من أكثر النوازل الفقهية المعاصرة التي استدعت بحثا من الفقهاء، نازلة: شراء الأسهم في الأسواق المالية ( البورصة)
لقد كانت بواكير هذه النازلة عند الحاجة إلى تكييف الشركة المساهمة التي تطرح أسهمها في البورصة، فالمدونات الفقهية التراثية لم تتحدث عن هذا النوع المستحدث من الشركات، كما أن هذه الشركات تشتمل على إجراءات لا تكاد تلتئم مع ضوابط الشركات في الفقه الإسلامي!
ما إن تجاوز الفقهاء هذه العقبة بقبول هذه الشركات التي فرضت نفسها على الواقع الاقتصادي، حتى فاجأتهم بتوابع جديدة لها، يبدو أنها غير قابلة للسكون!
من هذه التوابع، أن معظم الشركات المساهمة ما لم تكن جميعها، لا تخلو من بعض الأنشطة المحرمة حتى لو بدت هذه الأنشطة هامشية بإزاء نشاطها الأساسي، والشركات التي التزمت بنشاطها الأساسي المشروع من صناعة الأوراق والحديد والأدوية والتكنولوجيا والأطعمة والمشروبات، هذه الشركات حتى مع التزامها بنشاطها الأساسي المباح واجتنابها الأنشطة المحرمة، إلا أنها لا تخلو من الاقتراض من البنوك بالفوائد = ربا. أو بإيداعها بعضا من أموالها البنوك بفائدة = ربا. أو بجمعها بين الاقتراض والإقراض الربويين، وهو ما عليه حال أكثر هذه الشركات.
وقد كان وقع هذا التابع الزلزالي شديدا، لا يقل في شدته عن الزلزال الأول، فذهب مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي إلى تحريم شراء أسهم هذا النوع من الشركات، وكذلك مجمع منظمة المؤتمر الإسلامي[1].
في المقابل ذهب عدد من العلماء المعاصرين إلى جواز شراء هذه الأسهم مع وجوب تطهيرها بالتخلص من العائدات المحرمة.
وقد ظن العلماء في بداية الأمر أن مسألة التطهير بالتخلص من الأرباح المحرمة أمر سهل ميسور، فوضعوا له الضوابط والقواعد، ظانين أنهم فرغوا من هذا النصب؛ إلا أن التطبيقات العملية أسفرت على مدار العقد الأخير من الزمان عن مجموعة من الإشكاليات والتحديات التي تكشف عن صعوبة التطبيق، وأن هذه القواعد التنظيرية إما أنها لم تُعنَ بدراسة المآلات، وإما أنها لم تشتمل على العدالة في التوزيع، وإما أنها غير قابلة للتطبيق أصلا.
وترصد هذه الورقة أبرز هذه التحديات والإشكالات، وكيف حاول الفقهاء المعاصرون حلَّها:
الإشكالية الأولى : إشكالية تطهير الأرباح المحتجزة
الإشكالية الثانية : إشكالية التطهير قبل ظهور الميزانية
الإشكالية الثالثة : إشكالية تطهير الأرباح الرأسمالية
الإشكالية الرابعة : إشكالية التعرف على إيرادات القروض
الإشكالية الأولى : إشكالية تطهير الأرباح المحتجزة
من الشروط التي وضعها الفقهاء لجواز شراء أسهم الشركات المختلطة، أن يقوم المساهم بالتخلص من الإيرادات الناتجة عن أنشطة محرمة، سواء أكان هذا النشاط المحرم بسبب الفوائد الربوية التي تحصلها من جراء إيداعاتها أموالها في البنوك الربوية، أو بسبب نشاط غير مشروع آخر كإنتاج شركات المياه الغازية للبيرة والخمور ونحو ذلك.
