صخب الحياة لا يمنح قلب الإنسان الفرصة ليرى الكون والملكوت، ولا يُمكنه من طرح الأسئلة الوجودية على نفسه، فالإنسان لم يعد ينظر للسماء إلا قليلا، فالأبراج العالية حجبت المشاهدة، وشاشات الهواتف المحمول العاتية منعت الرؤية، وانشغالات الحياة العصرية، حالت دون اختلاء الإنسان بنفسه.
والحقيقة أن العزلة كما يقولون “ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشدد عزائمها”(1)، ففيها لا ينمو إلا ما حمله الإنسان في قلبه من حكمة ومعرفة وقلق وتساؤل، فالقلب مفتاح السكينة، وباب الولوج إلى عالم المعاني.
تشير الأبحاث الطبية الحديثة أن في القلب خلايا للتعقل تفوق خلايا الدماغ، ومهمتها التفكير في القضايا الكبرى خاصة ما يتعلق بالاعتقاد، والعجيب أن عمليات التحنيط القديمة عند الفراعنة كانت تتخلص من المخ، وتحتفظ بالقلب.
اكسر القفل
القلب يحتاج أن يتعلم التفكير، وأن ينفتح على هذا الملكوت الواسع، وتلك الفضاءات العظيمة، ولا يتأتي ذلك إلا من خلال التأمل الواعي، لذا كان “أبو حامد الغزالي” يرفض تعطيل الوظيفة الإداركية للقلب، ويقول:”وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم”، فالكون مكتنز بالأسرار والمعارف التي لا تنفتح إلا عندما يزولُ الحجابُ عن القلب، لذلك نصح بعص العارفين بكسر أقفال القلوب، فالقلب المضيء يبدد الظلمات، وفقدان تلك مفاتيح كارثة إنسانية، فللقلب بصيرة وعقل، وهما يحتاجان إلى رعاية، وصدأ القلب أن تتوقف وظيفته الإدراكية.
في حياتنا ..الإنسان إذا تخصص في أحد فروع العلم الدقيقة، فإنه يبذل جهدا كبيرا حتى يتحصل على المعرفة، ويُلم بجوانب الموضوع، ويفني في ذلك السنوات الطوال، ويذهب من نور بصره الكثير، ولكن لماذا عندما يتعلق الأمر بتحصيل البصيرة القادرة على مشاهدة الملكوت والكون والاطلاع على أسراره فإن جهد الإنسان يتبخر، ويظن أن البصيرة لا تحتاج إلا القليل من الوقت، ويتوهم أن نور البصيرة ما هو إلا ضربة حظ أو “ساعة رضا” ثم تنفتح أمامه جميع الأسرار.
في كتابه “الله والإنسان” يشير “أحمد القبانجي” إلى قدرة القلب على الرؤية الكونية، فيقول:”العشق الإلهي لا يأتي فجأة أو يحلُّ في قلب الإنسان اعتباطاً، لأن عالم الملكوت والمعنويات يختلف عن عالم الملك والدنيا، فهنا قد يأتي الرزق للإنسان دون أن يحّرك ساكناً، وقد يكدح شخصٌ في طلب الرزق ولا يناله، أما في عالم المعنويات فيختلف الحال، فعلى قدر سعي الإنسان يأتيه رزقه المعنوي”، فالإنسان يُحصل سعيه، كما قال تعالى في سورة “النجم” :{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } (النجم: 39- 40).
فهم الإشارات
الإنسان الذي لا يفهم الإشارات التي تنهال عليه من الكون، لن تؤثر فيه العبارات، ولابد لهذا الإنسان أن يكون قادرا على فك شفرة الحياة، لذلك كان بعض العارفين يقول:” ما جفَّ قلمُ عالِمٍ يستمدّ من بحر الحقائق”، فكلما استمد الإنسان من مداد الملكوت، لا تنتهي أشواقه، ولا تنام بصيرته، جاء في كتاب “المواقف والمخاطبات” لـ”محمد بن عبد الجبار النفري” مقولة بليغة عميقة، هي: “يا عَبْدُ قيمة كل امرئ حديث قلبه”، فحديث القلب ورؤيته، وتساؤلاته وحاجته إلى اليقين، وسعيه لتحصيله، هي قيمة الإنسان، وفي حديث “مسلم” :” إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ “، فالقلب محل الرؤية الإلهية، وكان الأديب “نجيب محفوظ” يقول: ” القلب يعرف أكثر مما يتصور العقل” .
