مع اقتراب شهر رمضان المبارك تظهر -كما في كل مرة- تساؤلات واستفسارات ونقاشات، منها ما يتعلق بعبادة الصوم نفسها، ومنها ما يخرج عن تلك العبادة وما حولها ليشتبك مع علوم أخرى كالطب والفلك، وهنا قد تسمع الشيخ يتحدث بالمعلومات الفلكية والطبية، وقد تسمع الفلكي والطبيب يتحدثان بلسان الشيخ والفقيه.
وأذكر بهذا الصدد أني كنت حدّثت بعض أصدقائي من الأئمة والخطباء عن دقة علم الفلك، وكيف أنهم صاروا مثلاً يحددون مسبقاً وبدقة موعد الخسوف والكسوف، حتى كان آخر شعبان في سنة ماضية، وإذا بمراصدنا الفلكية تختلف! فلامني بعض أصدقائي على ثقتي هذه بعلم الفلك وأهله، وما دروا أن الفلكيين هؤلاء لم تفرّقهم مراصدهم الفلكية، وإنما فرّقتهم توجهاتهم الدينية والمذهبية، فالفلكي الذي جزم بأن غداً رمضان أو العكس، إنما كان يتكلم عن رأيه الفقهي أو رأي شيخه، قلت لأصدقائي: اقرؤوا بيانات الفلكيين هؤلاء، إنهم لا يتكلمون عن لحظة الاقتران الفلكي، فهذه لا يختلفون فيها، لكنهم يتكلمون عن الرؤية وإمكانيتها، وهذه مباحث فقهية أكثر منها فلكية.
ومن أغرب ما رأيته في هذا المجال أن مؤسسة دينية أعلنت دخول الشهر بالرؤية البصرية، مع أن الفلكيين كانوا قد جزموا بأن لا وجود للهلال في تلك الليلة، فلما سألت أحدهم أحالني إلى خبير علمي أعرفه وأعرف دقّته، لكني أيضاً أعرف شدّة تديّنه ورقّة مشاعره، فسألته، فقال: نعم من الناحية الفلكية الهلال غير موجود، لكن بما أن مسلماً شهد برؤيته فأنا لا أستطيع أن أكذّبه، والله على كل شيء قدير، ويمكن أن تكون هذه كرامة أو معجزة!!
نعم فهؤلاء المتدينون من الأطباء وغيرهم لم يتدرّبوا بعد على فصل المباحث العلمية المختبرية عن توجهاتهم الدينية، ومن ثم يجب الحذر في أخذ ما يقولونه أو يكتبونه في هذا المجال، فإذا قال لك أحدهم: إن السواك لا يتلوّث حتى لو امتزج بلعاب فمك، ثم وضعته في جيبك، ثم استعملته عدة مرات، فلا تأخذ بكلامه هكذا، فإنه هنا ليس بالضرورة أنه قد قام بفحص السواك، بل على الأغلب أنه ينطلق من تصوّر ديني لا علاقة له بالطب.
ليس المتدينون وحدهم، فهناك أيضاً صفحات عديدة لمن يتباهون بالإلحاد وسلطان العقل المطلق، تتناول هذه الأيام “أضرار الصوم” بصورة عامة، لكنك ترى كثيراً منهم حينما يطالبونه بالإثباتات العلمية يحيلك إلى مقال في صحيفة ما، ليس لها وزن علمي، وقد يكون الذي كتبه واحداً منهم، فيجعل محل الخلاف نفسه حجة على خصمه! وبعضهم إذا أعيته الحيلة راح يستشهد بالحالات القليلة النادرة مثل الصوم في الشمال الأوروبي الذي يتجاوز العشرين ساعة في اليوم، فيأتي الطبيب المتديّن ليرد عليهم بأن هذا الصوم فيه فوائد صحية لا تحصى، والحقيقة أنه لا الطبيب الملحد، ولا طبيبنا المتديّن، قد تكلما بالمعلومات الطبية المجردة، وهكذا تضيع الأمانة العلمية، وتختلط المعرفة بالخرافة وبالأمزجة والأهواء المختلفة، ليكون الضحية جيل من الناس تتنازعه الحيرة، وتعصف به الفوضى.
إن الطبيب الذي يحاول نصرة توجهه الفكري أو الديني بمعلومة مضللة، قد خان فكره ودينه وخان أمانته العلمية وأضرّ بمجتمعه.