يسير الناس في دروب الحياة ما بين شخص يمشي على نور من ربه وآخر يمشي دون هدى ولا كتاب منير، ولنقرر ابتداءا أن حرص الإنسان على هداية من يحب دليل على صفاء القلب وسلامته من الأمراض النفسية، يقول الله: (إنك لا تهدي من أحببت)، وفي دعوة الناس إلى الهدى أجر عظيم قال ﷺ «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا »[صحيح مسلم ] هذا الأجر يستحق منا أن نبذل كل جهد ووقت ومال وما نستطيعه بذله.
وعمل المسلمين المفلحين أن يتواصوا فيما بينهم بالحق والصبر، وبعد ذلك من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ومهما كان جهدهم وإخلاصهم في التناصح والإرشاد يبقى أناس على الضفة الأخرى من النهر، بينهم وبين الهداية حجاب من أنفسهم، ومن الهوى، ومن الارتباط بجماعات المصالح، ومن الارتباط بلذائذ الدنيا، ومن التحلل من قيود الأخلاق إلى غير ذلك من سدود تعمي وتصم عن قبول الحق والعمل به.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض النور لكنه يغمض عينيه، فقد تأكد من الحق وظهر له واضحا جليا، لكنه لا يريد أن يعترف بخطأه حين أحب أو كره، وحين والى أو عادى تجد من يرى أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل حتى لا تزداد الخسائر.
إن الله تعالى يحب خلقه لذلك كانت الأدلة على الحق أكثر من أن تحصى موجودة في كل ركن من أركان الدنيا، وكل زاوية من زوايا الحياة، لكن الله تعالى يخبرنا في كتابه أن بعض الناس يعطي ظهره للحق، بل يريد أن يصرف نفسه ويصرف الآخرين عن رؤية الحق، فيقول {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل: 13].
كأن الآية لشدة وضوحها تبصر فتدل على الله كشأن المبصر الذي يدل غيره على الطريق الصحيح، لكنهم انصرفوا عن الهداية، واستحبوا العمى على الهدى والظلمات على النور، فأغمضوا أعنيهم عن الدليل الواضح على ما يريده الله تعالى منهم، وبذلك يكونون قد تركوا طريق الهداية.
وكم هي المواقف التي يتبين فيها الرشد من الغي والحق من الباطل والنافع من الضار، لكن البعض يتبع هواه، وهو يعلم أنه يحيد عن طريق الهداية ويسير في طريق الهلاك كبرا وتعاليا، وممن جاءتهم آيات الله تعالى مبصرة ثمود {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59]، جاء قوم صالح ناقة من عند الله تعالى تدل بأوضح أنواع البيان على قدرة الله تعالى، وعلى نبوة صالح عليه السلام فشأنها يختلف عن كل ما رأوه من النوق ومع ذلك لم يصدقوا صالح فيما جاءهم به من الله ولم يهتدوا.
ولعل مما يعين الانسان على الهداية التفكر بهدوء {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ: 46] طلب منهم النبي ﷺ أمرا واحدا وهو أن يقوموا لله بما يتضمنه هذا القيام من الاستعداد الكامل وبذل العناية والجهد واجتماع الفكر لكي يصلوا إلى طريق الهداية.
التفكير الفردي بعيدا عن التشويش والمزعجات والملهيات، ومن الناس من يستجمع طاقته الفكرية كاملة حينما يكون وحيدا، ومنهم من يُحسن التفكير مع آخر فيبادله الفكرة بفكرة ويستفيد من كلامه ولا يزالان يلقي أحدهما الرأي ويناقشه فيه الآخر حتى تكتمل الفكرة وتنضج وتتضح.
يفكر الإنسان وحده أو مع غيره فيما بين يديه من حقائق وما ينتظره من مصير يتأمل في حياته وحياة الآخرين، وينظر إلى العواقب ما الذي يترتب على اختيارته في الزواج والطلاق، واختيار نوعية العمل إلى آخر ما يحتاجه الإنسان في حياته.
ولعل في طلب التفكير مثنى سعي للناصح الذي تتداول معه الفكرة لكي يصحح لك أو يؤكد لك صواب ما تراه أو خطأه ويساعدك في تقويمه.
