من الدروس المستفادة من إقدام رسول الله على الامتناع عن شرب العسل وقسمه على ذلك الذي سماه الله سبحانه وتعالى ﴿ تَحْرِيمَا ﴾ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان شفيقًا رؤوفًا رحيمًا بكل الناس وبخاصة بأهل بيته وكان يحرص على سعادتهم وتطييب خواطرهم بكل الوسائل ما لم يكن هناك محظور شرعي ولما كانت القضية هنا تتعلق بأمر خاص برسول الله وميله إلى نوع من الشراب والامتناع منه لا يلحق ضررًا بأحد، فكان أن أقدم على هذا التحريم (الامتناع) تطييبًا لما لحق نفوس بعض أزواجه من الغيرة.

إلا أن الموازين الربانية في غاية الدقة والحساسية وخاصة في أقوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله وذلك للأسباب التالية:

أ – إن أقوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله وتقريراته تشريع للأمة فلو ترك هذا الأمر لأصبح تشريعًا للأمة من بعده، ولصار الناس يمتنعون عن المباحات أو يحرمونها على أنفسهم ابتغاء مرضاة بعضهم بعضًا، بل لاعتقد الناس أن ذاك تشريع يتعبدون الله به. فكان لابد من التوضيح والبيان وبيان المنهج في ذلك.

ب – إن مقام النبوة مقام عظيم، ولئن كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لشدة تواضعه وشفقته على الأمة عامة وعلى أهل بيته خاصة لا يبرز ذلك ولا يقف عنده فإن الله سبحانه وتعالى في أكثر من مقام لفت أنظار المسلمين إلى ذلك وطلب منهم التأدب مع رسول الله ومراعاة مكانته، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].

فالجرأة على مقام النبوة وعدم التأدب قد يكون سببًا في حبوط العمل وكما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المجادلة: 12].

ولئن كان تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول قد نسخ بالآية التي بعدها إلا أن بقاء تلاوتها في المصاحف يترك أثرًا تربويًا لما ينبغي أن يكون عليه الأمر فلا يقدم أحد على مناجاته إلا لأمر لا بد منه.

وكما في قوله تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا… ﴾ [النور: 63]

فلا ينادى باسمه المجرد يا محمد أو يا أبا القاسم، وإنما ينادى يا رسول الله يا نبي الله. وكثيرًا ما كان صحابته الأجلاء يفدونه بآبائهم وأمهاتهم قبل النطق بلقب الرسالة فيقولون فداك أبي وأمي يا رسول الله…

وكما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ… إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ… ﴾ [الأحزاب: 53].

حيث كان بعض الصحابة يجلس في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مستأنسًا بحديث رسول الله في وقت راحته، فجاء الأدب الرباني لهم.

والأمثلة كثيرة على تعليم الله سبحانه وتعالى للأمة لهذه الآداب مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومنها هذا الموضع الذي نحن بصدده فلئن كانت العشرة قد أزالت الحجب والحرج من النفوس فلا ينبغي أن تتجاوز حدود توقير مقام النبوة. لذا كان التنبيه شديدًا والوعيد مزلزلاً لأمهات المؤمنين كما سيأتي، عندما مالت قلوبهن إلى ما يكرهه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وعندما شعرن أنهن ظفرن بمكسب لمنع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من شرب العسل في بيت زينب بنت جحش وكان يسرّ بذلك ويستأنس به.

جـ – إن الإسلام قد أعطى الكلمة وزنًا وثقلاً، فكل كلمة يتفوه بها الإنسان ينبغي أن يعرف مكانها وما يترتب عليها.

ومن خلال حادثة التحريم، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قولاً لتطييب نفس بعض زوجاته ثم جاء التوجيه الرباني بالرجوع عن تلك الكلمة، فلا بد أن يكون الرجوع وفق أحكام الشرع الشريف أيضًا.

وسواء كانت مقالة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرجت على صيغة اليمين كما تدل بعض الروايات[1] أو خرجت على صيغة التأكيد فحسب، فقد شرع الله لهذه الأمة طريق العودة إلى ما هو الأفضل. ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224].

يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من حلف على شيء ثم رأى خيرًا منه فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير”[2].

