تقرر عند الأصوليين بلا خلاف أن النص الديني هو خطاب الشرع، وهو القطب الأول – حسب تعبير الغزالي – الذي هو ثمرة بحيث إذا فقدت لا يكون ثمة حكم، وهو الخطاب الذي يجب الاحتكام إليه دون غيره، وهو المقرر النهائي للأحكام، وتكمن أهمية النص أنه لا يمكن أن يعارضه أي رأي أو يناقضه، لما تقرر في القاعدة (لا اجتهاد مع النص).
لكن مما يؤسف له أن هذا الأصل تأتي دعوى الحداثة لتنقضه وتقضي عليه، وتمثلت هذه الدعوى في النظرية الموسومة بـتاريخية النص الديني. والغاية منها التعامل مع النص من منحى ثقافي سيميوطيقي- أدبي، ليكون النص القرآني في مستوى التناول والتحليل نصا شقيقا للنصوص الثقافية المتداولة، قابل للتغير والتحوير والإلغاء، ومتى ساهم في تنوير العقل البشري فهو مقبول، لكن يرفض حين لا يساعد على التقدم .
وتعددت الكتابات في كشف وتقويم هذه النظرية التي قاد حركتها كل من نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون وغيرهما رواد حركة الفكر الحداثي، من مجالات مختلفة، تراوحت بين توصيف لمشروع الحداثة الفكري، ودراسات نقدية مقاربة بمناهج علمية أخرى.
وهذه الدراسات وإن سدت بعض الثغرات إلا أنها لا تفي بالغرض المنشود، لأن شأن المناهج التي اعتمدت في مناقشة الحداثة لا تجيب على الاحتجاج المركزي لدي أساتذة الفكر الحداثي، فالغاية المركزية لديهم “أن النص الشرعي جاء لعلة أو مناسبة الأزمنة التي نزل فيها لكن غير مناسب للعقل المعرفي الحديث”، ويبررون هذا الفكر أنه طريق مناسب للتجديد أو الاجتهاد في تطويع النص بما يوافق الواقع المعيش.
أما علم أصول الفقه رغم اهتمامه الأول والأساس بالنص، لفظا ومعنى، عبارة ودلالة، تفسيرا وتعليلا، فإنه لم يعن بالدراسة الجامعية المتخصصة لكشف شبهات الحداثة حول النص الديني. وهذا ما أثاره الدكتور يحيى الظلمي حين أكد أنه لم يقف حسب اطلاعه على دراسة تنقد مفهوم النص في فكر الحداثة على ضوء مناهج الأصوليين. ثم ناقش هذه الجزئية بناء على هذا السؤال من ثلاثة محاور: النص والمعنى، والنص والتأويل، والنص والقدسية.
وأثبت الدكتور مرزوق العمري أن موضوع تاريخية النص الديني كنظرية عند الحداثيين يشوبه غموض وتساؤلات، ووصف عدة مبررات جعلت القضية جديرة بالدراسة والبحث العلمي، ومن هذه المبررات ما يأتي:
المبرر الأول – القول بتاريخية النص الديني يشكل مظهر التحدي للعقل المسلم المعاصر: حين رأى الحداثيون أن الخطاب الديني “نتاج ثقافي أفرزته أوضاع اجتماعية وثقافية معينة غير الأوضاع الراهنة”، وأن العقل البشري اليوم تجاوز هذا العقل الديني الذي مرجعيته النص. وهذه الدعوى بلا شك بينة الخطورة لما تحتويه من دعوة الانفصال عن النص.
إضافة إلى دعوى أحد الحداثيين إلى ضرورة ربط النص بسبب نزوله واعتبار السبب علة لا مناسبة، ويتعطل النص بناء على ذلك بغياب العلة لأن الأحكام تدور مع العلة وجودا وعدما، وهذا الرأي جر بالبعض إلى اعتقاد أن “أحكام التشريع في القرآن ليست مطلقة، ولم تكن مجرد تشريع مطلق فكل آية تتعلق بحادثة بذاتها، فهي مخصصة بسبب التنزيل..” وكل آية حسب الرأي نزلت “لأسباب تقتضيها – سواء تضمنت أحكاما شرعية أم قواعد أصولية أو نظما أخلاقية، فهي أحكام محلية مؤقتة .. ” وسحب القول ليشمل العقائد.
ولا شك أن الأقوال كتلك هادمة لأصول الدين ومعرضة للعقل المسلم المعاصر للتشكيك في أصول الدين الإسلامي.
المبرر الثاني – القول بالتاريخية سبيل لتكوين رؤية موازية للرؤية الإسلامية الأصيلة: وهذه الرؤية يحتمل امتدادها للمركزية الأوروبية، وتدعو إلى إحداث قطيعة مع النص الديني، بجميع مكوناته، وتقضي على المرجعية الدينية، وتستبدل ذلك بالقيم والمرجعيات المستمدة من الفلسفات المادية التي تجاوزت الخطاب اللاهوتي والميتافيريقي، وتتصف بخصائص المعرفة العلمية.
يقول العمري: “وهذه الرؤية الموازية ليست مشكلة في حد ذاتها إذا ما تعاملت مع النص الديني الثاني (التراث)، إنما تكون المشكلة حينما يكون التعامل مع النص الديني الأول (الوحي)”.
المبرر الثالث – تهافت القول بتاريخية النص الديني لما يحتويه من مفارقات:
– فهو من جهة يتعامل مع نص له خصائصه المنهجية بآليات غريبة عنه.
– ومن جهة أخرى يظهر فيه التناقض بين المنطلق والهدف في القول بالتاريخية: فهو مرة خطاب يرفض الدينية على أنها غير علمية، وأخرى يستند إليها ليصل إلى هدفه.
وامتثل العمري بموقف نصر حامد أبو زيد الذي يعتبر الإيمان بالجانب الغيبي للنص يطمس علميته وإمكانية فهمه، وموقفه الآخر بأن الإيمان بمصدر النص الإلهي لا يتعارض مع إمكانية تحليله وفهمه. وهذا يدل على ضبابية الفكر في النظرية التاريخية.
المبرر الرابع – تبدل مجالات الاهتمام بالنص الديني في هذا العصر: فإن النص عموما والنص الديني خصوصا بينما كان أداة للمعرفة، ومرجعا في العمل، ودليلا على الشيء، بات استخدامه في بيئة غريبة، وذلك بتوظيف آليات قراءة حديثة وقديمة مثل الفللوجيا، والهرمينوطقيا.. فهو مجال معرفي مستقل يمكن أن ينكره دارسه .
هذه المبررات المذكورة تستدعي الاهتمام بهذا الموضوع لا سيما مع توسع استعمال شبكة الانترنت المفتوحة لطرح هذه الإشكاليات من كل وجهات، فالتحدي القائم للعقل المسلم المعاصر كشف هذه الشبهات والرد عليها …