في غمرات هيمنة النموذج المادي الاستهلاكي الذي عمّ وطمّ، واجتاح بمفاهيمه وتصوراته وتطبيقاته ودعايته الكاسحة أرجاء المعمورة، حتى إنه دخل كل بيت مدر ووبر بالرقميات التي تخترق الأسوار والحجب، فتبدلت المفاهيم وتزعزعت الثقافات وتغيرت السلوكيات التي استقرت عليها المجتمعات لمدد طويلة.
وهو ما هزّ من هيمنة أدبيات راسخة في التعامل مع الحياة ومتطلباتها، أدبيات متحت من الأخلاقية الإسلامية التي تقدم الآخرة على الأولى، وتجعل الدنيا ممرا لا مقرا، وتولي الحسنة والمعروف الأهمية البالغة في الحياة، وتستنجد بالإيمان بالقدر والتسليم للقضاء سلاحا لمكافحة الحياة ومصاعبها. وتجعل من القناعة والرضا بالرزق شعارا لا يحول ولا يزول، إلى أن دخلت مفاهيم الاستكثار والاستهلاك المفرط والتنافس المهلك، واعتبار الأرض الفردوس الأوحد بسبب غلبة النموذج المادي الغربي، فتبدلت الأرض غير الأرض، والناس غير الناس، وأنكر الشباب ما كان عليه الأولون، فارتفعت قيم، وهبطت أخرى، وخاصة في النظرة للحياة ومتعها وزخرفها، وصار العبّ منها والتفاخر بها هو القيمة الأولى في التفاوت بين الناس.
وهنا يجب الكر والعود إلى المفاهيم القرآنية الضابطة لمفاهيم: الرزق، الدنيا، القضاء.. إلخ. ومن هذه القيم الخادمة لما سبق مفهوم القناعة والرضا، والأدلة على استحباب هذا الخط الرضائي في الحياة كثيرة، فقد ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل، 97)، بأنها القناعة.
وجاء في الحديث قوله ﷺ: “اللَّهُمَّ اجعَلْ رِزقَ آلِ محمَّدٍ قُوتًا” (البخاري، 6460)، قال ابن حجر: “أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا، وفيه حجة لمن فضّل الكفاف؛ لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال” (فتح الباري، 11/275)
وهذا منهج اختطه المصطفى عليه الصلاة والسلام لأصحابه وحزبه الذين يبتغون الدار الآخرة، ففي حديث ابن عمر قال:” أخذ رسولُ اللهِ بمَنكِبي:” فقال:”كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سَبيل” (البخاري، 6416).
أولا- مسوغات التذكير بموضوع القناعة والرضا
1- الرهق النفسي وشيوع القلق
الرهق النفسي الذي يشوب حياة الناس بالخوف من الأرزاق، وشيوع القلق، وذيوع الاكتئاب، وعدم الرضا، وحب التغيير الدائم، فيما يسمى بمفارقة الاختيار أو مقاومته، فكما أن الإقلال والنَصَب يجور على طمأنينة العبد، فكذلك كثرة المعروض وتنوعه مما يتعب الناس في اللهث وراء الموضة والتنافس المحموم في اقتناء الجديد، كما قال علماء النفس والتسويق: “كلما ارتفعت قدرة الإنسان المادية كلما اتسع طيف الخيارات أمامه”، ولهذا لا يشعر الأغنياء بالرضا الدائم، لكثرة الاختيارات المتفاوتة أمامهم، وكما قيل أيضا في المثل:” إذا أردت أن تُحيِّر فخيِّر”.
2- التنافس غير المحمود في الدنيا
وهو ما ولد أمراضا حالقة كالبغضاء، الحسد، الغيرة. ولهذا نماذج مجتمعية مثل:
- ظاهرة الطلاق المرعبة، والمشاكل المتناسلة في البيوت من كثرة ما يروج في الأفلام المختلفة، والتي ترفع التوقعات عند الفتيان والصبايا، مثل التوقعات عن الشريك، والمنزل والسيارة… إلخ.