وتظهر إشكالية هذا الضابط في الآتي :
أن بعض الشركات لا تفصح في قوائمها المالية عن كافة أنشطتها، فكثير من الشركات تظهر بعض إيراداتها تحت عنوان : إيرادات أخرى، غير مفصحة عن تفصيلات هذه الإيرادات الأخرى، وبخاصة إذا كانت هذه الإيرادات ناتجة عن أنشطة هامشية، أي ليست هي الأنشطة الرئيسة للشركة.
وهذا بدوره يمثل عائقا أمام التطهير، فالمستثمر لا يمكنه معرفة حجم الإيرادات المحرمة، بالرغم من تيقنه من إيداع الشركة بعضا من أموالها في البنوك بفائدة.
كما تتمثل هذه الإشكالية أيضا في أن كثيرا من الشركات المساهمة مالم تكن جميعها، لا تقوم بتوزيع كامل أرباحها السنوية سنة بسنة، ولكنها تقوم باحتجاز جزء من هذه الأرباح فيما يعرف محاسبيا بالأرباح المحتجزة ، أو الأرباح المرحلة.
وتلجأ الشركات لهذا عادة لمواجهة التوسعات التي ترغب فى القيام بها مستقبلا، أو لتسديد ديون مستحقة، أو لتوزيعها على المستثمرين في مرحلة لاحقة.
فبعد قيام الشركات باحتساب صافي الأرباح، وتوزيع جزء منه على المساهمين وفقا لعدد الأسهم التي يمتلكونها، يبقى جزء تحتفظ فيه الشركات في حساباتها، حيث تقوم بإضافته إلى الأرباح المحتجزة من السنوات الماضية، لينتج عن ذلك “إجمالي الأرباح المحتجزة”.
وعادة ما تقوم الشركات باستثمار الأرباح المحتجزة في مشاريع جديدة، ما يعني أنها لن تكون مضطرة إلى اللجوء لتمويل خارجي مكلف. ولا يتم إدراج هذه الأرباح المحتجزة في القوائم المالية للشركات ضمن لائحة الأصول، حيث تكون ضمن التدفقات النقدية.
وهنا تظهر الإشكالية، حيث يشترط الفقهاء المعاصرون على المساهم في هذه الشركات أن يقوم بتطهير هذه الأرباح المحتجزة، التي لم يحصل على شيء منها أصلا!
فهذا قرار الراجحي، ينص : ” في حالة وجود إيراد محرم : فإنه يتم تجنيب مبلغ الإيراد المحرم كله، أيا كان مصدره، وسواء حصل ربح أم لا، وسواء وزعت الأرباح أم لم توزع”[2]
وعلى ذلك أيضا نصت هيئة المعايير الشرعية، حيث جاء بها : “محل التخلص هو ما يخص السهم من الإيراد المحرم، وسواء أوزعت الأرباح أم لم توزع، وسواء أربحت الشركة أم خسرت.”[3]
ووجه الإشكال هنا : أن ملكية المساهم للأرباح المحتجزة ملكية ضعيفة غير مستقرة، فقد يحدث أن يبيع أسهمه محملة بهذه الأرباح، فتئول إلى غيره؛ فلماذا لا تعامل معاملة الزكاة في الديون غير المستقرة بحيث لا تجب زكاتها إلا عند قبضها بالفعل.
ووجه الإشكال أيضا : أن هذه الأرباح المحتجزة قد يعاد تدويرها كلها أو جزء منها في عملية الاستثمار، ويأتي هذا التدوير بأرباح جديدة، وهنا ينشأ سؤال : مَن مِنَ المستثمرين المطالب بتطهير هذه الأرباح؟ الجدد أم القدامى؟
ووجه الإشكال أيضا : أنه لو فرضنا أن جزءا من أرباح عام 2015 تم احتجازه، ثم في عام 2016 تم توزيعه على المساهمين، فعلى أي أساس يتم التطهير على أساس إيرادات سنة 2015، أم سنة 2016
لا يبدو أن الهيئات الشرعية قد ناقشت هذه الإشكالية، لكن إحدى الدراسات البحثية قد اقترحت الأخذ بمتوسط النسبتين، أو أيهما أكبر.[4]