بعد أن بينا في مقالنا السابق صعوبة مبحث النسخ والتطور التاريخي للمصطلح نأتي لبيان أقوال العلماء في نسخ الخبر ومدى دقة بعضهم في استخدام المصطلح وما يترتب على عدم الدقة من أحكام وقبل ذلك ينبغي أن نعلم أن نصوص الوحي تنقسم إلى قسمين: طلب، وخبر.
والقسم الأول: نوعان: طلب فعل، وطلب كف، أي: الأمر والنهي.
وهذا القسم يشمل العبادات: أصولها وفروعها، وجميع المعاملات، إضافة إلى الفضائل.
ويستثنى من ذلك كليات الشريعة من الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، إذ إن الشريعة مبنية على حفظها ومراعاتها، فأصول العبادات: كالصلاة، والصوم والزكاة، والحج، وما يحفظ الكليات الخمس، وما يحقق العدل والإحسان، وما يجلب الفضيلة ويدفع الرذيلة لا يقع فيه النسخ، وإنما يقع في تفاصيل هذه المسائل، وذلك ما يتعلق بالهيئات، والكيفيات، والأمكنة، والأزمنة، والأعداد.
والقسم الثاني: وهو الخبر، يكون ماضياً ومستقبلاً، فيدخل في ذلك القصص، والوعد والوعيد، والإخبار عن صفات الجلال والجمال لله عز وجل ونحوها.
وهذا القسم لا يدخل النسخ في مدلوله، إلا أن يكون خبرا لفظا، إنشاءً معنى، وهو الذي بمعنى الأمر والنهي، فتكون الجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى. [قواعد التفسير، خالد السبت]
الأخبار المتعلقة بالماضي، والوعود المتعلقة بالمستقبل، وما يتصل بصفات الله تعالى كل ذلك لا يدخله النسخ، يقول مكي: (كل ما أخبرنا الله تعالى عنه أنه سيكون أو أنه كان، أو وعدنا به ،أو قص علينا من أخبار الأمم الماضية، وما قص علينا من أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر وخلق السموات والأرضين وتخليد الكفار في النار والمؤمنين في الجنة ،هذا كله وشبهه من الأخبار لا يجوز نسخه ،لأن الله يتعالى أن يخبر عن الشئ على غير ما هو به ،وكذلك ما أعلمنا من صفاته لا يجوز في ذلك أن ينسخ ببدل منه ). [قواعد التفسير، خالد السبت، ص66].
محل النسخ إذن إنما يكون في الآيات التي تشتمل على الأمر والنهي، أما الأخبار الصريحة فلا يقع فيها النسخ ،لأنا إذا قلنا ذلك كان معناه كذب الخبر الأول. وقسم من العلماء يجيزون وقوع النسخ في الأخبار ،وليس قولهم بشئ لأن مؤداه تكذيب النصوص. وكان الآخرون أكثر دقة منهم فقيدوا الأخبار التي يقع فيها النسخ، بالأخبار التي يراد بها الأمر والنهي، وبعض من قال ذلك خلط بين الخبر الصريح والخبر الذي معناه الأمر والنهي، والأمثلة التي ضربوها للأخبار التي بمعنى الأمر والنهي ليست محلا للنسخ، يقول الإمام السخاوي:(النسخ إنما يكون في الأحكام، ولا نسخ في الأخبار، لأن خبر الله عز وجل حق، لا يصح أن يكون على خلاف ما هو عليه.. وقد عد قوم من المنسوخ آيات كثيرة ليس فيها أمر ولا نهي، وإنما هي أخبار، وذلك غلط). [جمال القراء وكمال الإقراء 1/ 249].
والجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، وزاد بعضهم الأخبار وأطلق، وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي.[1]
قال مجاهد وسعيد بن جبير: لا يدخل النسخ إلا على الأمر والنهي فقط، أو: افعلوا أو: لا تفعلوا… وقال الضحاك بن مزاحم كما قال الأولون، وزاد عليهم فقال: يدخل النسخ على الأمر والنهي، وعلى الأخبار التي معناها الأمر والنهي، مثل قوله تعالى: (الزاني لا يَنكِحُ إِلّا زانِيَةً أَو مَشرِكَةً وَالزانِيةُ لا يَنكِحُها إِلّا زانٍ أَو مُشرِكٌ). ومعنى قوله: لا تنكحوا زانية ولا مشركة.
وعلى الأخبار التي معناها الأمر، مثل قوله تعالى في سورة يوسف: (قالَ تَزرَعونَ سَبعَ سنينَ دَأَباً) ومعنى ذلك: ازرعوا.
ومثل قوله تعالى: (وَلَولا أَن كُنتُم غَيرَ مَدينينَ. تَرجِعونَها إِن كُنتُم صادِقين) بمعنى: ارجعوها، يعني الروح.
