مراعاة مآلات الأقوال الأفعال أصل معتبر شرعا، ودليله من الكتاب والسنّة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمۗ﴾ [الأنعام: 108]. وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: “إنّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه”. قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: “يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسبّ أمه” [متفق عليه]. ومثل ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي ﷺ من عندي وهو قرير العين، طيب النفس، فرجع إلي وهو حزين، فقلت له، فقال: إني دخلت الكعبة، ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي”. [الترمذي وقال: حسن صحيح].
وقد أحسن الإمام الشاطبيّ القول في هذا السياق- عند كلامه عن حديث افتراق الأمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة؛ في ترك النبي ﷺ تصنيفها وتسميتها، والصحابة لم يسألوا النبيَّ ﷺ عن بيانها لهم، ولم يهتموا بذلك ولم يحرصوا عليه، قال -الشاطبي-: (ومن هذا يُعلم أنّه ليس كلّ ما يُعلم مما هو حقٌّ يُطلب نشرُهُ وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علمًا بالأحكام، بل ذلك ينقسم؛ فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص)([1]).
وفي موضع آخر ذكر ضابط ما يُبلغ وما ينشر، وهذا الضابط مسلك منهجي فيما ينشر من العلم وما لا ينشر، فقال: (وضابطه، أنّك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحّت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يُؤدّ ذكرها إلى مفسدة، فاعرِضْها في ذهنك على العقول، فإن قبِلَتها فلك أن تتكلّم فيها، إمّا على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإمّا على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية)([2]).
فتحصل من هذا الضابط أربعة مقدمات منهجية:
أولا– صحة المسألة في ميزان الشرع.
ثانيا– النظر في المآل قبل التحدث بها، والتحقق فيما تفضي إليه من المفسدة أو المصلحة.
ثالثا– عند أمن الفتنة تختبر المسألة بالعقل، هل هي من مسائل الخاصة أو من مسائل العامة، والنشر يكون بحسب الحال.
رابعا– السكوت في حال توقع الضرر وحصول الفتنة والشر.
وفي السياق نفسه قال الإمام ابن تيمية: (… إنّ في المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أوّل الأمر عن الأمر بأشياء، والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر)([3]).
وانظر مثالا من واقع الصحابة الكرام كيف كانوا يراعون الواقع وأحوال الناس وأصنافهم، ولا يغفلون عنها، ولا يتجاوزنها غير مبالين للمآلات والعواقب، ومن ذلك ما ثبت عن شقيق أبي وائل قال: كان عبدالله – ابن مسعود- يذكّرنا كلّ يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إنّا نحبّ حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنّك حدّثتنا كلّ يوم. فقال: ما يمنعني أن أحدّثكم إلا كراهية أن أُملَّكم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا(1).
وكذلك ثبت عن ابن عباس قال: كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجّة حجّها، إذ رجع إليّ عبد الرحمن، فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر، ثم قال: “إنّـي إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإنّ الموسم يجمع رَعاعَ([4]) الناس وغوغاءَهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مطيّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكّنا، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما والله -إن شاء الله-لأقومنّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة)([5]).
وإنّنا نجد هذا المنهج متمثلا تنظيرًا وعملًا عند السلف من المحدّثين وغيرهم، فهذا الإمام البخاريّ ذكر في صحيحه قاعدتين من هذا المنهج تحت بابين. (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدّ منه). ثم أخرج بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي ﷺ: “يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم – قال ابن الزبير بكفر- لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس وباب يخرجون”. ففعله ابن الزبير([6]).
قال الحافظ ابن حجر معلّقا: قوله: “باب من ترك بعض الاختيار” (أي فعل الشيء المختار والإعلام به)([7]). ثم ذكر- البخاري- بعده بابًا آخر في معنى الأوّل: قال: (باب من خصّ بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا). ثم أخرج عن عليّ رضي الله عنه قوله: (حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله؟)([8]). وأخرج بعده عن أنس بن مالك أنّ النبي ﷺ ومعاذ رديفه على الرحل قال: “يا معاذ بن جبل” قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: “يا معاذ”. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا. قال: “ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله صدقًا من قلبه إلّا حرمه الله على النارّ. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذًا يتكلوا”. وأخبر بها معاذ عند موته تأثما. وأخرج الإمام مسلم- في هذا السياق- في مقدمة صحيحه عن ابن مسعود قال: (ما أنت بمحدث قومًا حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)([9]).