هكذا التربية الربانية للنفس المؤمنة رغبة في الخير وميل مع الحق حيث مال، فهوى النفس تبع للحق وللخير. وتخلق بالتوجيه النبوي الكريم لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به.

فلا غرابة أن نجد النبي – صلى الله عليه وسلم – يكفر عن يمينه ويعمل ما كان قد حرم نفسه منه. ليعطي القدوة في المسارعة إلى رضوان الله سبحانه وتعالى والالتزام بشرائعه وتطبيق توجيهاته.

د – وقبل تجاوز الحديث عن الافتتاحية لا بد من التعرض لقضيتين: قضية اجتهاد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقضية العتاب على هذا الاجتهاد.

أما قضية اجتهاد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما لا نص فيه فأمر مسلّم به عند جمهور العلماء ثم يأتي الوحي فيسدّد إن كان هناك مجال للتسديد وإلا فسكوت الوحي عنه إقرار وتصويب، وعلى المؤمنين الأخذ به ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7] وفي هذه الواقعة كان اجتهاد بالامتناع عن مباح حلال جائز، ولا نقول كما ذهب بعض المفسرين إلى أنه حرّم ما أحلّ الله.

يقول الشيخ زاده في حاشيته على البيضاوي:

فإن قيل: ما وجه تحريم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا المراد بهذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع به مع اعتقاد كونه حلالاً له، لاعتقاد كونه حرامًا بعدما أحله الله تعالى… ولكنه يجوز أن يعد ذلك زلة يعاتب عليها لأن الامتناع عن الانتفاع بإحسان المولى الكريم يشبه رد قبول إحسانه ففيه شائبة سوء الأدب، فلذلك عاتبه الله على ذلك بالاستفهام الإنكاري ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾[3].

أقول مما يؤكد أن التحريم بمعنى الامتناع الشخصي عن تناول المباح وجود كلمة (لك) وبما أن حياة الأنبياء الخاصة والعامة منها يستمد التشريع للأمة فكان المتوقع أن يسرى هذا التحريم إلى الأمة ويكون تشريعًا لها لو لم ينزل الوحي بالبيان والتوضيح. وقد كان مثيل هذا في بني إسرائيل عندما حرم يعقوب عليه السلام على نفسه أكل لحوم الإبل وألبانها لمرض عرق النسا فيه، وكان امتناعه عن أكلها تطبيبًا لا تشريعًا، حرمت بنو إسرائيل لحومها على نفسها تشريعًا وديانة قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 93] وبما أن شرائع هذه الأمة مبنية على التيسير والسهولة وإزالة الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة. فلا غرو أن نجد الأمر الإلهي لنبيه – صلى الله عليه وسلم – بالعدول عن اجتهاده، والتكفير عن يمينه والاستمتاع بما أحله الله له.

والأمر الثاني: هل يستحق هذا الاجتهاد في الامتناع عن المباح هذا العتاب، وما الأمر المستوجب لهذا العتاب؟.

من خلال ما تقدم نستطيع أن نجمل دواعي العتاب فيما يلي:

أ – إن الامتناع عن الانتفاع بإحسان الكريم يشبه رد إحسانه وهذا إن كان يتجاوز عنه في حق عامة الناس، أما في حق الصفوة من عباد الله فلا يمر دون التنبيه والعتاب.

ب – إن الأمر وإن كان خاصا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فان احتمال سريان هذا الامتناع والتحريم إلى الأمة قائم. وهذا يتنافى مع ما بني عليه أمر التشريع لهذه الأمة من اليسر والسهولة وإباحة الطيبات وتحريم الخبائث.


[1] جاء في رواية عن الشعبي قال: حلف النبي – صلى الله عليه وسلم – بيمين مع التحريم فعاتبه الله في التحريم وجعل له كفارة اليمين. انظر الرواية في تفسير عبد الرزاق الصنعاني (2/301) ونسبه الماوردي إلى الحسن وقتادة. انظر تفسير الماوردي (4/261) تحقيق خضر محمد خضر الكويت.

[2] صحيح مسلم، كتاب الأيمان (5/85)، وقريب منها رواية البخاري في كتاب الأيمان والنذور (7/217)

[3] حاشية زاده على البيضاوي (4/510) ط المكتبة الإسلامية- ديار بكر- تركيا.