يلزمنا بداية تحديد مفهوم الآخر، والذي يعني اصطلاحا : كل ما يخالف الأنا، سواء أكانت أنا فردية أم جماعية. فالأنا الفردية تعني أن الآخر هو كل ما هو خارجها من أشخاص وإن تفاوتت درجات القربى والبعد معهم. وإذا كانت جماعية، فهناك ذات جماعية تتمثل في الهوية والثقافة المشتركة، ويقابلها آخر جمعي (أو آخرون جمعيون)، وتتمثل في مختلف الهويات والثقافات الأخرى على مختلف درجاتها. وهناك سياقات ومستويات كثيرة تتقاطع مع الأنا سواء كانت فردية أو جماعية، وهي بدورها تنتج عددا كبيرا من صور الآخر، من الصعب أن يجمعها المرء في إطار واحد قابل للتحليل أو التطبيق[1].
فمصطلح الآخر -على إطلاقه – تتنازعه الفردية والجماعية، وفق السياقات التي يرد فيها، فالآخر بالنسبة للشخص الفرد، هو كل من عداه، وبالنسبة للجماعة/ القبيلة، هم الجماعات والقبائل الأخرى، وكذلك بالنسبة إلى الثقافات، هي الثقافات الأخرى، أو الثقافات المغايرة لها، وهذا يعتمد على مجالات التلاقي والتأثير والتأثر بينها. ونفس الأمر، ينطبق على الحضارات، فحضارة الذات هي حضارتنا العربية الإسلامية، أما الحضارات الأخرى فهي المخالفة لنا، والتي لا تعني أننا في حالة مواجهة معها، وإنما تعني أننا وهم مختلفون في تكويننا الحضاري. فـ الحضارة الإسلامية حضارة نص مقدس وهو القرآن الكريم، أما الحضارة اليونانية مثلا، فهي حضارة الفلسفة والعلوم العقلية، فالتكوين مختلف، وبالتالي تكون العلوم والفنون والآداب المنتجة في كلتا الحضارتين. وهذا ما يغيب كثيرا عن بعض مفكري العرب المعاصرين، الذين لا يريدون حوارا حضاريا مع الغرب الأوروبي والأمريكي، وإنما يريدون – في الحقيقة – تقليدا ونقلا كاملا، وما زلنا نرى مساجلات التنويريين العرب (العلمانيين بتياراتهم)، ضد المفكرين الإسلاميين، تنحصر في أهمية تحجيم الإسلام شريعة وثقافة وعلوما، وهو مفهوم العلمانية الجزئية، ومن ثم الانفتاح (الاستيراد) الواسع للثقافة الغربية لنكون قرناء لهم.
فمن أبرز المزالق في أي حوار حضاري، أن يبدأ المتحاورون بالتخلي عن الهوية الثقافية والحضارية، إرضاء للحضارة الأخرى المتقدمة، على نحو ما يفعل بعض العلمانيين العرب، عندما يفهمون الحضارة على أنها نقل النموذج الأوروبي لنا، والاقتداء به، والبحث في ثقافتنا عما يشبهه. وهذا خطأ بيّن، فالمعلوم أن حضارتنا الإسلامية لها بناؤها المتميز علميا، وهو بناء أساسه إتقان العلوم الشرعية واللغوية والتاريخية والفكرية، ثم التعاطي الإيجابي مع العلوم الأخرى، خاصة الفلسفة، عندما اطلعوا على حضارة اليونانيين وفلسفاتهم، وأنه لا تعارض بين علوم الشريعة وتعلم الفلسفة بداية. ومن المعلوم أن علماء الشريعة من جهة العدد فاقوا عدد المشتغلين بالفلسفة، بل إن غالبية من اشتغلوا بالفلسفة قديما، كانوا علماء متميزين في الشريعة. فقد كانوا أشبه بالبنائين، الذين وضعوا أسسا لجميع العلوم الإنسانية وحتى التطبيقية طوال مسيرة الحضارة الإسلامية، وكذلك على صعيد التربية والتعليم والجهاد والمال والوقف والمشاركة في الحكم، وهو تأثير امتد لقرون طويلة [2] .
على جانب آخر، فإن المسلمين تعرفوا قديما على الحضارات والثقافات والمدنيات المغايرة، مثل الحضارات السابقة عنهم: الفارسية، اليونانية، أو الحضارات المعاصرة مثل :الحضارتين الهندية والصينية، أو الثقافات الحديثة مثل الثقافة الغربية أو الثقافات في دول الشرق الأقصى أو ثقافة شعوب أفريقيا والأقليات في العالم الإسلامي، فلا وجود لما يسمى الانغلاق تاريخيا.
