يحمل كتاب “استمرارية الشريعة: تطور الفقه الجنائي في القرن التاسع عشر” تحليلا معمقا لإشكالية مركزية تتعلق بعلاقة الفقه الإسلامي بالنظم القانونية المعاصرة، من خلال رصد جدلية التفاعل بين الشريعة وتقنين العقوبات في الهند ومصر والدولة العثمانية.

يقترح المؤلف رؤية بديلة للسردية الشائعة حول انقطاع الشريعة، حيث يعيد تأكيد حضورها من باب المصدر الحي المواكب لمستجدات الدولة الحديثة، ويكشف أبعادا غير مألوفة من ديناميات التفاعل بين العلماء والنخب القانونية والمجتمع.

يحمل هذا العمل عنوان “استمرارية الشريعة: تطور الفقه الجنائي في القرن التاسع عشر”، وهو من تأليف برايان رايت، الباحث في تاريخ الفقه وتحولاته القانونية، والحاصل على الدكتوراه من جامعة مكغيل، والذي يعمل زميلا باحثا في المركز الأمريكي للأبحاث في مصر، وترجمته العلمية الدقيقة أنجزها الدكتور محمود عبد العزيز أحمد، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة، وصدر الكتاب في عام 2025م عن مركز نهوض للدراسات والبحوث ضمن مشروعه المعني بـ”اجتماعيات الشريعة والحداثة”.

يستعيد الباحث برايان رايت في هذا العمل أطروحته البحثية التي أنجزها في جامعة مكغيل، مقدما دراسة مقارنة تبرز استمرارية الشريعة في صورة تاريخية نادرة تروي انتقال الفقه إلى فضاءات التقنين الحديث، من غير تفريط بثوابته أو انغلاقه على ذاته.

سؤال القطيعة والتكيف بين الشريعة والقانون

ينطلق الكتاب من تساؤل محوري حول مصير الفقه الجنائي بعد قيام الدولة الحديثة: هل عاشت الشريعة انقطاعا تاما أم خضعت لإعادة تصوير ضمن تقنين عصري؟

تشير الأدبيات إلى الإجابة التقليدية بأن الشريعة طالها التهميش وحصرت في دائرة الأحوال الشخصية، فيما اكتسحت القوانين الأوروبية مجالات العقوبات والمدني والتجارة. غير أن برايان رايت يفكك هذه الرؤية سعيا إلى كشف الاستمرارية الخفية للشريعة، ومشددا على أن قوانين العقوبات الجديدة هي امتداد للشريعة بصيغة قانونية حديثة، وذلك بعد مراجعة مفاهيم مثل :القتل العمد والنية والمسؤولية والمساهمة في الجريمة. ويؤكّد أن هذا التحول كان محصلة تفاعل معقد بين سلطات الاستعمار، ونخب محلية مزجت بين التكوين الفقهي التقليدي والتعليم القانوني الحديث.

بنية الكتاب ومسار البحث التاريخي

يتكون الكتاب من تقديم وتوطئة، ثم مقدمة بحثية وستة فصول رئيسة وخاتمة ومراجع.

المقدمة تتناول الخلفية الفكرية لموضوع الدراسة وتفكك سردية القطيعة، وتقف على مركزية جريمة القتل في الفقه الجنائي من حيث التداخل بين مفاهيم القصاص والديّة والحقوق وغيرها.

الفصل الأول يدرس موقف الفقهاء من التشريع الجنائي الذي شرعت فيه الدولة الحديثة، ويبرز مرونة العلماء في التفاعل مع سياسات الدولة، جاعلين باب التعزير والسياسة الشرعية أداة لاستيعاب المستجدات دون تنازل عن أعماق الفقه.

الفصل الثاني يبحث نشوء نخبة قانونية جديدة وبصمتها في مشاريع التقنين الحديث، محللا مساهمات مؤسسات جمعت بين التعليم الإسلامي والمعارف القانونية الغربية.

الفصل الثالث يلاحق تحولات تقسيم القتل من التصنيفات الفقهية إلى قوالب القانون المعاصر، مستعرضا أثر الفقه المالكي والقانون الفرنسي في مصر والدولة العثمانية، مقابل التأثير الحنفي في الهند.

طبيعة الجريمة والقصد والمسؤولية الجنائية

يفتح الفصل الرابع بابا على مفهوم الركن المعنوي للجريمة، حيث يناقش النية في الفقه والقانون ويستعرض تطورات إثبات العمد من مناقشة نوع السلاح إلى تحليل البواعث والدوافع، ويبرز تحليلات استحداث مفاهيم سبق الإصرار والترصد ضمن التشريعات القانونية.

أما الفصل الخامس فينقل النقاش إلى مسؤولية الجاني، من خلال معالجة مسائل البلوغ والجنون والمساهمة الجنائية، مقارنا بين مواقف الفقه والقوانين الحديثة حول سن التكليف وحدود المسؤولية، ويؤكد أن القوانين الحديثة لم تنشأ في فراغ بل نهلت من رصيد فقهي أعيد تأويله وتطويره.

الخطاب الإسلامي واستعادة هوية الشريعة

يتوقف الفصل السادس عند تطور الخطاب الإسلامي في القرن العشرين، ورؤيته التشريعات الأوروبية تجاوزا للشريعة وتغريبا للمجتمع، ويحلل كيف تحولت الشريعة في هذا الخطاب إلى هوية ثابتة لا منظومة متجددة، كما يناقش التفاعلات القانونية حول المادة 32 من قانون العقوبات المصري وجهود الريادة الإسلامية في الهند، ليرى أن التغير الحقيقي كان في الوعي لا في القوانين ذاتها، بانتصار الصورة السكونية للشريعة على واقعها الاجتهادي المرن.

دلالات الكتاب العلمية

ينتمي كتاب “استمرارية الشريعة” إلى حقل بحثي يعنى بعلاقة الفقه بالحياة الاجتماعية والمؤسسات الحديثة وتتبع حضوره في التعليم والقضاء وسياسات الدولة، كما يسلط الضوء على مرونة أدوات الشريعة في سياقات التشريع المعاصر.

يوفر الكتاب إمكانات مهمة في البحث الفقهي بإعادة طرح أدوات التعزير والسياسة الشرعية، وللدراسات القانونية في فهم تراث قوانين العقوبات والدراسات الفكرية حول تطور مفهوم الشريعة.

ينجح الكتاب في الدفاع عن أطروحة الاستمرارية ويفتح الباب لمراجعة واسعة لصلات الفقه بالدولة ومسارات التحديث، مسلطًا الضوء على مركزية قضية القتل كمثال تطبيقي يكشف تفاعل الفقه مع القانون تنافسا وتلاقحا.

خاتمة

يبرز الكتاب أن القوانين الحديثة صيغت عبر تفاوض وتفاعل بين ممثلين استعماريين ونخب محلية متجذّرة في الفقه، كما يدعو إلى إعادة تعريف الشريعة من منظور يعتبرها منظومة قانونية وأخلاقية شاملة لا تختزل في اختيارات تقليدية منعزلة عن سياقاتها الواقعية.

يمثل كتاب “استمرارية الشريعة: تطور الفقه الجنائي في القرن التاسع عشر” جسرا معرفيا يربط الماضي بالحاضر، ويمنح الباحث في القانون والشريعة أدوات تحليل دقيقة لفهم آليات التحول في الفقه الجنائي، ويعيد الاعتبار لدور الشريعة في تشكيل نظام العقوبات الحديث في الدول الإسلامية.