ومثل قوله تعالى سبحانه: (وَلَكِن رَسولَ اللَهِ) أي: تعالوا له.
قال: فإذا كان هذا معنى الخبر كان الأمر والنهي على جميع الأخبار، ولم يفصل.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والسدي: قد يدخل النسخ على الأمر والنهي وجميع الأخبار، ولم يفصلا. وتابعهما على هذا القول جماعة.ولا حجة لهما في ذلك من الدراية، وإنما يعتمدون على الرواية).[2]
ويقسم الإمام ابن الجوزي الأخبار ،ويذكر علاقة كل قسم بالنسخ ،فيقول: فأما (الأخبار) فهي على ضربين:
أحدهما: ما كان لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الأمر كقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ} ، فهذا لاحق بخطاب التكليف في جواز النسخ عليه.
والثاني: الخبر الخالص، فلا يجوز عليه، لأنه يؤدي إلى الكذب وذلك محال. وقد حكى جواز ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والسدي وليس بشيء يعول عليه.
وقال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عظيم جداً يؤول إلى الكفر، لأن قائلاً لو قال: قام فلان ثم قال: لم يقم، فقال: نسخته لكان كاذباً.
وقال ابن عقيل: الأخبار لا يدخلها النسخ، لأن نسخ الأخبار كذب وحوشي القرآن من ذلك).[3]
شروط نسخ الأخبار التي بمعنى الأمر والنهي
أن يكون الخبر:
1- غير متعلق بالاعتقادات التي ترجع إلى ذات الله تعالى وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر
2- أو الآداب الخُلُقية.
3- أو أصول العبادات والمعاملات لأن الشرائع كلها لا تخلو عن هذه الأصول، وهي متفقة فيها، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ….
4- كما لا يدخل النسخ الخبر الصريح الذي ليس بمعنى الطلب كالوعد والوعيد).[4]
وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتب النسخ كثيرا من آيات الأخبار والوعد والوعيد.[5]
ويتحدث مكي عن قسم ثالث من أقسام الخبر، إلى جوار الخبر الصريح والخبر الذي يحمل معنى الأمر والنهي، تحدث عن قسم ثالث أسماه:” نسخ المسكوت عنه من فهم الخطاب” وهو ما يفهم من الأخبار التي تتحدث عن أحكام بالحظر أو الإباحة على الأمم السابقة، ولم تتحدث هذه الآيات عن حكم هذه الأمور بالنسبة لنا ،فيمكن أن يفهم من هذه الآيات حِل هذه الأمور بالنسبة لنا ،إذ لم ينص الشارع على تحريمها فإذا نص الشارع على التحريم بعد ذلك ،عد مكي هذا من النسخ لأنه رفع الحكم بالإباحة الذي فهمناه من سكوت الشارع عن بيان حكمه بالنسبة لنا، يقول مكي: (الأخبار على ضربين:
ضرب يخبرنا الله به عن شئ أنه كان أو أنه يكون، وهذا لا يجوز نسخه.(وكذلك إذا أخبرنا عن شئ) بأن يخبرنا الله أنه ما كان أو أنه لا يكون تعالى الله عن ذلك.
والضرب الثاني من الخبر هو الذي يجوز نسخه، وهو أن يخبرنا أن قوما فعلوا شيئا أو استباحوا أمرا وتمتعوا به ولم يحرم ذلك عليهم ثم يخبرنا الله أنه محرم علينا ،فينسخ ما أخبرنا به أنه كان مباحا لمن كان قبلنا ،فهذا نسخ المسكوت عنه من فهم الخطاب، لأنه قد فهم من قوله {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } [النحل: 67] أنه كان مباحا لهم فسكت عن حكمنا فيه ،فجاز أن يكون مباحا لنا أيضا، ثم نسخ جواز إباحته لنا بالتحريم في المائدة[6] ،ولو أخبرنا في موضع آخر أنهم لم يتخذوا منه سكرا لكان هذا نسخ الخبر وهذا لا يجوز على الله – جل ذكره – لأنه تعالى لا يخبر بالأخبار إلا على حقيقتها.
ومن قال: السُكر: الطعم ،وهو قول أبي عبيدة ،أو قال: السكر: ما سد الجوع ،فلا يجوز فيه نسخ على هذا).[7]
[1] البرهان في علوم القرآن (2/ 33)
[2] الناسخ والمنسوخ لابن سلامة صـ8
[3] نواسخ القرآن لابن الجوزي صـ93
[4] مباحث في علوم القرآن الشيخ مناع القطان صـ233
[5] الإتقان في علوم القرآن 2/ 41
[6] يشير الى قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]
[7] الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه مكي بن أبي طالب صـ332 ،333