أقل من خمسة عشر عاما تفصل اللحظة الراهنة عن ميلاد أول هاتف ذكي، خلال تلك السنوات استطاعت الهواتف الذكية أن تسيطر على اهتمام البشر ووجدانهم، وأحدثت تغيرات كبيرة في حياتهم، وكان للرقمية تأثيرها الواضح على الأسرة، التي دفعت الثمن من ترابطها ودفئها وإمكانياتها في التنشئة، فالهواتف الذكية كانت أسرع اختراعات البشر انتشارا واستخداما، إذ تكاد تمسك بها أيدي الناس جميعا،  وترتبط سرعة الانتشار بالقدرة على التأثير، فدوما التقنيات الجديدة تثير المخاوف من قدرتها على إحداث تغيرات اجتماعية كبيرة.

فرصة أم مأزق؟

يجادل البعض بأن تأثير الرقمية والهاتف الذكي على الأسرة يحوي الكثير من المبالغات، وأن المخاوف ما هي إلا حديث متكرر مع كل وسيلة حديثة تستحوذ على اهتمام الناس، ويضرب هؤلاء المثل بجهاز الراديو الذي كانت أعداده عام 1922 في الولايات المتحدة لا تزيد عن ستة آلاف جهاز، وارتفعت في العام التالي إلى مليون ونصف المليون جهاز، ومع العام 1936 كان أكثر من 90% من المنازل الأمريكية تمتلك راديو، وكان الاطفال وقتها يقضون ما يزيد على ثلاث ساعات يستمعون إليه، وهو ما أثار قلق الصحافة وقتها، من تأثيره السلبي على جسد الأطفال، وأن الآباء لن يستطيعوا أن يضعوا الأقفال على هذ الجهاز الجبار، ثم مضت العقود وتكرر الأمر مع التلفزيون، والفيديو، حتى الهاتف الذكي.

والحقيقة أن الرقمية والهواتف الذكية لا تقارن بالراديو وتأثيراته، أو حتى بالتلفزيون، وهناك عبارة تلخص المخاوف من الرقمية لأحد خبرائها:” أنا أثق في طفلي فقط، لكن لا أثق في ثلاثة مليارات من الأشخاص الآخرين المتصلين معه عبر الإنترنت”، فالرايو كان الشخص مخيرا بين عدد محدود للغاية من المحطات يتنقل بينها، وكانت غالبية هذه المحطات تخضع لرقابة حكومية صارمة، أو مجتمعية قوية، كذلك كان التفاعل ضعيفا للغاية، مع غياب الصورة.

ويعلل هؤلاء موقفهم أن المشكلة قد لا تكون في التكنولوحيا ولكن في استخدامها، وبالتالي فالرقمية فرصة، لكن استخدامها السيء قد يحولها إلى شيء مزعج، خاصة في المجال الاجتماعي، وفي القلب منه الأسرة، وبالتالي فلو أحسنت الأسرة التعامل مع الرقمية سوف تكون فرص لها وليس مثارا للقلق.

لكن هؤلاء لا يدركون أن الرقمية تحولت إلى نوع من “الإدمان” digital addiction الذي يتشارك فيه جميع أفراد الأسرة، بما فيهم الآباء والأمهات، فالجميع أصبح ممتلكا لشاشته الخاصة، والتي لا يطلع عليها أحد غيره، وتحميها برامج تقنية لمقاومة محاولات اختراقها.

أما المتخصصون فيحذرون من تأثيرات الرقمية على الأسرة، ويرون أن قيم الأسرة المتوارثة عبر عشرات القرون تتعرض لاهتزازات عنيفة مع امتداد الرقمية إلى مساحات التعاطف والتواصل داخل الأسرة، فالجميع أصبح مدمنا للرقمية، حتى في أوقات الطعام، وفي العطلات، والمناسبات الاجتماعية الخاصة، وتؤكد ذلك “شيري توركل” Sherry Turkle الخبيرة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والتي لها مبادرات حول العلاقة بين التكنولوجيا والذات، ولها عدة مؤلفات منها كتابها الرائد :

“استعادة المحادثة [1] Reclaiming Conversation، حيث طرحت فكرة “المساحات المقدسة للمحادثة” sacred spaces for conversation بين أفراد العائلة خاصة وقت الطعام، ورأت أنه من الضروري إبعاد الهاتف عن المائدة لمنح التواصل الانساني مساحة حرة يتفاعل داخلها، فلابد من وجود مناطق خالية من الرقمية في الأسرة.

