ماهية علم الحديث: هي التحقيق من صحة الخبر عن طريق رواته من بداية مصدر الخبر إلى منتهاه ولو كان بين ذلك مئات السنين.

قال القاضي عياض:” اعلم أولا أنّ مدار الحديث على الإسناد فيه تتبين صحته ويظهر اتصاله”.[1]

والإسناد هو السلم إلى تمييز الخطأ من الصواب في المرويات، ومعيار نقد الأخبار.

ولكن، هل جميع علوم التراث النقلية تخضع لمعيار النقد على النمط الواحد، نظرا لعنصر مشترك بين الجميع، وقد قيل: “الأسانيد أنساب الكتب”.؟

عند التأمل لتطبيقات وتصرفات المحدثين نجد منهجهم منهجا معتدلا رصينا فى التعامل مع العلوم النقلية حسب طبيعتها ومحتواها وقضاياها.

وهذا الإمام الطبري تجده محدثا في كتابه “تهذيب الآثار” بمنهج التشدد، ومفسرا في كتابه “جامع البيان في تأويل القرآن” بمنهج أقل التشدد، ومؤرخا في كتابه “تاريخ الرسل والملوك” بمنهج أكثر تسامحا في الرواية، وفي هذا إشارة إلى أن لكل علم معايير وضوابط خاصة يجب مراعاتها، فطريق النقد في علم الحديث النبوي غير النقد فيما سواه، والتشدد في قبول المرويات الحديثة مختلفة عن المرويات التاريخية، ويمكن تقسيم علوم التراث حسب حاجتها إلى النقد على مراتب:

ما يفتقر النقد من العلوم النقلية

ومن العلوم النقلية المستهدفة في ميزان النقد عند المحدثين:

أ‌ – السنة النبوية

رواية الأخبار وإضافتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن مقارنتها بأي خبر، والنقل عنه عليه الصلاة والسلام دين باق إلى يوم القيامة يجب التحري في قبوله سندا ومتنا، وتتعين حمايته من التحريف ولو في كلمة أو في حركة، وكفى قوله عليه الصلاة والسلام” من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”[2] زجرا وردعا وداعيا إلى مسلك التشديد في توثيق سنته وأخباره، وكل حديث تضمن حكم حلال  أو حرام أو تعلق بالاعتقاد أو بأصل من أصول الدين، فإنه لا يقبل إلا بعد التثبت في حال الراوي والمروي.

يقول عبد الرحمن بن مهدي:” إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال [3].

قال الخطيب البغدادي رحمه الله: ” قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم؛ إلا عمن كان بريئا من التهمة بعيدا من الظنة “[4]

وهذا الضرب من الأحاديث ترى فيها التطبيق النقدي الواضح في الصحيحين وبقية مظنة الصحاح والحسان، وهو المنهج المنطقي العلمي والعقل النقدي الملهم العميق يفوق الوصف.

ب‌ – الآثار الموقوفة

إذا كانت العهدة على أقوال الصحابة أو قول الصحابي في باب من أبواب الأحكام أو العقائد، وهنا يتطلب معيار النقد الشديد في شروط قبولها كحال الحديث المرفوع سواء.

ما يفتقد النقد الخفيف من العلوم

لم يكن دأب المحدثين التعنت والتشدد في التثبت مما ينقل من الأحاديث المرفوعة المتعلقة بأعمال القلوب، والسلوك، والثواب والعقاب، والمناقب لأنها تؤكد أمرا معلوما في الدين ولا تؤسس أمرا جديدا غير مسبوق في الشرع، ولذلك ورد نوع من التسامح في منهج النقد عندهم مع الرواة في هذا الباب.

وعن أبي زكريا العنبري رحمه الله قال: “الخبر إذا ورد لم يحرم حلالا ولم يحل حراما، ولم يوجب حكما، وكان في ترغيب أو ترهيب أو تشديد أو ترخيص: وجب الإغماض عنه والتساهل في رواته”[5]

وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله:” وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات، تساهلنا في الأسانيد”.[6]

وقال الإمام أحمد رحمه الله:” وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد.[7]

وعن يحيى بن معين رحمه الله، قال: ” كنا عند ابن عيينة فجاء رجل وقد فاته إسناد حديث فقال: إسناده؟ فقال: «قد بلغتك حكمته ولزمتك حجته ولم يحدثه».[8]

ولا عجب أن ترى جزءا كبيرا من السنة من هذا الصنف محشورة في كتب الرقائق والزهد والفضائل والترغيب والترهيب في دواوين الأئمة؛ كابن مبارك وأحمد والبيهقي وابن الجوزي وابن رجب وغيرهم، إلا أن التساهل المحكي في هذا المورد ينحصر فيما ضعفه يسير من الروايات المرفوعة.

