يمثل فصل الصيف، بما أنه يأتي في أعقاب نهاية عام دراسي، فرصةً للأسرة لتلتقط أنفاسها، وتعيد ترتيب أوراقها؛ وذلك حتى تستريح من عناء عام مضى، وتستعد لعام قادم يحمل معه أعباءه ومسئولياته. ويمكن ملاحظة أن هذه “الأوراق” التي ينبغي ترتيبها تتعدد لتشمل الصحة النفسية للأسرة، وجانب المهارات لدى الأبناء، إضافة إلى التنمية المعرفية، والتثقيف العام الحر الذي يتجاوز مقررات الدراسة المفروضة.
الراحة ليست ترفًا
بعد عام دراسي حافل بالبذل والعطاء والتعب والمشقة، من جانب الوالدين والأبناء على السواء- ففي الحقيقة، ثقل العام الدراسي لا يتحمّله الأبناء وحدهم- فإن من حق الأسرة أن تستريح في نهاية هذا الشوط، استراحة يكون معها الاستراخاء، وتعويض النفس بشيء من التبسط والمباحات، وعدم الإرهاق بجدول منظم، أو سهر متعب، أو تفكير زائد في قائمة أعمال.
فهذه الراحة ليست ترفًا، وإنما هي ضرورة للنفس، كما أن العمل ضرورة للحياة؛ بل إن النفس بهذا القسط من الراحة تستعد للعمل وتُقبل عليه من جديد بصورة أفضل، وبطاقة أكبر.
فالإنسان لا يمكن له أن يواصل أيامه بالعمل الجاد دون فترات يستجم فيها، ويستعيد عافيته وطاقته؛ سواء على المستوى النفسي أو البدني. المهم ألا يخرج عن المباحات إلى ما لا يجوز.
ومن هذا المنظور، ينبغي أن تعيد الأسرة النظر لفصل الصيف؛ بحيث تحرص فيه على أن تستوفي قدرًا من الراحة يزيل عنها ما أصابها من إرهاق وتعب، ويجعلها أكثر قدرة على مواصلة البذل في العام الجديد.
روى الديلمي عن أنس بن مالك مرفوعًا: “رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً فسَاعَةً. جاء في (التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغير) للصنعاني: (روحوا القلوب ساعة فساعة): أي أريحوها بعض الأوقات من مكابدة العبادات بمباح لا عقاب فيه ولا ثواب. قال أبو الدرداء: إني لأجِمٌّ فؤادي ببعض الباطل لأنشط للحق. وقال عليّ: أجموا هذه القلوب؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان. أي تكل. وقوله (ساعة فساعة): أي ساعة للذكر والعبادة وساعة لإراحة النفس. في مراسيله عن ابن شهاب مرسلاً، أبو بكر بن المقري في فوائده والقضاعي عنه عن أنس. قال السخاوي: يشهد له ما في مسلم وغيره: “يا حنظلة ساعة وساعة”.
نفسيًّا وبدنيًّا
وفترة الإجازة ينبغي أن تكون فترة راحة واستجمام، نفسيًّا وبدنيًّا؛ وذلك بأن يريح الإنسان بدنه ويتخفف من العمل، وأيضًا بأن يرى بيئة أخرى تجدد نشاطه النفسي والذهني؛ فلا يقضي الإجازة مكوثًا في البيت أو بفترات نوم أطول، ظنًّا منه أنه بذلك يستريح نفسيًّا.
ولا يستدعي هذا الأمر أن نحمِّل أنفسنا فوق الطاقة، بالسفر لأماكن ذات تكلفة عالية؛ بل يمكن تحقيق ذلك بما تسمح به ميزانية الأسرة، في متنزهات قريبة، أو بزياة أقارب نسعد بهم ويسعدون بنا.. المهم أن نحاول إيجاد ظروف نفسية تُشعرنا بالراحة، ولا نقضي الإجازة بين الجدران الأربعة التي نقضي بينها العام الدراسي!
استكمال المهارات
أيضًا، يمكن أن نخصص قسمًا من الإجازة للعمل على أن يستكمل الأبناء المهارات التي يحتاجونها، سواء المهارات المعرفية أو العملية؛ مثل دروس التقوية في بعض الجوانب كاللغات مثلاً، أو مهارات الكمبيوتر، أو الألعاب الرياضية التي قد لا يتوافر الوقت لتنميتها خلال أيام الدراسة.
فالإجازة كما أنها مخصصة للاستراحة من عام مضى، هي أيضًا لازمة لاستقبال عام قادم. ومن ضرورات هذا الاستقبال، استكمال جوانب النقص، أو تمتين بعض الجوانب وتجويدها.
التنمية المعرفية
الإجازة فرصة جيدة لتنمية الأبناء معرفيًّا؛ بالمطالعة الحرة والقراءة في مجالات خارج نطاق الدراسة، التي قد لا تسمح بهذا الأمر. فالإجازة فرصة لتنمية العقل، وتوسيع جوانب المعرفة، والاستزادة من القراءة الحرة.
ولا شك أن كتب المطالعة الحرة ستعود بالأثر الإيجابي على النفس، من زاويتين:
الأولى: تنمية النفس وتسليتها؛ فالقراءة الحرة، خارج نطاق الدراسة الإلزامية تكون محببة للنفس، لاسيما أن كتب التثقيف العام تكون على نمط سهل مشوّق، بخلاف بعض المقررات الدراسية؛ كما أن الشعور بإلزامية الكتب الدراسة يجعل النفس منقبضة عنها، فكل مفروض مرفوض!
والزاوية الثانية: أن تنمية العقل وترويح النفس بالقراءة الحرة، يوسع المدارك، ويعين على استيعاب مقررات الدراسة؛ فبحور المعرفة يَصبّ بعضها في بعض، ويُثري بعضها بعضًا.
وخيرُ ما تحرص عليه الأسرة في التنمية المعرفية، تزويد أبنائها بأساسيات المعرفة الدينية الضرورية؛ لتصحيح اعتقادهم بلغة سهلة تُثبِّت الإيمان في نفوسهم وتَطرد عنهم وساوس الشيطان والتشكيك، بجانب تصحيح عبادتهم وتعليمهم فرائض الإسلام، مع دروس في الأخلاق والتزكية والسيرة النبوية المعطرة.. ويسبق ذلك أو يرافقه حفظ قدر من القرآن الكريم؛ فهو خير ما نورّثه أبناءنا ويحفظهم.
التخطيط الجيد
ولا شك أن إنجاز فترة الصيف على هذا النحو، يقتضي تخطيطًا جيدًا، وتنويعَ هذه الفترة على محاور الترفيه والتثقيف وتنمية المهارات، إضافة إلى تمتين العلاقات الاجتماعية وتبادل الزيارات مع الأهل والأصدقاء.
فالتخطيط أمر ضروري؛ بحيث لا يطغى محور على آخر، فضلاً عن إغفال أحد هذه المحاور المهمة. وبدون تخطيط، سرعان ما نجد أنفسنا وقد مضت الإجازة دون أن نستوفي ما ينبغي استيفاؤه، ونفقد فرصة الاستفادة منها في الاستجمام والاستعداد.