وعلّق الإمام ابن الصلاح على هذا فقال: (منْعُهُ من التبشير العام خوفًا من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم، فيغتـرّ ويتّكل، وأخبر به ﷺ على الخصوص مَن أمِن عليه الاغتـرار والاتكال من أهل المعرفة ، فإنّه أخبر به معاذاً، فسلك معاذ هذا المسلك فأخبر به من الخاصّة من رآه أهلاً لذلك)([10]).
وفي صحيح مسلم عن الصنابحيّ عن عبادة بن الصامت، أنّه قال: دخلت عليه وهو في الموت فبكيت فقال مهلًا لِمَ تبكي؟ فوالله لئن استشهدت لأشهدنّ لك، ولئن شفعت لأشفعنّ لك، ولئن استطعت لأنفعنّك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله ﷺ لكم فيه خير إلّا حدّثتكموه إلا حديثًا واحدًا، وسوف أحدّثُكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله ﷺ يقول: “من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله حرم الله عليه النار”([11]).
قال القاضي عياض في قوله: “ما من حديث لكم فيه خير إلا حدّثتكموه”: (دليل على أنّه كتم ما خشي عليهم المضي فيه والفتنة مما لا يحتمله كلّ أحدٍ، وذلك فيما ليس بحجّة عملٍ، ولا فيه حدٌّ من حدود الشريعة، ومثل هذا عن الصحابة كثير من ترك الحديث مما ليس بحجّة عمل ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحمله عقول الكافّة، أو خشيت مضرّته على قائله أو سامعه، لا سيما مما تعلّق بأخبار المنافقين، والإمارة وتعيين أقوام وصفوا بأوصاف غير مستحسنة وذم آخرين ولعنهم)([12]).
فكان لزاما بعد هذا الذي ذكرتُ أن يراعيَ الداعية أو المعلم وكلّ من يتصدّر المجالس للتعليم والإفتاء والخطابة مستوى المستمعين، ودرجة الإدراك لديهم، بل عليه أن يتفرّس في طبائع الحاضرين وأصناف المستفتين، فقد يكون بعضهم أهلَ فتنة وسوء، فيطير كلّ واحد بمقالته كلّ مطير، فلا يدري مبلغ ذلك في الناس وأثره في المجتمع، فكم من عالم سقطت مكانته وهيبته في قومه بسبب الرعاع السفلة، وبسبب عدم الانتباه لهذا الواقع.
وفي هذا السياق وجدنا علماءنا ينبّهون إلى ضرورة معرفة أحوال المستفتين، وما هم فيه من عادات وطبائع، فربّ أسئلة تصدر منهم ظاهرها العلم وباطنها الفتنة والمكر والشر.
ولقد أبدع الإمام ابن القيم رحمه الله في تقعيد هذا الأمر حين قال- متحدّثًا عن صفات المفتي-: (بل ينبغي له أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظنّ بهم، بل يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال الناس وأمورهم، يوازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم؟ فالغرّ ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها؛ فالأوّل يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود. وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق؟ وكم من حقّ يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس، ولكثرته وشهرته يستغنى عن الأمثلة. بل من تأمّل المقالات الباطلة والبدع كلها وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة وكسوها ألفاظًا بها من لم يعرف حقيقتها، ولقد أحسن القائل:
تقول هذا جناء النحل تمدحه وإن تشأ قلت: ذا قيء الزنابير
مدحًا وذمًّا وما جاوزت وصفهما والحقّ قد يعتريه سوء تعبير([13])
وبناء على ما سبق يتعيّن النظر فيما يدعو إليه الداعي، وما يبلغه من علم السنّة والشريعة، وكذا ضرورة التمييز بين أصناف المستمعين.
