تعددت جوانب التميز والتجديد عند الشيخ محمد الغزالي رحمه الله (22 سبتمبر 1917م- 9 مارس 1996م)، بما جعله محط عناية واهتمام من الباحثين، لاسيما في الدراسات الأكاديمة، في مختلف التخصصات.

وقد حظيت الجوانب الدعوية والقرآنية والفقهية والحديثية وغيرها عند الشيخ الغزالي باهتمام كبير، وبعضها عرف طريقه للنشر العام لعموم القراء.. لكن جانبًا مهمًّا تمت دراسته عند الشيخ، لم تسلط عليه الأضواء من قبل، إلا في حدود ضيقه، وهو الجانب التربوي.. ولهذا رأيت أن أستعرض رسالة الماجستير التي تناولت هذا الجانب، رغم أنها نوقشت منذ ربع قرن، وتحديدًا في عام 1998م!

وأما الرسالة فهي (الآراء التربوية في كتابات الشيخ محمد الغزالي)، للباحث عبد رب الرسول سليمان، بكلية التربية جامعة الأزهر، بإشراف أ.د. عبد البديع عبد العزيز الخولي.. وقد أصبح الباحث الآن أستاذًا مساعدًا بكلية التربية.

العلم عنده له مفهوم واسع، يشمل كل المعارف والثقافات

وجاءت الرسالة في ستة فصول، خُتمت بالنتائج والتوصيات، وتناولت حياة الشيخ والعوامل المؤثرة في تكوينه، ومعالم فكره العام، وجوانبه الإصلاحية والتجديدية، إضافة إلى صلب الموضوع وهو معالم فكره التربوي، ورؤيته للتعليم الديني والمدني.

من أبرز دعاة القرن العشرين

أوضح الباحث أن الشيخ الغزالي من أبرز دعاة القرن العشرين، وله خطب وأحاديث عديدة، ومؤلفات تربو على الخمسين كتابًا، تضمنت جميعها آراءً تربوية مهمة؛ تتصل بنظرته إلى أهمية تربية المسلم تربية شاملة متحررة من الضعف والخرافات.. وتتصل أيضًا برؤيته للطبيعة الإنسانية بجميع مكوناتها من العقل والروح والقلب والجسم.

حيث نظر الغزالي، كما يبين الباحث، إلى الطبيعة الإنسانية على أنها كلّ متكامل، والعلاقة بين مكوناتها متداخلة، لا انفصال فيها بين ما هو جسمی أو عقلي أو روحی.

وأشار الباحث إلى أن الغزالي تناول المعرفة، وطرقها ووسائلها، وأهمية العقل في تحصيلها.. بجانب اهتمام الشيخ بالتربية الأخلاقية، وذلك بهدف تربية الشخصية المسلمة تربية أخلاقية طبقًا لما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية.

التربية عند الغزالي

وبيّن الباحث أن الغزالي ركّز عند حديثه عن مفهوم التربية وأهدافها، على الجانب الديني؛ فهي عنده تعنى تزكية النفس، وتغيير السلوك إلى الأفضل.. وهو يرى أن التربية والتعليم قرينان وليس ثمة فصل بينهما؛ لأن الإسلام يقوم على الأمرين معًا. وأوضحت الدراسة أن هذا المفهوم هو نفس ما قرره علماء التربية المسلمون في هذا الصدد.

التربية عند الغزالي مستوحاة من كتاب الله وسنة رسوله

وقد نادي الغزالي بعديد من أهداف التربية، واتضح للباحث أن كل هدف من هذه الأهداف يشكل جانبًا من جوانب التربية.. وهي، أي الأهداف، تتكامل في نهاية الأمر لبناء الشخصية المسلمة من كافة جوانبها، في إطار الهدف الأسمى للتربية الإسلامية وهو عبادة الله سبحانه وتعالى.

