يجتهد العلم في فهم وتفسير موت المخلوقات، ويراه فناءا نهائيا، فالكائنات تتحلل، وتنشأ منها حيوات جديدة، ولكن هل يستطيع العلم أن ينظر إلى موت الإنسان بنفس الطريقة، فيُساوى بين الإنسان والبهائم في مصيرها المتلاشي، فأرحام تدفع، وأرض تبلع، وما بينهما حياة صاخبة بلا معنى ولا غاية في الخلود والأبدية؟!

الآخرة سؤال تأسيسي، وشطبها من معرفة الإنسان ما هو إلا نفي لأهم حقيقة في الوجود، وترسيخ لفساد واسع في الحياة، والإجابة عن السؤال يحل لغز الموت، فإسقاط النهايات من حسابات الإنسان هدر للمستقبل، والآخرة هي نهاية النهايات، وإغفالها تبديد لأهم مستقبل للإنسان، فالإيمان العميق بالآخرة يُغير الإدارك للحياة والموت، إذ تصبح الحياة مزرعة يجتهد فيها الإنسان ليغرس ما ينفعه في مصيره القادم، ويصير الموت سبيلا للوصول إلى تلك الأبدية، ونهاية للمعاناة والشقاء.

عندما يدفن سؤال الآخرة

كان أبو حامد الغزالي في كتابه “كيمياء السعادة” يقول:” القلب مخلوق لعمل الآخرة طلبا لسعادته”، وتحدث “ديستوفسكي” في رائعته “الأخوة كارمازوف” عن غياب سؤال الآخرة قائلا:”هل فكرتم في العدد المروع من الشباب الذين ينتحرون في بلادنا؟ إنهم يقتلون أنفسهم بلا كلام، دون يتسائلوا عما سيصيرون إليه بعد الموت….لكأن مشكلة النفس الإنسانية والمصير الذي ينتظرنا في الحياة الآخرة أصبحت غريبة عن عقولهم، قد نسوا ودفنوا هذا النوع من الاهتمامات والتساؤلات منذ زمن طويل”، والحقيقة أن دفن سؤال الآخرة كارثي على مستوى المعرفة والحياة والمصير، لذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي” الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت” فالعمل للآخرة من أرقى درجات العقل، وأعمق أنواع المعرفة، لذا كان عالم الرياضيات المسلم “جيفري لانج” Jeffrey Lang، يرى أن:” تطورنا الروحي الأخلاقي في هذه الحياة مرتبط بشكل وثيق بوضعنا في الآخرة” فعندما يُوجد الإيمان بالآخرة، فإنه يتحول إلى حركة ومعرفة في الحياة الدنيا تؤثر النفع وتنثر الخير، وتبحث عن السعادة الحقيقية.

كان الفيلسوف “سقراط” يرى أن الإنسان عندما يقترب من مفارقة الحياة يُلح عليه سؤال الآخرة، فيقول:” إننا نقترب من الحقيقة كلما أشرفنا على مفارقة الحياة.. إن الرجل الحكيم يبحث عن الموت طوال حياته، ولذا فالموت لا يفزعه”، وجاء في تفسير “الظلال” في سورة الروم في قوله تعالى “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”[1] أن “الغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل; وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم; فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا، ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا؛ لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض”، ومن ثم فالإيمان بالآخرة قضية معرفية كبيرة وليست شيئا عابرا في حياة الإنسان.

رحلة إلى الآخرة

اقتراب الإنسان من حافة الموت ومعايشته لسؤال ما بعد الموت، يطرح قضية الاخرة في ذهنه، ونشير هنا إلى تجربة ملهمة لطبيب المخ والعصاب ” إبين ألكساندر” Eben Alexander الذي أمضى خمسة وعشرين من عمر جراحا للأعصاب، ومحاضرا أكاديميا مرموقا في الولايات المتحدة، وتعامل مع أشخاص اقتربوا من الموت وتعرضوا لغيبوبة، ثم عادوا إلى الحياة، لكن “ألكساندر” كان مقبلا على الحياة بكل ما أوتي من قوة، ورغم معاينة لحالات الغيبوبة للمرضى أثناء عمله، إلا أن سؤال الآخرة لم يكن مطروحا عنده مطلقا، وشعر أنه غير معني بالأمر، لكن مع فجر العاشر من نوفمبر 2008م تغيرت الأمور، فقد تعرض هو لغيبوبة، ووضع تحت أجهزة التنفس، ليستيقظ بعد فترة من رحلة عميقة أثرت في وعيه وتساؤلاته، فأخذ يطرح سؤال الآخرة، وأخذ يكتب عن رحلته، وأصدر كتبا مهمة في هذا الشأن، منها: “خريطة السماء: كيف يثبت العلم والدين والناس العاديون الآخرة”[2].