استطراد: تجنيب العوام الخوض في أحاديث الصفات
يتعين هذا المنهج في أبواب العقائد، فهناك قضايا منها لا يصلح بثها ونشرها في العوام، ولا ينبغي التحدث بها على العموم، لأن ما كان حقه أن يذاع على الخصوص فلا يبث إلا على الخصوص، وقد جرى السلف على هذا المنهج لما علموا من أحوال الناس وقدراتهم على الاستيعاب. ومن ذلك:
ما رواه عبد الرحمن بن القاسم قال: سألت مالكا عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: إن الله خلق آدم على صورته، فأنكر ذلك مالك إنكارا شديدا، ونهى أن يتحدث به أحد، فقيل له: إن ناسا من أهل العلم يتحدثون به؟ فقال: من هم، فقيل: محمد بن عجلان، عن أبي الزناد، فقال: لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء، ولم يكن عالما، وذكر أبو الزناد فقال: إنه لم يزل عاملا لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهم([14]).
(… وسئل مالك عن الحديث الذي يذكره الناس عن النبيّ عليه السلام في سعد بن معاذ، فأنكره وقال: إنـي أنهاك أن تقوله، وما يدعو أمرا أن يتكلم بهذا، ولا يدري ما فيه من التغرير. وقال مالك: حدثني يحيى بن سعيد قال: لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما نزلوا الأرض قبلها. قال محمد بن رشد: إنما نهى مالك أن يتحدّث بهذا الحديث وهو ما روي أن العرش اهتز لسعد بن معاذ ويتكلّم به، مخافة أن يشيع في الناس فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها، لظنهم أنّ العرش إذا اهتز أي تحرّك، تحرك الله بتحركه، كالجالس منا على كرسيه إذا تحرّك الكرسي تحرك هو بتحركه)([15]).
وقال المروذي: (سألت أبا عبد الله – أحمد بن حنبل- عن شيء من أمر العدل. فقال: لا تسأل عن هذا فإنك لا تدركه)([16]).
وقال الحافظ ابن حجر: (وممن كره التحديث ببعضٍ دون بعض: أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على الأمير، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب؛ ومن قبلهم أبو هريرة كما روى عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، … وضابط ذلك: أن يكون ظاهر الحديث يقوِّي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد؛ فالإمساك عنه عند مَنْ يُخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوبٌ” انتهى.
قال الخطيب البغدادي: (ويتجنب المحدث في أماليه رواية ما لا تحتمله عقول العوام لما لا يؤمن عليهم فيه من دخول الخطأ والأوهام، وأن يشبهوا الله تعالى بخلقه ويلحقوا به ما يستحيل في وصفه، وذلك نحو أحاديث الصفات التي ظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم وإثبات الجوارح والأعضاء للأزلي القديم، وإن كانت الأحاديث صحاحا ولها في التأويل طرق ووجوه إلا أن من حقها أن لا تروى إلا لأهلها خوفا من أن يضل بها من جهل معانيها، فيحملها على ظاهرها أو يستنكرها فيردها ويكذب رواتها ونقلتها)([17]).
استطراد: أنبه إلى أمر مهم تعقيبا على من فهم أن الإمام مالكا كان يكره الحديث في الصفات -مطلقا- مخافة الفتنة لأنها من المتشابه، أو هي مشكلة عنده، وهذا غير صحيح البتة، ويرد عليه أن ذلك في أحاديث مخصوصة في بيئة مخصوصة، بدليل روايته لأحاديث الصفات في الموطأ، ولو كان منهجه السكون والامتناع عن هذا الصنف من الأحاديث لما رواها وأخرجها في أعلى درجات الصحة. ومن ذلم ما رواه من حديث عمر بن الحكم – وقيل معاوية بن الحكم-، أنه قال: أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله إن جارية لي كانت ترعى غنما لي، فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم، فسألتها عنها، فقالت: أكلها الذئب. فأسفت عليها، وكنت من بني آدم فلطمت وجهها وعلي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله ﷺ: «أين الله؟» فقالت: في السماء. فقال: «من أنا؟» فقالت: أنت رسول الله فقال رسول الله ﷺ: «أعتقها»([18]).
فيبقى أن نقول إن المنع إنما هو حيث يخشى سوء الفهم أو عدم الاستيعاب لانتشار الجهل في الناس، وقلة الوعي بالدين، وضعف التدين، ونحو هذا. والله أعلم.
تنزيل PDF