مفهوم العلم ومصادره

وأضاف الباحث: الشيخ الغزالي أكد أهمية العلم، ويقصد به العلمَ النافع. والعلم عنده له مفهومه الواسع، فهو يشمل كل المعارف والثقافات، حيث دعا إلى موسوعية الثقافة، ولم يحصر برنامجه في دائرة العلوم الشرعية، بل جعله مفتوحًا لكل ألوان المعرفة.. ويرى أن المسلم يجب عليه أن يتعلم ما يفيده في دينه ودنياه. وأكد أحقية كل مواطن في الحصول على قسط من التعليم حسب مؤهلاته وقدراته، من منطلق أن التعليم في الإسلام حق للجميع بلا تفرقة. ويرى أن العلم هو سبيل التقدم، ونهضة المسلمين تقوم على العلم الديني والدنيوي.

وبيّن الباحث أن مصادر العلم لدى الغزالي متعددة، تتمثل في الوحی كمصدر أول للمعرفة، ثم الكون، والعقل، والحواس، والملاحظة والتجربة والاستقراء. ويستبعد من هذه المصادر الكشف والحدس والرؤی والإلهامات مما قال به المتصوفة.

آداب العلم

وفي حديث الغزالي عن آداب العلم نجده، كما بيّن الباحث، يحرص في كثير من كتاباته على أن يصحح طالبُ العلم الشرعي نيته ويتحرى بعلمه وجه الله والدار الآخرة، ولا يتطلع إلى المآرب الدنيوية الرخيصة.. وشجع طالبَ العلم على العمل به، وأرشد طلابَ العلم الديني إلى تصحيحِ أعمالهم الظاهرة والباطنة، والاستمرارِ في طلب العلم والاجتهاد في تحصيله، وأن الإنسان مهما بلغ من درجات العلم، فهو بحاجة إلى طلب المزيد.

ودعا الغزالی الشباب إلى توقیر علماء الأمة وعدم التطاول عليهم، ووجه طالب العلم إلى أن يأخذ العلم من العلماء الثقات المتخصصين، منبِّهًا على خطورة داء الحسد والحقد، واعتبره آفة من الآفات التي يجب أن يبتعد عنها علماء الدين. ونصح عالمَ الدين بألا يخالف قوله فعله.

تعليم المرأة

وكان الغزالي، بحسب الباحث، أحد دعاة تعليم المرأة المسلمة؛ فقد أكد أحقيتها في طلب العلم، وتحمس لتربيتها وتعليمها، وحذر من خطورة تجهيل المرأة. ودعا إلى الفصل بين الذكور والإناث فى التعليم.

أكد أحقية المرأة في طلب العلم، وحذر من خطورة تجهيلها

وتنبه الغزالي إلى خطورة دور المرأة فى النهوض والتحرير، وأهميتها في التربية والبناء الثقافي، حتى تقوم بوظيفتها في المجتمع.. وأبرزَ وجهة نظر الإسلام في ذلك الشان معتمدًا على نصوص القرآن والسنة.

التربية الأخلاقية

كما كان للشيخ الغزالي اهتمام واضح وكبير بالأخلاق والتربية الأخلاقية، وقد بدا هذا الاهتمام في عنايته بتربية الشخصية المسلمة على العديد من القيم الأخلاقية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مستهدفًا إرساء الأخلاق الإسلامية في شتى مجالات الحياة.

وأوضحت الدراسة وجهة نظر الشيخ الغزالي في تربية المتصوفة؛ حيث دعا إلى توجيهها وجهة صحيحة وفق الكتاب والسنة.

كما اهتم الغزالي بالتعليم الرسمي المتمثل في التعليم العام الحكومي، وانتقد محتوى التعليم المدني وخصوصًا بعض المواد مثل: الدين الإسلامي، واللغة العربية، والتاريخ الإسلامی.. وطالب بتدريس الدين الإسلامي في جميع مراحل التعليم، وأن يكون مادة أساسية في جميع المدارس.

وبالنسبة للتعليم في مدارس اللغات، فقد بينت الدراسة خطورة التعليم الذي يقدَّم في هذه المدارس، حسبما أشار إلى ذلك الشيخ الغزالي.