كتاب “استعادة المحادثة”

تقول “توركل”: ” “مجرد وجود الهاتف يشير إلى أن انتباهك منقسم، حتى لو لم تكن تنوي ذلك”، فالرقمية جعلت الجميع مشتت الذهن، يرغب في إنهاء الطرف الأخر للحوار والحديث، حتى ينفرد بهاتفه وشاشته بلا منغصات اجتماعية، لذا اعتبرت “توركل” أن انخفاض التفاعل وجها لوجه هو نوع من الوباء، فالهاتف يقلل التعاطف، وأشارت إلى تجربة ميدانية بين طلاب الجامعات منعوا خلالها من هواتفهم طيلة خمس أيام، فارتفعت مستويات التعاطف بينهم، وهناك دارسة أخى عن معهد “بيو” Pew أشارت أن 89% من البالغين نظروا إلى هاتفهم أثناء تفاعلهم الاجتماعي، لكن الأخطر أن كثير من أفراد الأسرة يقطعون إجازتهم وعطلاتهم إذا كانت الأماكن التي يقصدونها لا تتوافر فيها شبكة Wi-Fi قوية، لعدم قدرتهم العيش بعيدا عن الرقمية، حتى وإن كانوا ضمن العائلة.

تحدي الرقمية

تعتبر الرقمية تحديا إنسانيا وعالميا للأسرة ، تتقاطع في مشكلاته غالبية المجتمعات، وتشعر بوطئته غالبية الأسر في العالم، لذلك تكثر الأبحاث والدراسات حول “الأبوة والأمومة في العصر الرقمي” Parenting in the digital age، خاصة إذا أدركنا أن تحدي الرقمية داخل الأسرة يمتد إلى الجانب الصحي والتعليمي والأخلاقي والتربوي والعاطفي.

فمنذ الطفولة المبكرة، والتي قد لا تتجاوز الثلاث سنوات، يخضع الطفل داخل الأسرة لتأثيرات الرقمية، سواء بالسماح لها باستخدامها لتخفيف حدة حركته ونشاطه داخل المنزل، أو بانصراف الوالدين عنه، وانشغالهما بمتابعة هواتفهم وصفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، فينشأ الطفل بلا عاطفة كافية، ولا تتشرب نفسه ما يحتاجه من حب واهتمام ورعاية في تلك السنوات المؤثرة والحاكمة لحياته، فينشأ منفصلا عن والديه مرتبطا بهاتفه، أو مقتديا بوالديه في صرف غالبية وقته للهاتف، وهنا تكون العلاقات داخل الأسرة باهتة ضعيفة، قليلة التواصل، تخضع للتفاعل الافتراضي وليس للتواصل المباشر، خاصة وأن الرقمية تلبي الكثير من الاحتياجات النفسية والترفيهية والتفاعلية للشخص، وتحقق له قدرا معتبرا من الاشباع، قد لا يجعله متوترا إلا في حال تعطل الاتصال بالانترنت فقط.

الكثير من التحذيرات تتحدث عن تأثير الساعات الطويلة التي يقضيها الأطفال على شاشات الموبايل على أبصارهم، وانصرافهم عن النشاط الحركي المتمثل في اللعب والأنشطة إلى الجلوس أمام شاشة تخترق أشعتها الجسد وتؤثر على العين، وتصيب الأطفال بالسمنة، مثل الارشادات المتتالية التي تصدرها منظمة الصحة العالمية حول الأوقات التي يجب أن يقضيها الأطفال أمام شاشات الهواتف، كذلك كثرت الكتب الإرشادية حول كيفية تفاعل الأسرة من تغول الرقمية، ومنها كتاب الحقوقية “إليزابيث ميلوفيدوف” Elizabeth Milovidov، بعنوان ” دليل الوالدين إلى الأبوة والأمومة في العصر الرقمي” [2] حيث أشارت إلى مأزق الأسرة في التعامل مع الرقمية، بين حاجة الأطفال والشباب إلى فهم التكنولوجيا الرقمية، وبين أنه كلما زاد تفاعلهم مع الانترنت زادت المخاطر التي سيتعرضون لها، فهي تكنولوجيا من الصعب توافر الأمان الكامل فيها.

