سيطرت على فكرة حقوق الإنسان اليوم فلسفات غربية وحضاراتها، وإن كانت حركة حقوق الإنسان تصنف ضمن التطورات الإيجابية التي شهدتها البشرية في هذا الزمان. غير أن هذه الحركة تفتقر إلى المرتكزات الثابتة والغايات الواضحة والمعايير الضابطة حتى تصان من العبث، وتخدم الإنسان بحق، وتحقق إعمار البلاد.
وحسب تقويم الدكتور أحمد الريسوني لحركة حقوق الإنسان المعاصرة، فإن الانتكاس الملاحظ والخلل الظاهر من هذه الحركة يرجع بالدرجة الأولى إلى اهتمامها المبالغ بحقوق الإنسان وإهمالها أصل هذه الحقوق ومناطها الذي هو الإنسان. “فإن التركيز على حقوق الإنسان مع إهمال كيانه هو من قبيل التركيز على حقوق الإنسان دون تركيز على واجبات الإنسان حتى أصبحنا أمام إنسان الحقوق لا أمام حقوق الإنسان، ومن قبيل تضخيمهم للبعد الفردي على البعد الجماعي لحقوق الإنسان”.
وحدد الريسوني في إطار تصحيح مسار حركة حقوق الإنسان وثقافة المنادين بها في العالم مرتكزات تساعد على خدمة الإنسان بجوهره وكيانه، والعناية بإنسانيته، وهذه المحددات كما يأتي:
1- إنسانية الإنسان أولا
إن الإنسان يستحق هذه العناية والحفاظ على حقوقه المختلفة؛ لأفضليته وامتيازه وخصوصيته على باقي المخلوقات، فقد نال الإنسان هذا التفضيل والامتياز بما خص الله به جنس الإنسان منها:
– فإن الإنسان جعله الله خليفة في الأرض، وهو تشريف وتمكين لا نعلم مخلوقا آخر حظي به.
– والله تعالى علّم آدم الأسماء كلها، والأسماء هي مفاتيح العلم والتعلم، وأعطاه البيان وهو عبارة عن نظم الأفكار ثم بيانها. ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ).
– والله عز وجل خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم وأكمل هيئة.
– وأهم من ذلك كله وهو سر هذا التشريف، أنه سبحانه نفخ فيه من روحه، ولا يعلم مخلوق آخر وجد فيه هذه الخاصية، لذلك نال بها نوعا من التشريف والتكريم بهذه الميزة. يقول الريسوني: “فالعلة الحقيقية لإسجاد الملائكة لآدم هي التسوية الخاصة الفائقة لهذا الكائن، تم تتويجها بالنفخ فيه من روح الله، وهذا واضح في النظم القرآني (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) فهو سجوده لهذه الخاصية ولأجلها.”
الإنسان بين البعد الديني والبعد االطيني
يرى الريسوني أن الإنسان الحقيقي هو محور الكون وسيده الذي نزلت من أجله الديانات والرسالات السماوية مما جعله يظل مؤمنا بالله ويمثل هذا البعد الديني لدي الإنسان غير أن حركة حقوق الإنسان ومرجعيتها الفكرية أهملت هذا البعد، وأطرت مجموعة من الطلبات التي تحقق للإنسان احتياجاته المادية. وجردت الإنسان عن قيمته الحقيقية حين لم تراع الموازنة المعتدلة بين البعدين الديني والطيني. وهذه النظرة المادية للإنسان لا تعدو أن يكون “تجديدا وزخرفة لنظرة إبليس التي لا ترى في الإنسان سوى انه كائن طيني صنع (من صلصال من حمإ مسنون)”.
وصف الريسوني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة 1948م أنه أكثر نضجا وتوازنا من كل ما سبقه، حيث اشتمل على جميع حقوق الإنسان التي تحقق نمو شخصيته نموا كاملا منها حقوق الحرية والمساواة والحياة والسلامة البدنية وغيرها، لكن هذا الاعلان على جودته ونضجه واكتماله إلا أنه أغفل كغيره مما سبقه “الأبعاد النفسية السامية للإنسان، وهي التي تجعل الإنسان إنسانا، وتبقي الإنسان إنسانا، وتجعله أكثر ارتقاء وسموا”.
لذلك أطلق على هذه المعاملة التعسفية للإنسان وحقوقه من دعاة حركة حقوق الإنسان ما أسماه “نسخة مطورة ومزيدة ومنقحة عن حقوق الحيوان”.
2- تزكية الإنسان
تعد تزكية الإنسان الهدف الثاني والمحدد الثاني لحركة حقوق الإنسان، فالتزكية هي المقصد الأسمى الذي يريده الله لعباده في هذه الدنيا ، وهي منتهى ما بعث الله لأجله رسله، وخلاصة ما ضمنه شرائعه. وتتضمن تزكية الإنسان جانبين هما التطهير والتنمية. فالتزكية في الأمور المعنوية هي التطهير من العيوب والأدران والآفات وهي من الصفات السلبية، وتنمية المحاسن والفضائل وعناصر الخير، وهي من الصفات الإيجابية. وبما أن أخص خصائص الإنسان أنه كائن متدين بالطبع فإن أهم “وأبلغ تزكية يحصل عليها الإنسان بعد الإيمان بالله تعالى هي ما شرعه سبحانه من عبادات وقربات..” والإنسان وإن اتفق مع سائر الكائنات في الخضوع التلقائي ولكنه يتميز عنها بعبودية أخرى تقع بإرادة مطلقة واختياره وهي عبودية التعبد أو عبودية التدين، ومنها يتميز ويتزكى الإنسان.
ذكر الدكتور الريسوني بعض أمثلة الآفات النفسية التي تعالجها العبادات وتحقق منها تزكية الإنسان ومنها: آفة شدة التعلق بالمال – والحرص عليه، والشح به. وكان سببا في ارتفاع نسبة الخصومة والاعتداء، والأنانية.. وجاءت بعض النصوص الشرعية الإجرائية العملية الموجهة إلى تزكية الإنسان من هذه الناحية ومنها:
– جاءت فريضة الزكاة، ومقصد هذه الفريضة في تزكية واضحة من اسمها (الزكاة)، فهي زكاة للنفس الإنسانية أولا، يقول الله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها). فأداء الزكاة طريق لتزكية الإنسان المزكي.
– ونلتمس المعنى ذاته في جميع أوجه الصدقات والإحسان التي تشمل الإنفاق في سبيل الله.
– وهكذا كل مجالات الشريعة تتوجه إلى تزكية النفس الإنسانية وترسيخ الآداب والفضائل فيها.
أما إهمال حركة حقوق الإنسان لهذا الجانب من إنسانية الإنسان وتركيزها على حقوق الإنسان خلال الإعلانات والدساتير القانونية، فهي “مجرد قانونية ثقافية وفكرية بدون أخلاق وبدون تخليق، وستظل حركة حقوق الإنسان دائرة حول المظاهر دون أن تصل إلى المخابر، وستظل تشتغل بالوسائل من غير تقدم في تحقيق المقاصد”.