لا يستطيع أحد أن يجادل في فوائد الميراث على المناحي الاجتماعية والأخلاقية والتربوية، ويؤدي ذلك بدوره إلى تقليل حدة التفاوت المادي بين الناس، والحد من البطالة والكساد، وزيادة الكفاءة في استخدام الموارد، وتقوية الروابط الاجتماعية بين الأقارب….هذه الفوائد لم يستطع أحد أن يجادل فيها.
لكننا رأينا بعض الاقتصاديين ينتقدون نظرية الإرث الشرعية، بكونها أداة لتفتيت الثروات، وهذا بدوره يضيع على المجتمع فوائد الإنتاج الكبير!
الإنتاج الكبير
فعند موت الرجل الغني يتنازع ثروته مجموعة من الأفراد، وهم الورثة، فتتفتت الثروة في أيديهم بعدما كانت متجمعة في يد واحدة.والنقد الموجه لذلك، في أن تكدس الثروة يؤدي إلى ما يعرف في الاقتصاد ب ( الإنتاج الكبير).
والمقصود به ضخامة الإنتاج وعظمه، فالثروة العريضة تتمكن من إنتاج مشروعات عملاقة، لا تتمكن منها توزيع الثروة على مجموعة من الأشخاص.
وفضلا عن أهمية المشروعات الكبيرة، فإن ( الإنتاج الكبير) يحقق مجموعة من المزايا الأخرى، أبرزها انخفاض تكاليف الإنتاج. فما مدى صحة اتهام نظرية الإرث بهذه التهمة؟
الإنتاج الكبير لا يخلو من مساوئ
صحيح أن الإنتاج الكبير يحقق مجموعة من المزايا ، لكنها مزايا لمن؟ إنها مزايا لأصحاب المشروع نفسه ، وليس لعموم الناس، ولا حتى المستهلكين.
بل على العكس من ذلك، فإنه يؤدي إلى الإضرار بعموم الناس؛ لأنه سيؤدي بالضرورة إلى احتكار السوق .
فانخفاض التكاليف في الإنتاج الكبير يسمح لأصحاب هذا الإنتاج بخفض الأسعار دون أن يتضرروا، لكنه في الوقت ذاته يؤدي إلى عدم قدرة منافسة أصحاب الإنتاج الصغير لذات المنتج، فلا يستطيعون منافسة الكبار، فيغلقون مشروعاتهم، فينفرد أصحاب الإنتاج الكبير بالسوق، فإذا أصبحوا وحدهم في السوق، عادوا فرفعوا الأسعار كيف شاءوا!
وقد تقرر في الشريعة الإسلامية أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وجاءت نظرية الميراث واحدة من الأدوات التي تكرس المصلحة العامة وتمنع تداول المال بين الأغنياء وحدهم ؛ { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } [الحشر: 7].
تصكيك التركة
كما أنه من الممكن بقاء المشروعات الضخمة بعد موت المورث كما هي، وتوزع التركة على شكل أسهم للورثة، ويبقى المشروع مستمرا كما هو، محافظا على ميزات الإنتاج الكبير من ناحية، ومن ناحية أخرى نكون قد وسعنا من قاعدة المنتفعين من هذه الميزات بتقسيم المشروع على عدد الورثة.
لا تعضية في الميراث
يقول الدكتور رفيق المصري :لئن كان الميراث يفتت الثروات، إلا أنه لا يشترط أن يؤدي هذا إلى تفتيت كل ثروة؛ فقد ورد في بعض الآثار أنه ” لا تعضية في الميراث” أي لا يفرق ما ينشأ عن تفريقه ضرر، فالسيف لا يكسر نصفين، والأرض إذا كان فيها تقسيم إلى حدود غير اقتصادية ، حلت المشكلة عن طريق بيع بعض الورثة إلى بعض، أو عن طريق الشركة بينهم، أو التعاونية . [ أصول الاقتصاد الإسلامي، رفيق المصري ،ص 332 ]
تخارج الورثة
وكان يمكن أن يكون لهذه التهمة أثر صحيح لو كان الإسلام يمنع الورثة من بيع وحداتهم غير الاقتصادية للبعض الآخر، لكن الإسلام لا يمنع ذلك، فيجوز لأصحاب الأنصبة الصغيرة غير الاقتصادية أن يبيعوا وحداتهم لرفقائهم في الميراث من أصحاب الوحدات الاقتصادية.
الشفعة بين الورثة
كما أن الإسلام يفتح باب المشاركات فيما بين الورثة، فإذا أراد أحد أن يبيع نصيبه في التركة، وكان نصيبه في مشروع أو كيان مشترك مع الورثة الآخرين؛ فإن الإسلام يعطي الوارث الشريك حق الشفعة، فيقدمه في الشراء على غيره من الناس حتى لا يتضرر بوجود مشتر غريب، وهذا الحق سار في الأراضي والعقارات والمشروعات المشتركة؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال«قضى رسول الله – ﷺ – بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، وإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به [رواه مسلم، رقم (1608) (3/ 1229) ].
بل ذكر الفقهاء أن الشركات تنقسم إلى قسمين : شركات اختيارية، وشركات جبرية، والشركات الجبرية هي : التي تكون دون إرادة أحد من الشريكين أو الشركاء: كما لو انفتقت الأكياس، واختلط ما فيها مما يعسر – إن لم يتعذر – فصل بعضه عن بعض لتتميز أنصباؤه، كبعض الحبوب، وكالميراث.
الورثة لا يرثون جميعا
مجموع الوارثين من الرجال والنساء خمسة وعشرون فردا، لكنهم إذا اجتمعوا جميعا لن يرث منهم إلا خمسة أصناف فقط، فإذا ماتت الزوجة، فالذي يرث خمسة أصناف فقط من أربعة وعشرين صنفاً، الزوج ، والأبوان، والابن والبنت فقط، والباقون لا يرثون . والمقصود أنه عمليا لا تتوزع التركة إلى عدد كبير من الورثة.
كفاءة المساحات الزراعية الصغيرة
وحتى لو كان عدد الورثة كبيرا، وتمسك كل فرد بحصته، كأن يكون الميت ترك أرضا زراعية تقاسمها التركة حسب الحصص الشرعية، فقد أثبتت دراسات تطبيقية عديدة قام به خبراء اقتصاديون في بلدان مختلفة أن المزارع الصغيرة أكثر كفاءة من المزارع الكبيرة، وأن متوسط إنتاج الوحدة من الأرض ومساحة المزارع مرتبطان ارتباطا عكسيا لا طرديا. [ الإسلام والتحدي الاقتصادي، محمد عمر شابرا ، ص 327 ].
كما نقل عمر شابرا عن البنك الدولي أن ” حيوية وإنتاجية مزارع الأسر الصغيرة في أنحاء العالم أمران يجلبان النظر “.
وتأتي هذه النظريات الغربية لتزيد ثقة المسلمين في عدالة نظامهم الاقتصادي وكفاءته وقوته، وصدق الله القائل : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].