كثيرًا ما نقرأ قصص محاولات الإصلاح والتجديد، التي غير الله بها الليل والنهار ، ولوي عنق التاريخ حتى غير مجراه ، وقد لا نعلم أصحاب هذه المحاولات ، والأيدي الأمينة الكريمة التي ضغطت من وراء الستار على ” زر ” كهربائي فانقشع الظلام ، ولا يزال التاريخ ساكنًا مندهشًا واجمًا أمام حدث دخول التتار حظيرة الإسلام ، ولا يكاد يعرف أولئك الأبطال الغر الميامين الذين كانوا سببًا مباشرًا أو غير مباشر في هذا الحادث العملاق ، ولا يكاد يتوصل لذلك إلى تفسير مشبع ، وتأويل يمده الدليل النابع من الأرقام والأعداد والوثائق ، وأمثال هذا الحادث كثيرة لا نعلمها الله يعلمها..ناهيك عن ألاف المؤلفات مجهولة النسب لعلماء السلف، طال الخلاف في تحديد أسماء مؤلفيها ، ولم يستطع الدارسون والباحثون ممن يتسمون بروح المثابرة ، على الدراسة والبحث والتنقيب ، والقدرة على النفاذ إلى “نقب علمي ” لا ينفذه إلا القلائل ، لم يستطيعوا قولاً فصلاً ويجزموا بالضبط بأن الكتاب الفلاني مثلاً كان مؤلفه فلان.
إن ذلك يعكس غاية الإخلاص والاحتساب الذي كان الحافر لعلماء السلف على كل خطوة يخطونها في الحياة ، ولا سيما ما يتعلق بالعلم والمعرفة ، فلم يكونوا يرون حاجة إلى إثبات أسمائهم على مؤلفاتهم أو بيان جودتها وأهميتها بمقدمات طويلة يتحدثون فيها عن فضل مؤلفاتهم على المؤلفات التي سبقتها ، وكم من عمل أكاديمي عملاق – بكل معنى الكلمة – قاموا به في صمت وهدوء قابعين في زوايا العزلة ، وكان عملهم الفذ هذا يظل مكمورًا رهين السكون حتى يأتي الوقت الذي يثور عليه أهل العلم والبحث والدراسة ، فيعكفون عليه يستنسخونه ويحققونه ويستظهرونه ، ويخرجونه للنور ، فينتفع به الناس وينال القبول والتلقي العام ما لا ينال عشر معشاره من مؤلفاتنا وكتابتنا ما نعمل على ترويجه وتوزيعه والدعاية له في كافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ، وذلك أنها كانت تحمل مسحة جمال الإخلاص والاحتساب الذي يجذب الأنظار والقلوب بقوة وشدة وسرعة لا يعرفها المغناطيس..
ولنا أن نقارن تلك الروح التي تحلى بها علماء السلف مع تلك الروح التي تستأثر اليوم بأديب أو كاتب أو شاعر أو داعية أو خطيب ، من الحرص الزائد على نشر ما يقول ويكتب ويؤلف ويبدع دونما تأخير ، والرغبة الجامحة بأن ينال إنتاجه من الشهرة ما يغطي شهرة إنتاجات السابقين واللاحقين إلى يوم الدين ، حتى ولو كان هذا الأديب أو الكاتب أو الشاعر أو الداعية أو الخطيب من أصحاب الرسالة والهدف والمبدئية ، يسخر إنتاجه لأغراض نزيهة في صالح الإسلام و المسلمين.
لم نقصد في مقارتنا هذه التقليل من قيمة أي أديب أو كاتب أو شاعر أو داعية أو خطيب ولا التهوين من شأنه ، أو النعي على نشر إنتاجه ، أو لا ينشر ويطبع أو يؤلف ، فقد يكون صادرًا عن المبدئية التي تحمل المرء – في إخلاص – على أن يجعل آراءه وأفكاره يطلع عليها الناس ، كما أن ذلك لا يتفق وطبيعة الزمان ، بالإضافة إلى أن ذلك يشكل خسارة لا تعوض في خصوص القيام بالدعوة والرسالة ، فهذا عصر الإعلام المتعدد الوسائل ،وقد يستطيع الداعية أن يصنع في هذا الطريق ما لا يصنعه بغيره ..
إننا نستميح وقفة متأنية من أجل استعراض الفارق العميق الدقيق بيننا وبين علماء السلف في روح الإخلاص والحتساب..كان شعارهم حب الخفاء وعدم الإعلان ، فأصبحت هوايتنا الشهرة والظهور ، كانوا يخلصون كل ما يعملونه لوجه ربهم ، وأصبحنا نشوب ما نعمله في سبيل الدين بأغراض كثيرة أدناها حب الشهرة والرياء والظهور ، وتضخيم ما نصنعه وإعطاؤه من الحجم ما لا يستحقه ..إنهم كانوا يصنعون ما يصنعونه صادرين عن دوافع إرضاء الله وإرضاء ضمائرهم ، و إسعاد عباد الله ، ثم لا يبالون بما وراء ذلك من أي مكسب ، يطمع فيه الطامعون ، ويتنافس فيه المتنافسون من ذيوع الصيت ، وكسب القلوب وتطويعها لأغراض ليست في صالح الإسلام والمسلمين ، إنما هي في صالح النفس والهوى والشهرة والجاه.
ومن ثم قد أجرى الله على أيديهم الخير الكثير ، وسعدت بهم البشرية وسارت في ظلال أعمالهم المخلصة قوافل الإنسانية على نجوة من الشرود والتيه والانحراف ، وقد صنع شخص واحد منهم – وهو أعزل من كل سلاح إلا سلاح الإيمان ، وكل وسيلة إلا وسيلة التقرب إلى الله والأطراح على عتبته ، والإنابة إليه في كل أمر – ما لا نصنعه نحن اليوم بإيدي كثيرة ، وعقول خصبة جمة ، و وسائل موفورة من كل نوع ، وسيل عارم من الكتابات والخطابات ، ومكتبات غنية ، ومساعدات طويلة ، وجيوب مليئة وجامعات و معاهد ومؤسسات علمية وثقافية وفكرية تكاد تفوق الحصر ، وندوات ومؤتمرات وحفلات لقاءات ، ورحلات ومحادثات لا أول لها ولا آخر.
فهل نعود إلى رشدنا وصوابنا ، نراجع أنفسنا ، ونحاول أن لا يكون من أعمالنا حظ للنفس والشيطان؟!
سؤال يجيب عنه المخلصون الذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا ظهورًا في سماء الإعلام..