“لا تُلقينّ عصاكَ دونَ المَطلب”(1) وإذا كانتِ النُفوسُ كِباراً … تَعِبَتْ في مُرادِها الأَجسامُ (2) هناك طاقة كبيرة في النفس، وكنز دفين يُغفل، ويحتاج أن تحفر بعيدا لتعثر عليه، ليس في الأرض، ولكن بداخلك، الذى بات مجهولا مع كثرة الصخب والضوضاء في الحياة، فترك الذات بلا اكتشاف، يعني أن يظل الإنسان في مكانه لا يبرحه، وعلى حاله لا يغادره، والمفتاح هو الإرادة، التي تتخذ مسميات كالعزيمة والإصرار والهمة.

علم وفلسفة

تُعرف الإرادة بأنها “تصميم واعٍ على أداء فعل معين، ويستلزم هدفاً ووسائل لتحقيق هذا الهدف، بالإضافة إلى أن العمل الإرادي، وليد قرار ذهني سابق”، جاء في كتاب “التعريفات” للإمام للجرجاني بأنها “صفة توجب للحي حالاً يقع منه الفعل على وجه دون وجه، فهي ميل يعقب اعتقاد النفع “، ومن ثم فهي مرتبطة بالحياة، وتقدير المصلحة، فالعقل يقف خلفها، كما أنها مرتبطة بالحافز أو الهدف الذي يخلق الإصرار على المضي في الفعل.

في كتابه ” العالم كإرادة وفكرة ” المنشور 1818 يرى المفكر “شوبنهور، أن شخصية الإنسان تكمن في إرادته، وأن ” العالم كفكرة هو تجسيد للإرادة” فالإرادة ليست شيئا عابرا في الحياة، ورآها آخرين كنوع من التعبير عن الرغبة، والرغبات لا تنتهي ولا تتوقف، لذا فالإرادة حاضرة دوما، لكن الفيلسوف “نيتشه” رآها  في كتابه “إرادة القوة” نوعا من القوة لا تتبدى إلا في ظل المقاومة، فيقول:”لا يمكن أن تظهر إرادة القوة إلا من خلال علاقة مقاومة،  إنها تبحث عمّن يقاومها، وتبحث عن المواجهات، والصراعات “.

يضع باحثون في جمعية علم النفس الأمريكية APA تعريفا إجرائيا لقوة الإرادة استنادا إلى مجموعة من المحددات، منها

-القدرة على تأخير الإشباع ومقاومة الإغراءات قصيرة المدى لتحقيق الأهداف طويلة المدى.

-القدرة على تجاوز فكرة أو شعور أو اندفاع غير مرغوب فيه  .

-التنظيم الواعي والجهد للذات، بواسطة الذات.

ترتكز  تلك المحددات على دور النفس في تنظيم الجهد الإنساني، وتكثيفه نحو نقطة ما أو هدف محدد.

والحقيقة أن موضوع هذه الطاقة شغل الفلاسفة وعلماء الدين والنفس والاجتماع والصحة، لأن الإردة تعبر عن الجوهر الإنساني المنوط به اتخاذ القرار، وتحديد الدوافع والسلوك، واختيار السبل والمفاضلة بينها، ومن ثم كانت الإرادة مجالا لاهتمام كل من يدرس الإنسان من الناحية المادية أو الروحية أو المجتمعية.

وقد عرفها الصوفية المسلمون تعريفات تكاد تنطبق على ما توصل إليه علم النفس الحديث، فرأوا أن ” الإرادة حجب النفس عن مراداتهـا، والإقبـال علـى أوامـر الله تعـالى، والرضا”، ورأوا أن  “ترك العـادة هـي بـدء طريـق السـالكين، وأول منـازل

القاصدين”، ويرى عالم النفس الأمريكي “وولتر مايكل ” Walter Mischel ” أن “مقدرتنا على إبعاد أنفسنا عن مواقف الإغراء، هي أمر ضروري للتحكم في النفس” وهي رؤية تتقف ما رأته المتصوفة في أن تربية النفس وإكسابها القوة يقتضي تقوية الإرادة، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال مقاومة الإغراءات والشهوات، ومن يتتع موقف الصوفية من الجوع والصيام، وترك ملذات الطعام، سيلحظ أن لتلك تمارين دور في تقوية الإرادة، لكن ما يميز الرؤية الإسلامية هو العمق والارتباط بالجزاء الأخروي الذي يجعل لذة انتظار الثواب في الاخرة أقرب للنفس من لذة التمتع الآني.