ما يفتقد النقد من النقول باعتبار المحتوى

ومن العلوم النقلية التي يطرأ عليها منهج النقد أحيانا إذا كان مضمونها يتعلق بقضايا دينية ومن ذلك:

أ – روايات التفسير

ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتب التفسير وله تعلق بالتشريع أو ورد من الأثر مما له حكم الرفع أو ما تلوح فيه نكارة أو غرابة ونحو ذلك، يجب عرض كل ما حاله هذه على جادة النقد الحديثى؛ فيتسامح فيما عدا ذلك من الروايات التفسيرية المرفوعة إذا لم يشتد ضعفها، وأما بقية الآثار المروية فلا حرج في نقلها.

عن يحيى بن سعيد رحمه الله قال: “تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثِّقونهم في الحديث”[10]

قال الإمام الشافعي رحمه الله”لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث “[11]

قال الإمام أحمد رحمه الله:”كتب لا أصل لها: المغازي والملاحم والتفسير

قال المحققون من أصحابه: مُراده: أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة”[12]

وهذا يدلك على أن أغلب أسانيد التفسير تشوبها العلة البينة عند أهل العلم بالحديث، إما علة الانقطاع الظاهرة؛ كالصحف التفسيرية:

مثل صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو لم يدركه، أو برواية الضعفاء والمتروكين والكذبة، أمثال مقاتل بن سليمان، والسدي الكبير، والسدي الصغير، ومحمد بن السائب الكلبي، وعطية العوفي، وغيرهم، ولم ينكر المحدثون الرواية عن هؤلاء نظرا لعدم تعلقها بحديث الأحكام والعقائد.

يقول البيهقي رحمه الله” وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم لأن ما فسروا به؛ ألفاظه تشهد لهم به لغات العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط”[13]

وكان إدراك المعانى من أكبر ركائز روايات التفسير، فيختلف النظر فيها عن الحديث المرفوع.

ب – روايات السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي

يتدخل معيار النقد الحديثى في حيز واسع من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بغية تصفيتها من الخرافات المدسوسة والأغاليط المنسوجة حوله عليه الصلاة والسلام، ولأن فيها جوانب تبنى عليها الأحكام والاعتقاد والاتساء.

ومن ناحية تاريخنا: فثمة كثيرا من الحوادث التاريخية المهمة المؤثرة تحتاج إلى النظر الثاقب والتنقيب عن حقيقتها وفق قواعد المحدثين، دفاعا عن تاريخ الأمة وأعلامها النبلاء.

وقد أكد الشيخ أكرم ضياء العمرى على أن طريقة أهل العلم بالحديث هي “وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا “[14]

والدواء الناجع فيما ينقل من الأحداث الجسام التي كابدته الأمة، هو غربلة ما أدخله الأخباريون من أنواع الفرية والأكاذيب والشوائب، ويكفينا النقد الحديثى مؤونة ذلك.

ما لا يفتقر النقد من العلوم النقلية

كل خبر أو رواية منقولة لا صلة لها مباشرة بأمور الدين، سواء أثبتت أسانيد ما حالها هذه من الروايات أو اقتصر على ألفاظها فلا حرج، ولا ينقص من قيمة تلك العلوم، وإنما يبقى نظر الفحص والتدقيق فيها من حيث المحتوى والاستفادة والاعتبار ليؤخذ الحق منها ويذر ما سواه؛ كما في حال القصص والحكايات والأقاويل والحكم العالية والقصائد والفرائد، ولا يتحكم فيها قوانين نقد الأسانيد بل على قاعدة “حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج” ما دام معناها صحيحا غير متصادم مع عرف الشرع.

