الأقلية المسلمة في الهند تواجه نوازل فقهية عديدة، قلما يوجد مثيلها في العالم، وتستلزم جوابا في ضوء النصوص الشرعية حيث إن لها تأثيراً حاسماً في تحديد مجرى الأحداث خاصة في قضايا تتعلق بالمجتمع والحفاظ على الهوية والقيام بالدعوة وغيرها.
فمثلا أصحبت البقرة قضية حساسة في الهند، لأنها تمس عقيدة الهندوس مباشرة وأصحبت الآن موضع جدل يدور حوله الكلام بعد ما قام بعض الهندوس المتطرفين بالقتل الشنيع لبعض المسلمين وغيرهم متهمين لهم بأنهم ذبحوا البقرة أو أكلوا لحمها.
فإن من المعروف أن الأضحية التي يقوم بها المسلمون بمناسبة عيد الأضحى تذكارا لتضحية إبراهيم عليه السلام يذبح فيها المسلمون بهيمة الأنعام بما فيها البقر وغيرها. و بما أن الهند يشح فيها الإبل، فكان من البديهي أن يتجه المسلمون إلى الأبقار للأضحية بها ولغيرها. ولكن هذه الأبقار قد حظيت بأسمى مكانة لدى الهندوس ويعبدونها كما جاء “ساما ويدا”، ومعناه كالتالي:
“أيتها البقرة المقدسة، لك التمجيد والدعاء، في كل مظهر تظهرين به، أنثى تدرين اللبن في الفجر وعند الغسق، أو عجلا صغيرا، أو ثورا كبيرا، فلنعدّ لك مكانا واسعا نظيفا يليق بك، وماء نقيا تشربينه، لعلك تنعمين بيننا بالسعادة”. [د. أحمد شلبي، الأديان الكبرى – أديان الهند، ص 30-32.]
مهاتما غاندي الذي يعتبر أبا الدولة الهندية، له كلام طويل في قداسة البقرة حيث يقول: “إن حماية البقرة التي فرضتها الهندوسية هي هدية الهند إلى العالم، وهي إحساس برباط الأخوة بين الإنسان وبين الحيوان، والفكر الهندي يعتقد أن البقرة أمّ للإنسان وهي كذلك في الحقيقة، إن البقرة خير رفيق للمواطن الهندي، وهي خير حماية للهند.
عندما أرى بقرة لا أعدني أرى حيوانا، لأني أعبد البقرة وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع… وأمي البقرة تفضل أمي الحقيقة من عدة وجوه، فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائما، ولا تطلب منا شيئا مقابل ذلك سوى الطعام العادي. وعندما تمرض الأم الحقيقية تكلفنا نفقات باهضة، ولكن أمنا البقرة لا نخسر لها شيئا، وعندما تموت الأم الحقيقية تكلف جنازتها مبالغ طائلة، وعندما تموت أمنا البقرة تعود علينا بالنفع كما كانت تفعل وهي حية، لأننا ننتفع بكل جزء من جسمها حتى العظم والجلد والقرون. أنا لا أقول هذا لأقلل من قيمة الأم، ولكن لأبين السبب الذي دعاني لعبادة البقرة. إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال وأنا أعد نفسي واحدا منهم”. [مهاتما غاندي، بوانس جيرنال، 1964.]
وهذه النصوص تكفي شاهدةً على مكانة البقرة لدى الهندوس إلى أن أصبح سببا للشغب الديني في شمال الهند وفاجأ انتشاره إلى جميع بقاعها. والقرآن أيضا قد أشار إلى قوم من بني إسرائيل عبدوا البقرة فأراد الله أن يقتلع منهم تلك العادة آمرا إياهم بذبحها كما ذكرتها الآية (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين). ولكن لم يوجد أي دليل تاريخي يربط بين عبادة البقرة لدى الهندوس وبين عبادتها لدى المصريين إلا أن الدليل يشير إلى أن تلك الظاهرة لم تكن محصورة لدى الهنود.
فالقضية لا بد أن تحلل من ناحية الشرع إذ أن لها علاقة بمصير المجتمع التعددي لأن ذبح حيوان يُعبد يؤلم أتباعه، ويبعدهم عن صاحبه فتخلق فجوة بينه وبين الهندوس. وبما أن الهندوس يمثلون أغلبية الجمهور المخاطبين بدعوة الإسلام، فلا بد أن نهيئ لهم منصة يشتركون فيها معنا. فإذا كان من الأكيد أنهم لا يقتربون من الأعياد أو الاحتفالات التي توزع فيها لحوم حيوانهم المقدس، الأفضل أن يختار المسلمون غير البقر من بهيمة الأنعام لأن ذبح البقر يصبح سببا لإشعال الشغب الطائفي.
والدليل عليه ما نقله الإمام الطبري في سبب نزول آية (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) حيث يقول “قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ والمؤمنين به: ولا تسبُّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والأنداد، فيسبَّ المشركون اللهَ جهلا منهم بربهم، واعتداءً بغير علم ، كما:-
ثبت عن ابن عباس قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم)، قال: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبِّ آلهتنا، أو لنهجوَنَّ ربك! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم.
وحدثنا عن قتادة قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله…)، كان المسلمون يسبون أوثان الكفار، فيردّون ذلك عليهم، فنهاهم الله أن يستسِبُّوا لربهم، فإنهم قومٌ جهلة لا علم لهم بالله”.
وهذه الآية تحرّم سب آلهة الكفار ولو كان ذلك أمرا حسنا، لكونه ذريعة إلى سبّ الله تعالى وهي تسمى في الشريعة الإسلامية بقاعدة “سد الذرائع” أي منع الطرق التي تجلب سوء العواقب أو المآلات. واعتبارًا لمقاصد الشريعة الإسلامية التي أودعها الشارع وراء كل حكم ونظرا إلى مآلات الفعل، فإن الأولى أن يقدم المسلمون بهائم أخرى غير البقر، حتى لا يؤدي ذلك إلى عدم استقرار المجتمع الحالي، فيعرض حياة المسلمين يالخطر والإيذاء والاضطراب، والشارع ينهى عن الإلقاء باليد إلى التهلكة وثبتت القاعدة الشرعية أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.