منح القلب القدرة على الرؤية والتأمل والانفتاح على الملكوت ليس عملية سهلة، فهو مسار طويل تحتل فيه المجاهدة مكانها، لذلك كان “طاغور” شاعر الهند يقول: “لا يمكنك عبور البحر بمجرد الوقوف والتحديق في الماء”، والغريب أننا قد نبدي إعجابنا لمخترع كرر تجربته آلاف المرات حتى وصل إلى نتيجته المرجوة، مثل البريطاني ” جيمس دايسون ” الذي بنى خمسة آلاف نموذج على مدار أكثر من عشر سنوات قبل أن يصل إلى ابتكار المكنسة الكهربائية المنزلية، لكننا نصاب باليأس مع أول محاولة لاستكشاف الملكوت والكون، وكسر جمود القلب.
يجب أن يغير الإنسان موقعه في الكون ليرى جيدا تلك الآفاق الرحبة، فقد تكون العزلة مدخلا للرؤية، وقد يكون الخروج للصحراء أو ركوب البحر أو الذهاب للريف مفتاحا للقلب ينظر منه إلى الكون، لذا كان العارفين يقولون: “أغمض عينيك لترى”، فالحقيقة ليست محطة وصول… ولكنها بحث دائم، والوصول إلى معاني الروح مجاهدة طويلة يخطيء فيها الإنسان كثيرا، لكن عندما يصيب، فإنه يتذوق شيئا لا يستطيع أن ينساه أبدا، لذلك كان يُقال “أفضل العمل التفكر والاعتبار”.
القرآن الكريم فيه أكثر من (1300) آية تتحدث عن الكون..كلها تريد أن ترتفع بالإنسان لمشاهدة الكون والانطلاق لعالم الملكوت…العالم الذي لا تدركه أدوات العقل….وحواس الجسد..
“وقال لي اخرج إلى البرية الفارغة، واقعد وحدك، حتى أراك، فإني إذا رأيتك، عرجت بك من الأرض إلى السماء، ولم أحتجب عنك”
– محمد بن عبد الجبار النفري
ولا يبصر تلك الأمور إلا من داوم على كسر جدران قلبه لينفذ إليها النور والإشراق، فلا يعرف معنى الحياة إلا من كابد نيران اللهب، وإبصار الملكوت مكابدة، ورحلة مليئة بالإصرار والمعاناة، فلاعبي كمال الأجسام لا تتكون العضلات المفتولة، إلا بعد تغذية وتدريب شاق مدروس وطويل، والسؤال كم تحتاج عضلات الروح حتى يصير الإنسان متأملا وملكوتيا، فحجاب القلب هو القلب نفسه “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
حقا… كيف يهدأ من اشتعلت النار في ثيابه…فما بالك بمن اشتعلت النار بين أضلاعه وجوانحه، إن الكثير لا يريد إلا أن يرى الكون المادي، رغم أنه كون فسيح مليء بالحقائق والعجائب، وكان بعض العارفين يقول: :الطريق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق”، فإذا نظرنا إلى عدد الخلائق لأدركنا حجم العظمة، فعدد الأنواع الحية على سطح الأرض (8.7) مليون نوع منها (6.5) مليون نوع من الأحياء البرية و(2.2) مليون نوع من الأحياء البحرية، و(86%) من الأنواع البرية ما زالت غير مكتشفة و(91%) من الأحياء البحرية مازالت مختبئة في أعماق البحار والمحيطات، والإنسان الذي يزيد تعداده عن ثمانية مليارات نسمة لا يشكل إلا عدد واحد من تلك الأحياء التي نتقاسم معها الكوكب.
ورغم ذلك فالإنسان لم يكتشف نفسه بعد… يهرب منها..ويخشى الجلوس معها..وإذا أرغم أن يراها شاخصة أمامه فالبعض يقرر مغادرة العالم منتحرا..وهؤلاء كما تشير آخر الإحصاءات ليسوا قلة بل يزيد عددهم عن ثمانمائة ألف منتحر سنويا، ومنكوبي مجاعات الروح لا يقلون عن منكوبي مجاعات الطعام، لكننا لا نفطن إلا للمادة حتى في ضحاياها.