قال ذو النون: “صدور الأحرار قبور الأسرار؛ وسئل لم أحب الناس الدنيا؟ قال: لأن الله تعالى جعلها خزانة أرزاقهم فمدوا أعينهم إليها؛ وقيل له: ما إسناد الحكمة؟ قال: وجودها”.[15]

وعن محمد بن عبد الخالق قال: ” كنت جالسا عند يزيد بن هارون وخراساني يكتب الكلام ولا يكتب الإسناد قال: فقلت له أو قيل له: مالك لا تكتب الإسناد؟ فقال: «أنا خانه خواهم نبازار» قال أبو طالب: تفسيره: أنا للبيت أريده لا للسوق.[16]

وقال الخطيب البغدادي: “أخبار الصالحين وحكايات الزهاد والمتعبدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء، فالأسانيد زينة لها وليست شرطا في تأديتها”[17]

ومما تزين بالأسانيد من العلوم الموضوعة في كتب التراث: الأدب واللغة والتاريخ والأنساب، والسياسة الإسنادية النقدية مع روايات هذه العلوم ظلم لها وطمس لحقائقها بلا شك، ومثلا:

أ – المرويات التاريخية: المتمثلة في كتب التاريخ، مثل تاريخ الأمم والملوك للطبري، وكتاب التاريخ لخليفة بن خيَّاط البصري، وكتاب التاريخ الكبير ليعقوب بن سفيان الفَسَوي، ونحوها من التواريخ المسندة، وإن منهج التساهل هو الأغلب في سوق أسانيدها رفقا بها وشفقة عليها.

قال أكرم ضياء العمري: “أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسُّف كثيرٌ، والخطر الناجم عنه كبير؛ لأن الروايات التاريخية التي دوَّنها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث، بل تمّ التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثِّل هوَّة سحيقة بيننا وبين ماضينا، مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع”[18]

ومع ذلكم فإنه يجرى في تطبيق منهجهم مراعاة تقديم قبول أخبار من كان مختصا بروايات التاريخ والمغازى كابن إسحاق إمام المغازي على غيره.

ب – الأدب واللغة: مثل كتاب “الكاتب” لابن قتيبة و”الكامل” لابن المبرد والبيان والتبين للجاحظ، و”النوادر” لأبي علي القالي وغيرها من الكتب الحاوية لأصول الأدب واللغة، ولو جئنا إلى هذه الكتب التراثية وجئنا إلى الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام، بل عموم دواوين الشعراء، خاصة في عصر الاحتجاج اللغوي، وأردنا أن نطبق عليها منهج المحدثين في نقد السنة، هل سنزيد إلا أن نهدم لغة العرب، بأعظم مما أراد أن يهدمها به طه حسين!!!

ذلك أن لأئمة اللغة معاييرهم الصحيحة الكافية لنقد علمهم، ولهم طرائقهم لفحص المنقول من اللغة. وقد بذلوا في ذلك جهودا عظيمة، أدوا بها الأمانة العظمى الملقاة على عواتقهم، خدمة للغة القرآن والسنة.[19]

وتطبيق منهج المحدثين عليها حرفيا قطع لطريق إلى بساتين علوم العربية؛ المساعدة على فهم العلوم الشرعية.

ولا حاجة إلى البحث عن إسناد مثل هذه العلوم لشهرتها بين أهلها جيلا بعد جيل، ولعدم تعلقها بالعقيدة أو الحكم الشرعي أصالة.

إذن، يتعين تطبيق منهج المحدثين النقدي في كل أمر عقدي أو حكم شرعي أو في أمر يمس الدين في المآل، وفيما سوى ذلك السعة، أي يتسامح في النقد.


[1] – الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع. ص:194

[2] – رواه البخاري برقم (107).

[3] – رواه الحاكم في المستدرك بعد رقم (1801)

[4] – الكفاية ص: 133

[5] – الكفاية ص: 213

[6] – رواه الحاكم في المستدرك بعد رقم (1801)

[7] – الكفاية ص: 213

[8] – اقتضاء العلم العمل برقم (132)

[9] – أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/ 30

[10] – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع برقم (1588).

[11] – الإتقان في علوم القرآن 4/239

[12] – المصدر السابق 4/208

[13] – دلائل النبوة 1/ 37.

[14] – دراسات تاريخية: ص27.

[15] – حلية الأولياء 9/ 377 – 378

[16] – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع برقم (1648).

[17] – المصدر السابق 2/213

[18] – دراسات تاريخية: ص27.

[19] –  الفتوى عن دراسة أسانيد القصص والأخبار التاريخية للدكتور حاتم الشريف العونى.