- ظواهر الإعراض عن الله والرغبة في الآخرة، في التنافس في عرض الخصوصيات والتباهي بالحطام الفاني، مثل ما يحصل في وسائط السناب، الانستغرام، الفيس، وأكثر ما فيها يولّد الغيرة والتسابق إلى المحقرات.
- فقدان المعايير الحقيقية واضمحلال القيم الرافعة مثل معايير الفوز الحقيقي، وأنه ما كان في الدين وفي الآخرة: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (آل عمران، 185)
ولهذا كان تواصي السلف بالنظر للآخر في الدين والعبادة، ومن هو الأفضل والأقرب والأكثر إخباتا وإنابة.
3- خطر النموذج الغربي المدمر للرضا والقناعة
وقصر النجاح على المادي فقط، ولهذا مظاهر منها:
- الرغبة في التشيء والتسليع: والانغماس في مجتمع الاستهلاك المفرط. كما هو النموذج الأمريكي الذي استهلك من الطاقة في مائة سنة فقط مقدار ما استهلكه البشر طوال وجودهم، وما أخطار البيئة عنا ببعيد.
- فصل الإنسان عن ماهيته: واعتباره حيوانا مستهلكا يعيش بلا غيبيات، بلا أخرويات، ولا علاقات اجتماعية قارة متماسكة مع الهدم المتوالي للأسرة، وهو ما أنتج العلاقات الشاذة والعدائية في المحيط الاجتماعي.
- فكرة السوبرمان: المروجة للإنسان القوي، والجسد المتين، مما جعل بورصة صالات الجيم وعيادات التجميل في تزايد، حتى صارت الأجسام والوجوه متشابهة، وغابت المعايير المختلفة للجمال.
- العنصرية والتنمر بين الناس: وهي النفسية التي دمرت الغرب في حربين متتاليتين بسبب نظريات تفاوت الأعراق، وكون المعيار الأعلى هو الأبيض الجرماني، كما هي تطبيقات فلسفة نيتشة والنازيين.
- تشييىء الإنسان: وجعله بضاعة مادية يحسن التخلص منها إذا زادت عن الحاجة، كما هي نظرية مالتوس في المليار الذهبي. وهذا التشيىء والتبضيع نتيجة حتمية للقول بالفردوس الأرضي واطراح الغيب وعالم الآخرة.
- الانتقال إلى ما بعد الإنسان: والحلم بعالم لا ابتلاء فيه، ولا مرض، ولا موت، ومحاولة الانعتاق من المحددات البيولوجية (المرض، الوهن، الشيخوخة، الموت)، أو عمليات تغيير الخلق، وكل هذه المحاولات البائسة لمضادة سنة الله في الخلق والتكوين، ومصادرة للميزان الذي وضعه الله خلقا وتكليفا وابتلاء ومصيرا.
ثانيا- الحلول هذه الظاهرة الحالقة المدمرة
1-استذكار حقيقة الدنيا، وكونها دار ابتلاء وانتقال لا استقرار، فهي كالماء الذي تتغير أوصافه وحالاته كما وصفها الله في كتابه في عديد الآيات (يونس، 24-الكهف، 45)
2-غض البصر عن متع الدنيا الفانية، والتي ترهق الإنسان في تتبّعها والتوق إليها، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾(طه، 131).
وجاء ما يعضد هذا في حديث النبي ﷺ لما جاءه مال من البحرين، فقال النبي ﷺ للأنصار: “أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم” (البخاري، 4015).
3- استذكار حقيقة الضعف الإنساني، وغلبة الافتقار عليه مهما أوتى من القدرات، ومهما فتحت عليه الدنيا وتيسرت له سبلها، مما قد يدفعه للطغيان والجحود والنسيان، فالحاجة عليه غالبة والأمل ممدود، وكل ذلك منقطع بأسباب المرض والموت وعوارض الحياة التي لا تنتهي، وتلك سنة الابتلاء الماضية على كل الخلق.