فمع فتح الشام عام 17 هـ، ومصر عام 20 هـ، انفتح أمام المسلمين حضارة اليونان والرومان، وعلومهم، وهو ما استفادوا منه لاحقا، وفي العام 21هـ، فتحت العراق وفارس، وسقطت الحضارة الفارسية، ليرثها المسلمون، ثم انفتحوا على أوروبا (المتخلفة حضاريا) وقتئذ، بعد فتح الأندلس عام 93هـ، فعرف المسلمون ثقافة أوروبا وشعوبها، ووصلوا لغرب فرنسا، وجنوب إيطاليا، وسيطروا على جزر البحر المتوسط، والتي كانت مراكز حضارية لاحقة[3]، وهذا يعني أن حضارة الإسلام بتوسطها الجغرافي للعالم، استفادت حضاريا من الحضارات السابقة عليها، والمعاصرة لها، دون مدافعة أو مقاتلة أو احتلال عسكري، فكان التواصل الحضاري عنوان انفتاح المسلمين.
وقد بدأ التفاعل العربي مع الحضارات الأخرى منذ بداية الفتوحات الإسلامية، حيث تسارعت حركة الترجمة بشكل كبير، على يد أبناء الأقطار المفتوحة، الذين شكلوا همزة وصل مع الحضارة العربية التي كانت لا تزال في مهدها، فقد أتقن عدد من المسيحيين اللغة العربية في مصر والشام والعراق، وشرعوا يترجمون إليها مخطوطات وكتب عن اللغة السريانية، وعمل النساطرة واليعاقبة على ترجمة الطب إلى العربية، ومن أبرز هؤلاء المترجمين: يوحنا بن سرابيون النصراني السرياني، وعلي بن سهل بن رابان الطبري، وقد كان نصرانيا وأسلم، وذلك في القرن الثالث الهجري [4].
وهذا له دلالة كبيرة، في حق الحضارة الإسلامية، التي ساهم في بنائها أهل الكتاب والديانات الأخرى، مما يدحض أي شبهات نحو العداء للآخر، أو محاربة العلم القديم.
واستمرت حركة الترجمة إلى العربية، من بوابات متعددة، فتعرف العرب أولا على التراث اليوناني من الكتب الهندية، ومن ثم قاموا بترجمته مباشرة من مكتبات جزيرة “قبرص” في عهد الخليفة المأمون، وصول مجموعة من الكتب الإغريقية من مكتبات القسطنطينية. بجانب مواصلة ترجمة أبرز كتب الحضارة الهندية، وتحولت بغداد إلى بوتقة للحضارات، فيما أسماه عدد من المؤرخين: إسكندرية جديدة، حيث أنشأ المأمون بيت الحكمة، التي بلغت قمة نشاطها في عهده، وقد أوقفت مبالغ ضخمة على حركة الترجمة، وعمل فيها عدد كبير من النقلة عن اللغة اليونانية والسريانية والفارسية، وكذلك الهندية والقبطية. وقد كان الخليفة المأمون بليغا في خطبه، عظيم المعرفة في الطب، حتى شبهه أحد العلماء بأنه مثل جالينوس، وكان دأبه أن يطلب من المغلوبين الرومان المخطوطات الإغريقية في مقابل معاهدات السلام أو الإفراج عن الأسرى [5]، ومن هنا بدأت حركة مثاقفة واسعة مع حضارات العالم وقتئذ.
ذلك الأمر الذي جعل الحضارة الإسلامية العربية مستوعبة لثقافات متعددة، لأمم مختلفة، و لكل ثقافة منها أعلام مميزون، وقد عملوا مستقلين، وفق جدول خاص بكل ثقافة، ثم ما لبثت أن بدأت تلتقي مكونة نهرا عظيما، فيه امتزاج وتزاوج وتوليد، وكتبت بعد ذلك باللغة العربية بعدما انكب علماء الأمم الأخرى على اللغة العربية فأتقنوها، وصاغوا مؤلفاتهم بها[6]، وحافظت بذلك الحضارة الإسلامية على علوم الأمم الأخرى، وأضافت عليها وأبدعت.
لقد قدمت الحضارة الإسلامية نفسها إلى العالم- في العصر الوسيط-، من خلال هويتها الخاصة التي أنشأتها، عبر تمييز نفسها عن المجتمعات الهمجية التي كانت موجودة في أنحاء شتى من العالم القديم، ممثلة في قبائل وسط أفريقيا وغاباتها، أو قبائل وسط آسيا البدوية الهمجية، مثل التتار ومن شابههم. فقدم المسلمون حضارتهم بوصفها حضارة مدنية ومثقفة ومهذبة، لها نظرتها العالمية الواضحة، والتي يُعبَّر عنها بأنها دينية الطابع، ولها نظام امبراطوري له حدوده السياسية الواسعة الممتدة في القارات الثلاث، ولها بنيتها العسكرية والسياسية والاقتصادية المتناسقة مع تكوينها. ودخلت في منافسة مع الحضارة الأوروبية، ولكن لم يكن لديها نزعة توسعية استعمارية مدمرة [7] .