من نتائج الدراسة

 ومن خلال استعراض الباحث للآراء التربوية للشيخ الغزالي، توصل إلى عدة نتائج؛ منها:

1- التربية لدى الغزالي تربية شاملة متكاملة، لا تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية المتعلم؛ فهي تربية للجسم والروح والعقل معًا.. ولا تقتصر أيضًا على مكان دون آخر؛ فهي في المسجد وغيره.

2- غاية ما يهدف إليه الغزالي من التربية هو تربية إنسان مسلم عابد الله عز وجل خاضع له في جميع شئون حياته ممتثلاً لأوامر الله مجتنبًا لنواهيه، متحررًا من التقليد والجمود الفكري.. إنسان متحرر من الذل والخوف لا يخشى إلا الله. وكان يستهدف كذلك ربطَ الأجيال المسلمة بالتراث والحضارة الإسلامية، وإحداثَ التغيير الداخلي في الفرد المسلم، وكان يرى أن الاعتزاز بالنفس وبالإيمان والقرآن من أهم الجوانب التي يجب أن يركز عليها المربون، ويحرصوا على غرسها في نفس كل مسلم، والدعاة أو طلاب العلم الديني على وجه الخصوص.

3- أدرك الغزالي أهمية مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، وضرورة التعامل معهم وفق استعدادهم وقدراتهم العقلية والفكرية. ومن أفكاره الدقيقة في هذا الصدد تفرقته الواضحة بين درجة التخصص ودرجة الثقافة العامة؛ فالمتخصص يلم بمعارف شتى في فنه ويعيبه أن يجهل ناحية ما في ميدانه، أما أصحاب الثقافة العامة فيرى أنهم يكفيهم ما يحتاجون إليه في بيئاتهم وأحوالهم، ولا يفيدهم ملء عقولهم بما لا أثر له في معايشهم.

4- دعا الغزالي إلى مراعاة الاختصاص، وإسناد الأمور إلى المتخصصين؛ فيُترك الفقه للفقيه، ويشتغل كل من الطبيب والمهندس، مثلاً، باختصاصه.. لأنه يرى أن اشتغال غير المتخصصين بالفقه ينشئ فقهًا مبتورًا عن المقاصد التى تستهدفها الشريعة، فضلاً عما فيه من إهدار للكفاءات العلمية بوضعها في المكان غير المناسب.

دعا إلى أن تكون العلوم التربوية ضمن المقررات الدراسية للدعاة

5- التربية عند الغزالي هي التربية الإسلامية المستوحاة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي تعد السبيل الأمثل لإيجاد المجتمع الإسلامي ومجابهة التحديات.

6- يعكس الشيخ الغزالي في آرائه التربوية، حاجات مجتمعه وعصره، ويتفاعل معهما بإيجابية مؤثرة فعالة.

7- أخذ الغزالی علی عاتقه تربية المسلمين وتوجيهم بكل ما أتيح له من وسائل؛ فهو يربي بالقدوة، وبالقصة، وبالعبرة من أحداث التاريخ، وبالخطب والمحاضرات، وغير ذلك من أساليب التربية الإسلامية المستوحاة من الكتاب والسنة.

8- سَبَق الغزالي في الدعوة إلى الاهتمام بتدريس العلوم الحديثة في الأزهر والتوسع في دراستها، وإدراك حاجة الدعاة الماسة إليها.. فنادى بأن يدرس عالمُ الدين العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الدينية، لكي يتسنى لهم مقاومة تيارات الفكر الهدامة.

9- تنبه الغزالي إلى خطورة الازدواجية في التعليم، على مستقبل التعليم كله، ورأى أن بقاءها يخدم أغراض أعداء الإسلام.

10- دعا الغزالي إلى الاهتمام بإعداد الداعية إعدادًا جيدًا؛ علميًّا وتربويًّا ومهنيًّا وثقافيًّا؛ فالداعية هو حجر الزاوية في عملية الدعوة.. كما دعا إلى أن تكون العلوم التربوية ضمن المقررات التي يدرسها دعاة الإسلام، مؤكدًا بذلك “تربويةَ الداعية”.