كتاب “دليل الوالدين إلى الأبوة والأمومة في العصر الرقمي”

والحقيقة أن الرقمية تفرض على الآباء أن يطوروا قدراتهم الرقمية حتى يستطيعوا أن يفهموا أولادهم ويراقبوهم، ويعرفوا ما يدور في أذهانهم، وما يمارسونه على الانترنت، لذا تحدث البعض عن “الآباء الرقميون” digital parents الذين يجب أن يكونوا متطورين مثلهم أبنائهم؛ بل ربما متقدمين عليهم خطوة حتى يستطيعوا أن يمارسوا دورهم الرقابي والتوجيهي داخل الأسرة، ومنح الأسرة “بوصلة أخلاقية”، وهناك حديث عن “القدوة الرقمية” digital role model إذ لابد للآباء والأمهات أن يكونون قدوة داخل الأسرة من عدة مناحي، منها: أن يلتزموا بالجانب الأخلاقي الواضح في الامتناع عن مشاهدة ما ترفضه الأخلاق، والامتناع عن استخدام الرقمية في أية انحرافات أخلاقية، وألا يهملوا الجانب الاجتماعي والتعاطفي داخل الاسرة لانشغالهم بهواتفهم،  خاصة وأن الجميع يعلن أنه لا يمكن أن يعيش بدون الرقمية أو بعيدا عنها.

وهذا ما تؤكده “يالدا أوليس” Yalda Uhls في كتابها عن “الأبوة والأمومة في العصر الرقمي” [3] من ضرورة وأهمية النموذج الذي يحتذى به في العصر الرقمي، خاصة وأن الكثير يقضي ما يقرب من عشر ساعات يوميا أمام الشاشات المختلفة ومنها شاشة الهاتف، أضف إلى ذلك أن جزءا من العملية التعليمية انتقل أيضا إلى الحيز الرقمي، وهو ما يفرض أن يقوم الآباء أنفسهم بدمج الوسائط الرقمية في أنشطتهم اليومية، وبذلك تكون “الأبوة والأمومة دائمة” في ظل المجتمعات المتشبعة بالتكنولوجيا الرقمية.

ويبدو أن فكرة “الأبوة الرقمية الدائمة” أغرت شركات التسويق الاليكتروني لانتاج برامج تمكن الآباء من متابعة أبنائهم الدائمة، وبالتالي أصبحت الرقمنة في المجال الأسري أحد مجالات استنزاف الأسرة لتمكينها من متابعة الأبناء، فألقت أعباءا أخرى على الأسرة، ومن ناحية أخرى أخذ الأبناء الذين يعتبرون أكثر تعاطيا مع الرقمية في المرواغة من الرقابة الأبوية، أو تخفيف حدتها، أو حتى تضليلها.

لكن الأخطر أن الرقمية أصبحت مجالا للفضح، وهتك الستر بين أفراد الأسرة، وأحد وسائل الشكاوى والتذمر بين أفراد الأسر، فأضعفت الروابط، فالزوجات يشتكين من أزواجهن وأبنائهن، والجميع يشتكي في ظل مساحات البوح المفتوحة، وعند البعض تحولت الشكوى إلى التشهير، والفضح، وهو ما هز قيم الأسرة .


[1]  Reclaiming Conversation: The Power of Talk in a Digital Ag

[2] The Parent’s Guide to Parenting in the Digital Age

[3]  Media Moms & Digital Dads : A Fact-Not-Fear Approach to Parenting in the Digital Age