يذكر لنا القرآن الكريم قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام المتعلقة بدخول الأرض المقدسة ، وحوارهم معه في قتال الجبارين من أهل فلسطين ، فيقول ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) المائدة : 21 .
فسيدنا موسى عليه السلام يحرض بني اسرائيل على دخول أرض فلسطين ، ويقنعهم مبينا أن الله كتبها لهم ، وأن أمر الدخول والسيطرة على الأرض حاصل لا محالة ما دام الله أراده ، لكنه يحتاج فقط لأخذ الأسباب وشيء من الفعل البشري وكسر لحواجز الخوف والجبن التي أحاطت بهم في عهود الفراعنة المصريين .
لكنهم كعادتهم استمرؤوا الذل والهوان والجبن ، ورضوا بعيشة الخنوع والخضوع والانقياد ، واعتادوا على خوارق العادات تصنع لهم بدون جهد منهم أو بذل شيء من الأسباب ، فلم يترددوا بالرد ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) المائدة : 22
و سنة الله في الأمم والمجتمعات ، أنه لا يزال الخير في الناس ، ولا بد من وجود الندرة المؤمنة المستعصمة بأمر الله و المتمسكة بنهجه القويم ، فتصدر اثنان من القوم – تخيل اثنان فقط من مجموع هؤلاء القوم – فتح الله عليهما من واسع عطائه ، علما وفهما وشجاعة ، فأخذا يحرضان القوم على القتال قائلين ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) المائدة 23 .
والإعداد للمعركة على أكمل وجه حتى لا يتكلوا أو يتواكلوا على فعل الله وصنعه ، وينتظروا خرق القانون والعادات من قبل الله ، من غير ما جهد أو بذل
فالقرآن على لسان هذين الرجلين وضع مقترحات وخطوات عملية – بالإجمال – لمن أراد دخول الأرض المقدسة فاتحا ومحررا ، تكاد تكون خطة عسكرية مهمة عامة ، تصلح لكل زمان مع الاختلاف في معطيات العصور . ويمكن تلخيصها بما يلي :
- الرجولة : فالقرآن افتتح وصف هذين المتكلمين بالرجولة ، وكان بالإمكان ذكر اسميهما ونسبهما ولكنه اكتفى بهذا الوصف للتنبيه عليه. فالقتال والجهاد بحاجة ابتداء لحمية رجال وأنفة شجعان ونخوة أصحاب مروءة وشهامة ، مؤهلين لأن يكونوا قادة وجنودا فاتحين محررين ، فهم وقود المعركة ومادتها وعنوانها وعنصرها الأساس . لا أشباه الرجال ! ولا الذكور الذين ليس لهم من الرجولة إلا الاسم والرسم والشكل والمنصب والأوسمة !.
- الخوف من الله : فالذي يخاف الله ينفذ أمره في النزال ومقارعة العدو ، والذي يخاف الله لا يخاف معه أحد ولا يخشى سواه مهما بلغ من القوة والجبروت والسلطان والعدة ، والذي يخاف الله تهون عليه الدنيا وزينتها ولعاعتها ، ولا يتردد في تقديم روحه ونفسه رخيصة في سبيل إعلاء كلمته . ولقد وصف الله الخوف منه في الآية بالنعمة ( أنعم الله عليهما ) ، وأي نعمة هي ! بل هي من أجل النعم .
- ادخلوا عليهم الباب : وهي بمثابة مناورة حربية دقيقة خلاصته : أن يأخذوا القوم على حين غرة ويبادؤوهم القتال آخذين بزمام المباغتة والمفاجأة ، فيدخلوا عليهم المدينة من مدخلها الرئيس ، ومتى ما دخلوا على هذه الهيئة ، سيقذف الله الرعب في نفوس الجبارين ، ويهون على بني إسرائيل السيطرة على بقية البلدة والاستيلاء عليها .
” وتعتبر المفاجأة أهم مبدأ من مبادئ الحرب، ويؤدي إحرازها غالبا إلى انهيار العدو معنويا، فضلا عن ارتباكه وعدم قدرته على اتخاذ إجراءات مضادة فعالة، بل إنه غالبا ما سيتخذ قرارات قتالية لا تتفق والموقف الحادث فعلا مما يؤدي في النهاية إلى شل عزيمته عن المقاومة تماما “ . العقيدة العسكرية
- التوكل على الله : فهو الناصر الحقيقي عند اللقاء والضراب ، وما نحن إلا أسباب وجنود ، فالمعركة معركته والحرب حربه ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم ) آل عمران : 160 . ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) الأنفال : 17 .
إن من حكمة هذين الرجلين وحسن فهمهما ، أنهما أخرا التوكل على الله في وصيتهما للقوم ،حيث جاءت في آخر الوصايا ، مفتتحين وصاياهم بالأسباب التي يجب على العباد أن يقوموا بها تجاه العدو ، والإعداد للمعركة على أكمل وجه حتى لا يتكلوا أو يتواكلوا على فعل الله وصنعه ، وينتظروا خرق القانون والعادات من قبل الله ، من غير ما جهد أو بذل كما يفهم من حال الكثير من أبناء جلدتنا اليوم !
وتعتبر المفاجأة أهم مبدأ من مبادئ الحرب، ويؤدي إحرازها غالبا إلى انهيار العدو معنويا، فضلا عن ارتباكه وعدم قدرته على اتخاذ إجراءات مضادة فعالة
ومع كل هذا فإن الجبن يسكن في نفوس بني إسرائيل ويتغلغل في قلوبهم ويسري في عروقهم ، حيث لم ينصتوا لوصية الرجلين وتوجيهاتهم ، بل بادروا بالقول ( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) المائدة : 25.
فقد حزموا أمرهم على التمرد والعصيان ، وأوكلوا الأمر بكل وقاحة وخسة وسوء أدب لموسى عليه السلام وربه – كما يزعمون وكأنه ليس بربهم – وعزموا على القعود والتثاقل إلى الأرض والتخاذل !.
لكن الله لم يلبث أن عاقبهم مستجيبا لأمر نبيه الكريم ، الذي شكاهم لربه بكل حزن وضراعة ..( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) المائدة : 25 – 26 .
فقد تاهوا في أرض سيناء أ ربعين سنة ، وحرموا من دخول الأرض المقدسة التي وعدهم الله بها ، بسبب نكونصهم وتخاذلهم وتمردهم ، وهذه سنة الله في الأمم التي تنقلب على أعقابها وتتخاذل وتترك القتال ولا تنصاع لأمره ونهيه ، لن يكون لها شأن ولن تقوم لها قائمة ما دامت كذلك ، وستتيه في غيابات الضلال والجهل والفرقة والشتات ، وستبقى ذليلة مهانة وتحرم دخول الأرض المقدسة وفتحها وتحريرها ، حتى تعود لأمر الله وتستجيب لنهجه .