هو طبيب، لكنه أديب عابر للقوميات، وبريطاني أصيل لكنه يبغض الاستعمار البريطاني، ونصراني من أسرة لاهوتية لكنه يدافع عن الإسلام ويتعاطف مع بنيه. ذاك هو إدوارد براون، ضيف مقالتنا هذه، الذي كان إنساناً فريداً على نحو لا يكاد يتكرر..
يبدأ كل شيء من العائلة، التي برز أبناوها في مجالات مختلفة، فكان منها العساكر، وكان منها التجار، وكان القساوسة، والأطباء، أما الوالد فمهندسٌ. عائلة تجتمع فيها معالم النبوغ والتفوق، ويتربى الأولاد فيها على الانضباط والإنجاز، فيخرجون إلى الحياة بمعايير مرتفعة عن المتوسط العام، ويسلك الواحد منهم السبيل الذي يراه متيسراً له. بإشراف صارم من الوالدين لا يلغي الميول الذاتية وإن كان لا ينساق وراءها.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يقدم إدوارد إلى هذه الحياة، وفي أسرة جادة يعيش، ومن عاداتها يقتبس، ومن وفرة عقول أسلافه يرث حظاً حسناً، ولأن الذكاء لا ينفع الذين لا يملكون سواه؛ فقد كان لدى الصبي إدوارد إضافة إلى الذكاء حظٌ عظيمٌ، أسرة ثرية، أب مهتم، تربية حسنة، وعصرٌ عاشه كان مليئاً بألوان من الأحداث الموارة، وبلد ينتمي إليه كان زعظم إمبراطورية عرفها الناس في تاريخهم القريب. بريطانيا التي كانت العظمى في تلك الأيام.
يدرس براون في أفضل المدارس، ثم في أفضل الجامعات: جامعة كامبردج، وجامعة لندن، ليتخرج طبيباً وهو في الخامسة والعشرين من عمره، بعد سنوات أمضاها في دراسة الطب إضافة إلى اللغات الشرقية.
اللغات الشرقية؟! ذلك أمر غريب حقاً، ويحتاج إلى تفسير من جوانب عدة:
فمن ناحية: كان براون موهوباً، ويرغب في تعلم المزيد من اللغات!
ومن ناحية أخرى: كانت بريطانيا دولة عظمى تبسط نفوذها على بلدان كثيرة في المشرق والمغرب، وكان من المألوف أن يعمد كل شاب بريطاني طموح إلى تعلم بعض اللغات الشرقية.
ومن ناحية ثالثة: كانت الحرب الروسية العثمانية تدور عام ١٨٧٨ في جبهتين مختلفتين: البلقان في الغرب، والقوقاز في الشرق، كانت حرباً صعبةً على الطرفين، وإن تكبد العثمانيون فيها أكبر قدر من الخسائر، وتكالب عليهم فيها أكبر قدر من الخصوم الفرقاء في ذات الوقت: البلغار، والصرب، والروس، واليونان، والإنغليز، كان المشهد شديد الالتباس والإرباك، وكان مثيراً لانتباه براون واهتمامه.. كان حينها فتى مراهقاً، ولسبب أو لآخر كان الفتى متعاطفاً مع الدولة العثمانية، ومتحاملاً تجاه الروس، لذا شرع يتعلم اللغة التركية، ثم الفارسية والعربية.
بعد تخرجه، نال براون فرصة العمل في جامعة كامبردج، وكان ضمن مهامه المبكرة: السفر إلى إيران، والحياة فيها لعام حافل بالاطلاع على تلك الثقافة العميقة، والتعمق في دراسة لغة تلك الديار وحراكها الفكري وتراثها الحضاري الطويل.
يعود براون إلى جامعته “كامبردج” أستاذاً للغة الفارسية، وقارئاً نهماً للأدب الفارسي قديمه وحديثه.. وتخرجت عليه دفعات من الطلاب الراغبين في خوض غمار العمل الدبلوماسي.
بعد أربعة عشر عاماً من تدريس اللغة الفارسية، يعمل براون أستاذاً للغة العربية في الجامعة ذاتها، ويستهويه السفر العلمي في مختلف القارات والبيئات: باريس الفرنسية، وقبرص المتوسطية التي استأجرتها بريطانيا من العثمانيين، ومصر الخديوية التي حاولت أن تصبح قطعة من أوروبا فلم تستطع، وتونس الوادعة الساكنة في غرب إفريقيا، وإسطنبول، عاصمة الخلافة العثمانية في عقودها الأخيرة. كان براون يسافر، يتأمل، يمارس ما تيسر من اللغات، يطالع المخطوطات، الإسلامية، ويشتريها، ويخزنها، ويفهرسها، ويختزن الذكريات.
ويعود براون إلى بلده، ليصبح مشرفاً على هيئة بريطانية استشراقية تعنى بنشر التراث الشرقي الذي لم يسبق أحد إلى نشره.
وإلى جانب ذلك العمل الإداري؛ يبذل براون جهداً غير قليل في التأليف والبحث: فيصدر كتاباً ضخماً في أربعة مجلدات، تحت عنوان “التاريخ الأدبي لفارس” تناول فيه شعراء الفرس وأدباءهم منذ كان للفرس تاريخ إلى بدايات القرن العشرين، إضافة إلى عدة كتب ألفها عن فارس، منها “عام بين الفرس”، و”الصحافة والشعر في فارس الحديثة”، و”الثورة الفارسية”، و”رواية مسافر لتوضيح حادثة الباب” وهو كتاب وافٍ تحدث فيه براون عن فرقة البابية، المرتدة عن الإسلام، والتي قدهر له أن يشهد طرفاً من تشكلها، وأن يصادق بعض كبارها، وأن يعثر منهم على وثائق مكتوبة، وأحاديث شفهية حصرية لا يقولونها لغير المقربين والثقات.
كما يؤلف براون كتاباً عن الطب العربي، يجمع فيه بين معرفته بالعربية وتنقيبه في التراث العربي، وبين معرفته الطبية المستمدة من دراسته الجامعية.
لو كان هذا هو الحال وحسب لكان براون مستحقاً للكثير من الإكبار والتقدير، فكيف -وهو البريطاني الأصيل، ابن المدرسة الاستشراقية- لا يكتفي بالإنصاف للمسلمين وتراثهم، وهو من أمثاله مستنكر، بل يتجاوز الإنصاف إلى التعاطف مع المسلمين ضد المستعمر: كل مستعمر، ولو كان بلده الأم إنغلترا، أو الجارة القريبة فرنسا، أو البعيدة روسيا.. ويتجاوز ذلك ليحب من لم ير منه اعتداء على بلدان المسلمين مثل الألمان! فأي روح هذه التي أحبت المسلمين حتى أحبت من أجلهم.
وبين بحث يكتبه، ومخطوط يفهرسه، ونص تراثي يحققه، وقضايا إسلامية يتعاطف معها، عاش براون حياته حتى قضى نحبه عام ١٩٢٦، عن أربعة وستين عاماً.. حياةٌ مديدة طولاً وعرضاً، وعميقةٌ حساً ومعنى.