الآخـرة كبعد معرفــي
“خريطة السماء: كيف يثبت العلم والدين والناس العاديون الآخرة”

وفي هذا الكتاب يحاول من خلال تجارب روحية عميقة له ولأشخاص آخرين أن يؤكد أن هناك المزيد في الحياة والكون أكثر من هذه الحياة الأرضية الواحدة، فهناك حياة أخرى بعد الموت لمسها هؤلاء وأدركوها، لذا فهو يقدم الجنة في كتابه كمكان حقيقي، وربما هذا الطرح تسبب في صدمة للفكر المادي، أما كتابه الآخر “إثبات الجنة: رحلة جراح الأعصاب إلى الآخرة”[3] فيؤكد فيه أن الصحة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا عندما ندرك أن الله والروح حقيقيان، وأن الموت ليس نهاية الوجود الشخصي؛ ولكنه مجرد انتقال لحياة أخرى.

وفي كتاب “الآخرة، الحقيقة الكاملة: الحياة بعد الموت “[4] تاليف ستيفن مارتن Stephen Martin ، وهو كتاب من جزأين، يؤكد أن هناك حياة أخرى بعد الموت، وهناك جنة وجحيم، فموت الجسد يُطلق الوعي لعالم عقلي حقيقي، يلجأ الكتاب إلى العلم والفلسفة لإثبات الآخرة واستمرار الحياة بعد الموت، وبرأيه أن الوعي البشري خالد لا يفنى، ولذا فهناك حياة أخرى يتحقق فيها هذا الوعي.

الآخـرة كبعد معرفــي
كتاب “الآخرة، الحقيقة الكاملة: الحياة بعد الموت ”

أما كتاب “وعي ما بعد الحياة”[5] الذي بيع منه أكثر من مليون وربع المليون نسخة، يقدم طبيب القلب “بيم فان لوميل” Pim van Lommel، الذي أمضى عشرين عاما في أبحاث الاقتراب من الموت، بحثًا رائدًا حول ما إذا كان الوعي الإنساني ينجو من موت الأجساد أم لا، وفي هذا الكتاب يتقاطع الإيمان والعلم للتفكير في سؤال الآخرة، فيؤكد الكتاب أن عند بوابات الموت يستمر الوعي البشري الكامل، ويرى “لوميل” أن تجارب الاقتراب من الموت هي تجارب حقيقية وليست مجرد نوع من الخلل الوظيفي في الدماغ، ويؤكد كذلك أن البشر شيء أكثر من مجرد أجساد مادية، فهناك حياة بعد الموت، وكان “لوميل” صدم المجتمع العلمي المادي في الغرب عام 2001، عندما نشر دراسة[6] عن تجارب الاقتراب من الموت في المجلة الطبية الشهيرة ” ذا لانسيت” The Lancet ، إذ كانت أول دراسة علمية دقيقة لهذه الظاهرة.

الآخـرة كبعد معرفــي
كتاب “وعي ما بعد الحياة”

وفي كتاب “الله والآخرة”[7] تاليف الدكتور جيفري لونج  Jeffrey Long فهو أكبر دراسة ميدانية عن تجربة الاقتراب من الموت شملت ثلاثة آلاف شخص من خلفيات مختلفة، ويقدم الكتاب أدلة من تلك التجارب على وجود حياة أخرى بعد تلك الحياة، إذ تتشارك الروايات على وجود خالق لهذا الكون، ووجود حياة أخرى بعد الموت، والكتاب اكتشاف علمي مذهل عن الآخرة، وليس حديثا فلسفيا، وفي كتاب “مستقر الرحلة: ما تجارب الاقتراب من الموت والتصوف التي تعلمناها عن معنى الحياة والمعيشة”[8] لـ”فيليب بيرمان” Phillip L. Berman  فيورد تجارب للاقتراب من الموت، ويؤكد أن وجود الآخرة يمكن أن يأخذ حياتنا إلى منحى جديد استنادا إلى عشرات المقابلات التي أجراها مع أشخاص اقتربوا من الموت، وخلص أن رؤيتهم للآخرة تعد تجربة حقيقية وليست مشاعر صوفية.

ولعل من أروع ما تكلم عن أهمية الآخرة كبعد معرفي، ما جاء في تفسير “في ظلال القرآن” من أن:”الإيمان بالحياة الآخرة نعمة..نعمة يفيضها الإيمان على القلب..نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني المحدود الأجل الواسع الأمل، وما يُغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة؛ فالإيمان بالآخرة – فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق وجزائه الأوفى- هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض، إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق الذي لا يعلم إلا الله مداه، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صُعُداً إلى جوار الله”.


[1] سورة الروم: الآية: 7

[2] العنوان الكامل للكتاب The Map of Heaven: How Science, Religion, and Ordinary People Are Proving the Afterlife

[3] Proof of Heaven: A Neurosurgeon’s Journey into the Afterlife 

[4] Afterlife, The Whole Truth: Life After Death

[5] Consciousness Beyond Life: The Science of the Near-Death Experience

[6] نص دراسة “لوميل” عام 2001

[7] God and the Afterlife: The Groundbreaking New Evidence for God and Near-Death Experience

[8] The Journey Home: What Near-Death Experiences and Mysticism Teach Us about the Meaning of Life and Living