لا يوجد نعمة عظمى أنعمها الجليل على محمد, أو فضل عظيم أعطاه له وآتاه, أثمن وأعظم من القرآن الكريم, فهو “الكوثر”…

هو الكوثر الذي جرَّ معه كل الأقوال الأخرى بسهولة ويسر. الكوثر من كَثُر على وزن فوعل وهو وزن لطيف فيه التحبب والعظمة.

وقالوا أيضاً في لفظ الكوثر لغة: إنه الكثير بل صيغة مبالغة تدل على منتهى الكثرة، وقالوا عمن يوصف بالكوثر أنه السَخِيٌّ، وقالوا هو الخير الكثير وهو الشراب العذب.

وكل تلك الصفات هي في القرآن الكريم الذي لا تنتهي كنوزه وفيه الأجر الكثير بالتلاوة والتطبيق، وفيه الحكمة البالغة الكثيرة، وفيه مفاتيح التشريعات العظيمة الكثيرة، وهو ينبوع ثر من ماء عذب فيه شفاء للناس، و لا نهاية لفيضه وغزارته في كل جانب يفضي للسعادة وهو النور الكثير العظيم الذي أنزل على محمد.

وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر عظيم في الجنة أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم ويصب في حوضه، وليس هناك ما يمنع أبداً أن يكون هذا النهر العذب العظيم قد سُمِّي بأحد أسماء القرآن تعظيماً للنهر ودلالة على الطريق إليه، فليس هناك نعمة أوتيت لمحمد تفوق القرآن وتفوق منزلة التكليف بتبليغ القرآن وتطبيقه.

و ابن عباس سُئل عن النهر فأجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول. فهو نهر كوثر لا سبيل للوصول إليه أصلاً إلا بالقرآن الكوثر.

لقد أعطى الجليل القرآن لمحمد، وبالقرآن علا ذكر الرسول فقد بلَّغه صلى الله عليه وسلم للناس كافة.. ثم كانت سُنَّته التطبيق العملي الأول للقرآن.

ولفظ الرسول الذي حمل القرآن رسالةً خاتمة مهيمنة من الله جل شأنه إلى الناس ارتبط باسم محمد فتردد اسم محمدٍ وكَثُر عبر البقاع وعبر الأزمان إلى قيام الساعة.

وأمر الجليل رسوله أن يشكره على نعمته العظمى تلك بالصلاة ونحر الأنعام لإطعام الفقراء و المساكين وختم بحقيقة حدثت: “إنَّ من عاداك وشانك وآذاك يا محمد ودعاك بالأبتر إنما هو وفريقه من سيُبتر”.

ولقد صدق فيهم وعيد الله فقد انقطع ذكرهم وانطوى. بينما امتد ذكر محمد وعلا. ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأولون. لقد بلغ انتشار اسم محمد حدّاً أدهش العالم أجمع فأصبح أكثر الأسماء انتشاراً في الوجود.

فهو بلا ريب أكثر اسم شاع في البلاد الاسلامية ولكن المفاجآت كانت على المستوى العالمي:

في الطبعة السادسة من موسوعة كولومبيا الصادرة عام 2000، كان اسم محمد الأكثر شيوعاً في العالم على الإطلاق حيث تقول الموسوعة أن أكثر من 150 مليون ذكر في العالم كانوا يحملون هذا الاسم.

وأوردت موسوعة “جينيس” للأرقام القياسية، إنه في سنة 2006حقق اسم محمد أعلى معدل للتسمية به بين بني البشر.

وقالت قناة “بي بي سي” البريطانية في نهاية عام 2007 أن اسم محمد كان ثاني أكثر الأسماء شيوعاً لدى مواليد العام 2007 في بريطانيا.

وفي عام 2013 أكدت صحيفة اسبانية في تقرير شهير أن أكثر من 150 مليون من خمسين جنسية يحملون اسم محمد…

و بالقياس فهناك أكثر من 200مليون آخرين يحملون أسماء النبي الأخرى “أحمد ومحمود ومصطفى….”

وفي استطلاع بريطاني عام 2014 حول أكثر الأسماء الممنوحة للمواليد في بريطانيا كان اسم محمد الأول في قائمة من مئة اسم آخرين.

وكشف الاستطلاع عن أرقام حديثة للمكتب الوطني للإحصاءات الـ”ONS” في بريطانيا عن تربع اسم ” مُحمد” على قائمة الأسماء الأوسع شعبية، والأكثر اختيارًا من لَدُن العائلات البريطانية، خلال عام 2013 حسبما ذكرت صحيفة الـ “اندبندنت” البريطانية.

إنها حقيقة دالَّة لها بُعدها وامتدادها زماناً ومكاناً…إنها قضية رفع ذكر محمد.

كل يوم تتعزز حقيقة الكوثر وتترسخ في ذكر النبي وأسمائه، ولابد ونحن في ضعف شديد اليوم أن نزداد في معنى الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه ولأمة نبيه من بعده فنقول: لعل في معنى الكوثر بشارة.. بشارة الخير والأمل الكثير الباقي الممتد في أمة محمد، وبشارة الانقطاع والبتر المقدر على أعدائها.