يُعَدُّ نخر الأسنان (Dental Carie) من أكثر الأمراض حدوثًا، وهو يصيب الإنسان في مختلف مراحل العمر، وإصابة السن بالنخر تتميز بظاهرة رئيسية هي تخرب نُسُجه المينائية أولاً والعاجية ثانيًا، ويتشكل في موضع الإصابة تجويف يعرف بالحفرة (Cavity).
وتهتم مداواة الأسنان بترميم ما يتخرب من الهيكل السني بفعل النخر وسواه من العوامل المخربة الأخرى، وذلك بمعالجة ما قد تحدثه تلك العوامل نفسها من إصابات متقدمة كالالتهابات اللُّبِّية المختلفة والاختلاطات المحيطة بذرى الأسنان.
كان ابن سينا (370 – 428هـ/980 – 1037م) واضحًا دقيقًا في تحديده الغاية والهدف من مداواة نخور الأسنان حين قال: “الغرض من علاج التآكل منع الزيادة على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه وتحليل المادة المؤدية إلى ذلك”. ونلاحظ أن المبدأ الأساسي لمداواة الأسنان هو المحافظة عليها (conservative dentistry)، وذلك بإعداد الحفرة إعدادًا فنيًّا ملائمًا مع رفع الأجزاء النخرة منها، ثم يعمد إلى ملئها بالمادة الحاشية المناسبة لتعويض الضياع المادي الذي تعرضت له السن، مما يعيدها بالتالي إلى أداء وظيفتها الغريزية من جديد.
الحشو المستخدم
أما المواد الحاشية التي استخدمها الأطباء العرب القدامى فهي عديدة منها:
المصطكي: وتسمى أيضًا العلك الرومي (Pistacia Lentica) وهي نوع من أنواع الصموغ البيضاء، الناعمة، الطيبة الرائحة، ذات اللدونة، المائلة إلى المرارة، وشرح أبو الحسن الطبري الذي عاش في القرن الرابع الهجري لطريقة استخدامها في كتابه (المعالجات البقراطية)، فقال: “ويستعمل المصطكي، فيسدون الثقبة به، بأن يذوب المصطكي ويُعْجَن ثم يعملون منه شكلاً على استدارة الثقب فيجعلونه فيها، ويمرون على الفاضل من المصطكي حديدة مُحماة”.
وعرف الأطباء المسلمون الحَشْوات المصبوبة، وهي شكل من أشكال الترميم السني الذي تعوض فيه النسيج السنية المتخربة أو الضائعة بكتلة معدنية ترجع في طبيعتها إلى أحد الخلائط المعدنية غير الصدئة وبخاصة الخلائط الذهبية منها، واستخدم الأطباء المسلمين لصنعها عظام الحيوانات أو العاج، ويشرح هذه الطريقة أبو الحسن الطبري فيقول: “ومن الأطباء من ينحت من عظام الفيل جسمًا مدملجًا عريض الرأس لطيفًا فيهندمونه في الثقبة”.
أما في الحالة التي ينفذ فيها النخر داخل طبقات السن، ويؤدي إلى انكشاف اللُّب والتهابه، وبالتالي حصول الألم الشديد الذي يتوافق مع هذه الحالة، وإذا ما جُسَّت الناحية بالمسبر نَفَذَ داخل الكتلة العاجية المتلينة مثيرًا ألمًا واضحًا يُؤكد تشخيص الإصابة.
التشخيص التفريقي
فقد أعطى الرازي (251 – 313هـ/ 865 – 925م) التشخيص التفريقي الصحيح لها؛ إذ قال: “الوجع في السن إذا كان في العصبة أحس بالوجع غائرًا، وفيه شيء شبيه بالضَّرس واشتكى من الفك”، وفي حال حدوث التموُّت اللبي وهو المرحلة القصوى من التهاب اللب؛ حيث يصبح اللب كتلة سوداء مؤلفة من نسج متخربة، وينعكس ذلك على تاج السن، فيصبح لونه رماديًّا بصورة تدريجية، فإن ابن سينا يفرق بين هذا العرض وبين تغير لون تاج السن لأسباب أخرى، منها تراكم الترسبات القلحية الكثيفة عليه فيقول: “إن ذلك قد يكون لتغير لون ما يركبها من الطلاوة؛ فيحدث قلح وربما تحجر في أصول السن تحجرًا يعسر قلعه، وقد يكون لمادة رديئة تنفذ في جوهر السن وتتغير فيها، أو يفسد لونها إلى باذنجانية وغيرها من غير أن يكون عليها قلح.
مداواة الأسنان
وفي مجال مداواة الأسنان اللبية (Endodont dentistry) استخدم المسلمين مادة الزرنيخ لإماتة اللب وتهدئة الألم في الأسنان، ويصف الرازي ذلك بقوله: “في الأسنان المتآكلة يذاب زرنيخ أحمر بزيت، ويُغلى ويُقطر منه في أصل السن وأُكاله”. ونلاحظ أن هذه المادة ما تزال تستخدم حتى يومنا هذا في المعالجات اللبية وبشكل واسع.
كما لجأ الرازي إلى طريقة تحنيط اللب، وهي مداخلة تتضمن فتح حجرة اللب، ثم وضع بعض المواد الكاوية بتماس مع النسيج اللبي، مما يؤدي إلى إماتته وحفظه في حالة عقيمة، ويتبع ذلك زوال الألم بطبيعة الحال.
ويصف الرازي ذلك التحنيط بقوله: “إذا اشتد الوجع فبَخِّر فم العليل ينفع، فإن لم يسكن فاثقب وسط السن بمثقب دقيق وقَطِّر فيه الزيت المغلي مرات”.
كما يؤكد ذلك ابن سينا بقوله: “كثيرًا ما يحتاج إلى ثقب السن بمثقب دقيق؛ ليُنَفِّس عنه المادة المؤذية، وتجد الأدوية نفوذًا إلى قعره”.
وفي موضع آخر يشرح ابن سينا هذه الطريقة فيقول: تؤخذ مِسلة تُحمى وتُغْمَس في ذلك، وتنفذ في تجويف أنبوب متهندم على السن الوجعة حتى تبلغ السن وتكويها، وقد جُعِلَ على ما حواليها شمع أو عجين أو شيء آخر يحول بين السن وما حواليها من الأسنان والعمور، وقد يُقطر أيضًا في الأنبوب الدهن المغلي.
ويستخدم ابن سينا بعد ذلك مادة الكافور مادة حاشية، ويصفها بقوله: “وقد جُرِّب الكافور في الحشو فكان نافعًا ويمنع زيادة التآكل ويسكن الألم”. ولا يفوته أن يوصي عند استخدام المادة الحاشية، فيقول: “يجب أن يرفق ولا يحشى بعنف وشدة فيزيد في الوجع”.
الآلات المستخدمة
وفي مجال تجريف النخر والأجزاء الميتة من السن استخدم الأطباء المسلمين الأدوات القاطعة اليدوية، مثل:
المثقاب: لفتح حجرة اللب وتخفيف الضغط عليها.
المِبْرَد: لإزالة الأجزاء النخرة الظاهرة من السن وتنعيم جدران الحفرة وصقلها.
المجرفة: لتجريف العاج المتلين داخل حفرة النخر.
المسلة: لوضع المواد المهدئة والكاوية داخل السن المؤوف (المريضة).
الإزميل: لإزالة الأجزاء المينائية المتخربة وتسوية جدران الحفرة.
ونلاحظ أن بعض هذه الأدوات ما يزال أطباء الأسنان يستخدمونها حتى وقتنا الحاضر في مجال المداواة.
خالد عزب5>