4- فهم حقيقة الاجتماع البشري القائم على التعاون، والتسليم بالتفاوت، كما قال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف، 32)
4-التذكير الدائم بمفهوم الرضا بالمقدور والمقسوم من الرزق كما منطوق الحديث:”اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ” (الترمذي، 2458).
5- تذاكر قصص الأنبياء وحال الصالحين، وحياتهم الطيبة بالقناعة والرضا، كما هو المشهور من قصة أيوب عليه السلام، وما كان عليه النبي ﷺ وصحابته في أحوال السراء والضراء حتى لقوا الله تعالى، وقد حازوا ونالوا رضاه. وهم الأفقه بقوله ﷺ:”من أصبحَ معافًى في بدنِه آمنًا في سِربِه عندَه قوتُ يومِه فَكأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا بحذافيرِها”(الترمذي، 2346). وقصص الصحابة كثيرة مبثوثة في كتب التراجم مثل حلية الأولياء لأبي نعيم، وصف الصفوة لابن الجوزي، ومن ذلك نماذج مشرقة كحالهم في حصار شعب مكة، ثم الهجرة إلى المدينة المنورة، وصبرهم واقتسامهم الموجود مع الأنصار الذين لم يجدوا في صدورهم حاجة مما أصابهم من اللواء.
أو كحال أصحاب الصفّة ونزّاع القبائل الذين هاجروا وأووا إلى مسجد رسول الله وصبروا على الغربة والقلّة.
والمثال الأسوة الأكمل هو النبي ﷺ مع نسائه اللواتي آثرنه والدار الآخرة، وصبرن على البأساء، حيث لم يكن يوقد في بيوتهن النار الهلال والهلالين، وأكثر طعامهم التمر والإقط:”ولقد مات رسول الله ﷺ، وما شبِع من خبز وزيت مرتين في اليوم (مسلم، 2974).
ثالثا- الوسائل المعينة على الرضا
1- تربية النفس على الاقتصاد في الإنفاق: وعدم الإسراف والتبذير، كما قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف، 31).
2- التقلل من الدنيا: والتي هي مراتب، ضرورات، وحاجيات، وتحسينيات، والأخذ من كل شيىء بمقدار يعين على البلغة وقطع مفاوز الدنيا، واستذكار حقيقة البلاء وحتميته:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين﴾ (البقرة، 155).
3- المدارسة الدائمة للسيرة النبوية: وكتب الزهد والرقاق، مثل كتب الزهد للإمامين أحمد، وابن المبارك.
4- اللهج الدائم بالدعاء: فقد كان ﷺ يستعيذ بالله تعالى من نفس طمَّاعة: «اللهم إني أعوذ بك من عِلْمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يُسمع» (أبو داود، 1504).
5- كبح الرغبة الدائمة في التغيير والتجريب: وتغيير الموضة، والتكديس لكل منتج، واقتناء كل جديد، وفي الأثر عن عمرو بن العاص: «لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أملُّ دابَّتي ما حَمَلَتْني، إنَّ الملال من سيئ الأخلاق».
6- تذكر حال الآباء والأجداد: في الشظف والحياة القاسية ومعاناة كل ذلك، والأمر ليس ببعيد قبل خمسين سنة أو تقل وتزيد، وعلى الرغم من ذلك فقد عاشوا راضين وخلّفوا ورائهم الرجال والأثقال، والطارف والتالد.
7- استحضار الامتنان والتقدير لنعم الله الكثيرة: فمنها المقسوم ومنها المحجوب، وهي كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وما أوتي عبد النعم كلها في الدنيا، وكذلك استحضار الجوانب الإيجابية في كل شيىء، واستذكار حال الأقل والأفقر والأكثر ابتلاء، كما هو الحديث الجليل: “انظروا إلى من أسفل منكم. ولا تنظروا إلى من هو فوقكم. فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله”(مسلم، 2963).
إن شيوع السخط والتسخط والاعتراض على القسمة الإلهية مؤذن بانقلاب سلّم القيم المؤذن بهدم سلامة المجتمع، وهو ما يحذر منه الراصدون للحظات الانهزام الذي يغشى ديارنا أمام غلبة النموذج الغربي اليوم.