من صوارف الناس عن الهداية:
1- التخوف من عواقب الهدى {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] إن بعض الناس يعلمون أن ما تدعوهم إليه هو الهدى الذي لا شك فيه، ويعلمون كذلك أن للهداية أثمانا ثقيلة سيضطرون إلى دفعها ولذلك يفضلون الذي هو أدنى على الذي هو خير يفضلون متعة مؤقتة تزول عما قريب على متعة دائمة ليس فيها منغصات، لا يرون إلا الدنيا لذلك فهم حريصون على أن يعبوا من شهواتها.
2- بعض الناس ينظرون إلى الهداية والدعوة على أنها عبء ثقيل فهو يلقيه من على كتفه كيفما اتفق، لا يعلم أن لكل باب مفتاحا، وكذلك لكل نفس بشرية مفتاحا، وتحويل الناس من حال إلى حال يشبه رفع المياه من أسفل الجبل إلى قمته يحتاج إلى رافعات، ويحتاج إلى صبر جميل ونفس طويل، وبعضهم يغلب الترهيب على الترغيب، ويكثر من الحديث عن النار ويقل أو يختفي حديثه عن الجنة.
ثم بعد ذلك يتعجب من إصرار الناس على الضلال وابتعادهم عن الهداية، وهو لم يسلك بهم الصراط المستقيم الذي سلكه رسول الله ﷺ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] ويظن انه إذا ألقى على مسامع الناس آيات بينات وجمل عظيمة من أحاديث المصطفى ﷺ سينقاد الناس له ويستجيبون لما يأمرهم، ولابد أن يهيأ الداعية النفوس ويختار من الكلام الإلهي والبيان النبوي ما يناسب أحوال الناس حتى يستطيع أن يفتح قلوبهم للهدى والنور .
إن دعوة الناس إلى الحق والخير علم وفن تصقلهما الخبرة بالنصوص الشرعية والتاريخ الإنساني والطبيعة البشرية وطريقة التعامل الأمثل مع الخلق فإن لم نمتلك هذه المهارات كنا سببا في انصراف الناس عن الهدى.
يهدي الله لنوره من يشاء:
امرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون نماذج يقدمها الله تعالى للناس، فامرأة نوح وامرأة لوط توافرت لهما البيئة الصالحة، لكنهما آثرا الضلال على الهداية ولم ينتفعا بما أتاحه الله تعالى لهما من فرصة يتعرفان فيها على الحق عن قرب، ومن خلال التجربة والبرهان، بينما امرأة فرعون التي نشأت في بيئة فاسدة مظلمة تتعرف على نور الله تعالى وتتمسك به رغم ما يفوتها في الدنيا من نعيم ومتاع.
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }:في هذه الجملة القرآنية الكريمة تصبير لهؤلاء الذين أرادوا لأولادهم أن يكون من عباد الله الصالحين فأكلوا الحلال وسعوا إلى تربيتهم سالكين المنهج النبوي من الرفق والحكمة التي تضع كل شيء في موضعها، ومع ذلك سلك الأبناء طريقا آخر، وانجرفوا في تيار الحياة لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فهذه الآية تسلية لهم، فالله تعالى يهدي لنوره من يشاء، وما علينا إلا أن ندعو لأبنائنا ونراقب تصرفاتنا، هل تتوافق الأقوال مع الأعمال، وهل نمثل قدوة حسنة لهم، ونصبر عليهم؟ فإن الإصلاح يحتاج إلى جهد ولا نيأس من الدعاء لهم ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
بقي أناس أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين مدة من الزمان لكنهم اهتدوا في النهاية وحسن إسلامهم وكانوا جنودا للحق رافعين رايته، فلا نبتأس بمن أعرض عن ذكر ربه، لعل الله تعالى يهديه، أو نقول كما قال النبي ﷺ لملك الجبال حين عرض عليه أن يطبق الجبلين على أهل ثقيف لما آذوا رسول الله ﷺ ” بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا “.[ السيرة النبوية لابن كثير] إن عدم معرفتنا بمن يهديه الله ومن يموت على الضلال تدفعنا إلى استمرار الدعوة إلى الهدى، وقديما حاول أناس تثبيط الدعاة فقالوا لهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164] قياما بالواجب ولعلهم يرجعون إلى أنفسهم ويعودون إلى ربهم وصراطه المستقيم.
وأخيرا نردد قول الله تعالى {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99] وقوله تعالى { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]