وقد أجرى علماء النفس الأمريكيون تجربة استمرت وقتا طويلا عرفت باسم “تجربة الخطمي” أو حلوى المارشميلو the marshmallow test، وقد أجريت في عام 1968  حيث تم اختيار (600) طفل وتم تخييرهم بين تناول قطعة من حلوى المارشميلو أو الانتظار (15) دقيقة وتناول قطعتين، ووضعت قطعة الحلوى أمام الطفل بمفرده على منضدة، وكانت النتيجة أن الغالبية امتنعت عن تناول تلك القطعة انتظارا لأخذ القطعتين، وتم بحث سجل هؤلاء الأطفال من جديد لأول مرة عام 1988، أي بعد عشرين عاما من التجربة، فوجد أن غالبية الأطفال الذين انتظروا وأخروا ملذاتهم كانوا أكثر نجاحا في حياتهم، ولديهم حياة عملية أفضل، ومن ثم كان حضور الإرادة، ذا نفع للإنسان في حياته المستقبلية، أما استعجال الملذات والانهماك في الاشباع السريع والعاجل فيضعف الإرادة، وله مضاره المستقبلية على مسيرة الإنسان الحياتية.

يُستفاد من التجربة أن التفكير الواعي يحسن من أداء الإرادة ويقويها، لأن جزءا من تكون الإرادة وصلابتها وتماسكها واستمرارها هو نتاج حوار مقنع وواعي مع النفس، وليس قرارا عشوائيا سريعا، أو نتيجة إكراه، فوجود الإكراه يضعف الإرادة ويجعل الإنسان يستدعي المرواغة، ولعنا هنا نستحضر مسألة الصيام، وما يفرضه من امتناع عن المفطرات والمحرمات، وهنا ربما يفسر ما جاء في الحديث القدسي ” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”(3) لأن من يختبر حقيقة النية والإرادة هو الخالق سبحانه وتعالى.

لا مبالغة

أشار علماء النفس أن المبالغة في تقوية الإرادة قد يفقد الإنسان التوازن، ويُعيقه عن تحقيق بعض الغايات، فالإرادة يجب أن تُستدعى في الوقت المطلوب والمحدد لها، لا أن تكون نشطة دوما، فنشاطها الدائم يبدد قوتها ويفقدها حيوتها، وهنا يمكن فهم الحديث النبوي ” إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلى اللهِ، صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إلى اللهِ، صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السَّلَام، كانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، ويقومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا.”(4)، فهذا الاستدعاء المحسوب للإرادة يقويها، ولا يشتتها، ويمنحها فترة للراحة تستعيد فيه قوتها.

ويطالب علماء النفس بعدم المبالغة في تقدير قوة الإرادة حتى لا تغتر النفس بقوتها، يقول جلال الرومي: ” النفس من كثرة المديح تتحول إلى فرعون”، كذلك يطلبون عدم تعريضها للمغريات لأنه قد يصيبها لحظة ضعف، فيفشل الإنسان في ضبط نفسه، وهنا نستعيد الأخلاق الإسلامية في عدم الخلوة بإمراة، حتى ولو كان لتعليمها القرآن، وألا يُعرض المسلم نفسه لما لا يطيق من البلاء، وكما أكدت الدراسات النفسية فمعظم الناجحين بارعون في تأخير الإشباع، وبارعون في مقاومة الإغراءات، بارعون في التغلب على الخوف من أجل القيام بما يحتاجون إلى القيام به، كما أنهم يعرفون أنفسهم وقدراتهم بشكل جيد.

والحقيقة أن الافتقار إلى قوة الإرادة عائق أمام التغيير سواء في النفس أو في الواقع، لكن قوة الإرادة لا تنمو بشكل مفاجيء ، ولكنها ثمرة مجاهدة طويلة مع النفس، ولهذا كان تشجيع الصغار على الصوم والالتزام بأوقات الصلاة مدخل لتقوية الإرادة، وخلصت دراسة نفسية أعدتها عالمة النفس الأمريكية ” Terrie E. Moffitt “على مدار 32 عاما : ” أن الأفراد الذين يتمتعون بدرجة عالية من ضبط النفس في مرحلة الطفولة، يتمتعون بصحة بدنية وعقلية أكبر في مرحلة البلوغ ، وعدد أقل من مشاكل تعاطي المخدرات والإدانات الجنائية ، ولديهم سلوك ادخاري أفضل”، كذلك فإن الاقتناع بأن فشل الإرادة مرة ليس معناه نهاية العالم، ولهذا يفهم الرؤية الإسلامية في مسألة الاستغفار، فالاستغفار قبل أن يكون اقلاعا عن الذنب أو الخطأ، هو إرادة وإصرار على السير في طريق الإيمان والخير، حتى وإن تعثرت القدم مرة أو أكثر.