وهي على العكس من الحضارة الأوروبية التي أرادت معرفة الآخرين (المجتمعات والدول والثقافات) بناء على نزعتها التوسعية، وقيمها الأساسية التي تقوم على العلوم والتجارة، ونظرت إلى العالم الخارجي على أساس وجود منافسين لها، مثل الصين والعثمانيين، وباختصار فإن الحضارة الغربية مبنية على المصلحة الخاصة النفعية، والتفاني من أجلها ومن أجل المعرفة فقط، وليس من أجل رسالة حضارية قيمية سامية، وللأسف فإن النموذج الأوروبي هو النموذج العالمي السائد الآن، بكل نفعيته وماديته [8]، وتسير وراءه الثقافات والحضارات الأخرى، مما يفسح المجال للحضارة الإسلامية كي تقدم رسالتها الخيرية العالمية، وتصحح المفاهيم عنها، وعن الإسلام الدين والثقافة والحضارة.
و هو ما يشهد به ” فوكوياما “، عندما قال إن الإسلام يشكّل إيديولوجيا متسقة ومتماسكة شأن الليبرالية والشيوعية وأن له معاييره الأخلاقية الخاصة به، ونظريته المتصلة بالعدالة السياسية الاجتماعية، كذلك فإن للإسلام جاذبية يمكن أن تكون عالمية، داعيًا إليه البشر لا مجرد أعضاء في جماعة عرقية أو قومية معينة…” [9].
وهي شهادة نادرة في حق الإسلام، بوصفه إيديولوجيا وفكر، وعقيدة وأخلاق، وشريعة وهدي، فقد وضع يده على أبرز ما يميز الإسلام، فهو منظومة أخلاقية متكاملة، نابعة من دين وإيمان، من يؤمن بها ويتحلى بأخلاقها فهو مثاب عند الله، فللإسلام جاذبية خاصة، وله القدرة الكبيرة على الانتشار السريع في العالم، فكما هو ثابت في إحصائيات كثيرة، أن الإسلام كديانة هو الأسرع انتشارا في العالم، فقد فادت دراسة لمركز أبحاث “بيو” الأمريكي بأن الإسلام هو الديانة الأسرع انتشارا حاليا في العالم، وقدرت الدراسة أن يزيد عدد المسلمين بين عامي 2010 و2050 بنسبة 73%، ويتبعهم المسيحيون بزيادة 35%، والهندوس بنسبة 34%،متوقعة أن يتجاوز الإسلام المسيحية ليصبح الديانة الأكثر انتشارا بحلول نهاية القرن[10].
إن الحضارة الإسلامية قامت في الماضي- وستقوم في الحاضر والمستقبل أيضا – على أساس قيمي مفاده: تقدير فعالية الإنسان والمجتمع والأمة، وعلى الاعتراف بالآخر والتواصل معه، دون النظر إلى جنسه أو عرقه أو لونه أو لغته أو حتى دينه، والتجربة التاريخية الإسلامية تثبت أن الحكم الإسلامي على امتداد حقب التاريخ حافظ على خصوصيات الشعوب التي حكمها، وأنها قدمت نموذجا باهرا لحوار وتعايش الثقافات والأمم والحضارات، وبناء على ذلك، لابد من العمل على إيجاد أرضية مشتركة مع الحضارات الأخرى قاعدتها الحوار الإيجابي والتعايش والتلاقي البنّاء، ومنع كافة أشكال الصراع والهيمنة، ورفض تدنيس القيم الأخلاقية والدينية وانتهاك المحرمات والمقدسات، واحترام القيم الخاصة لكل ثقافة، مع القبول الفعلي للتنوع الثقافي[11]، لأن الأمر مرتبط بالنبع الأساسي لها وهو الإسلام الدين.
وهذا ما يجعلنا نقف على أرض صلبة، ونرى أن المستقبل يحمل للحضارة الإسلامية العربية خيرا كثيرا، فمهما تكاثروا ضدها، فإنها تسير، وتبني نهضتها الجديدة، ليس على أساس النفعية، وإنما على أساس القيم.
[1] الأنا والآخر وهدم النمطية، د. محمد فايز الطراونة، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مج27، العدد 3، يناير / مارس 1999م، ص282.
[2] علماء الشريعة وبناء الحضارة : دراسة فكرية تاريخية لإبراز آثار العلماء ومآثرهم الحضارية، د. عبد الله بن إبراهيم الطريقي، دار المسلم للطبع والنشر، الرياض، 1418هـ، ص453 – 455.
[3] الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة : حسن إبراهيم حسن، وعبد المجيد عابدين، إسماعيل النحراوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1947م، ص135.
[4] المنجز العربي الإسلامي في الترجمة وحوار الثقافات، د. أحمد عتمان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013م، ص77.
[5] المرجع السابق، ص127، 128.
[6] المرجع السابق، ص139 – 141.
[7] الحضارة ومضامينها، بروس مازليش، ترجمة : د. عبد النور خرافي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2014م، ص120.
[8] السابق، ص116.
[9] نهاية التاريخ وخاتم البشر، فرانسيس فوكوياما،، ترجمة حسين أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1993م، ص 56.
[10] دراسة لـ”بيو”: الإسلام الديانة الأسرع انتشارا في العالم، تقرير لموقع CNN العربية، 16/3 / 2017م.
[11] حوار الحضارات، ندوة، مجلة الأمن والحياة، منشورات جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، العدد 376، أغسطس 2013م، ص15. مداخلة د. عبد الله العشي.